لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والاستراتيجيا. ولا بدّ أيضاً النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحّص الصيرورة التاريخية لحركة اليسار العربي، وأهم المفاصل والمحطات التي مرّ بها ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية.
إن نظرة تقويمية لحركة اليسار العربي، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية. بجناحيها الشيوعي والماركسي القومي، خاصة وأن كثيراً من القراءات لتجارب هذه الأحزاب باتت تسلّم بإخفاقها عن استيعاب ووعي حركة الواقع، وبالتالي فشلها في تغييره. كذلك لا نستطيع التحدث عن يسار عربي دون أخذ واقع التجزئة بعين الاعتبار، فعدم إنجاز مسألة الوحدة العربية كرّس الواقع القطري، الذي أفرز بدوره قوى يسارية قطرية طرحت على نفسها برامج ومهمات على مستوى قطري، أما الأحزاب اليسارية ذات التوجّهات العربية القومية فقد وجدت نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا القومية، وانحصر جهدها في المستوى النظري، حول إشكاليات القومية والأمة ,والعروبة, والتجزئة ,والوحدة، وقد كُتب الكثير حول هذه القضايا من قبل مفكرين عرب يساريين، وقوى وأحزاب، لكن على الصعيد العملي تعمّق واقع التجزئة، وتبخّر حلم الوحدة، وتمزقت الهوية القومية إلى هويات جهوية مجزّأة، ولم تُنجز مهام التنمية والتحرر من التبعية للسوق الإمبريالية، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية التي عمّقت الفوارق الطبقية في المجتمعات العربية، وانتشرت البطالة وتراجع مستوى التعليم والثقافة.... الخ, بمعنى آخر تجلّت أزمة اليسار العربي الذي ورث الأهداف التي طرحها " رواد عصر النهضة " في عجزه عن إنجاز أيّ من هذه المهام. لقد طرح رواد عصر النهضة العربية من خلال احتكاكهم في أوروبا وتمثّل تجربتها ضرورة إجراء تحولات في الواقع العربي, تقوم على تحقيق التصنيع كأساس لتأسيس النمط الرأسمالي الذي يعني تدمير البنى الاجتماعية المتخلفة ( الإقطاع ), وهذا يعني بدوره تمثّل الفكر الذي تبلور مع نشوء الرأسمالية أعني فكر العقلانية القومية, والديمقراطية, والعلمانية، وعلى هذا الأساس أصبحت مهام التوحيد القومي والتحديث الفكري مهمات جوهرية، لهذا احتلت مسائل فصل الدين عن الدولة، وتأسيس الوعي القومي، وشكل النظام السياسي مسائل أساسية داعبت أحلام النهضويين العرب، وبدأت ملامح هذه المسألة تظهر مع محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر، لكن هذا المشروع هُزم نتيجة تحوّل الرأسمالية العالمية إلى إمبريالية، وبذلك قُطع الطريق على الصيرورة الطبيعية لنمو بلداننا، مما ادخل مشروع التطور الرأسمالي في أزمة استمرت حتى أواسط القرن العشرين, حيث أصبحت الفئات الوسطى (الريفية بشكل خاص) أساس عملية التحويل التي طالت تدمير البنى القديمة ( الإقطاع ) وأسست لمحاولة بناء الصناعة كأساس للتحويل في إطار مشروع قومي يهدف إلى الوحدة العربية.
لكن تداخل مصالح الرأسمالية العالمية وتسابقها على نهب الدول المستَعمرة ومنها بلداننا العربية ذات البنى المتخلفة، أوقع البرجوازية العربية في عجز منعها من إنجاز مهام التصنيع, التي استطاعت الرأسمالية في أوروبا إنجازها عبر تدمير البنى القديمة، والنتيجة كانت عدم تحقيق أحلام النهضة، وعجز البرجوازية عن إنجاز التصنيع الذي أدّى إلى تحوّلها إلى قطّاع التجارة والخدمات والمال والمرافق الاستهلاكية وابتعادها عن الصناعة، وهذا ما انعكس على مستوى الوعي, والممارسة السياسية في تكريس الأزمات العميقة، ممّا دفع بالفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة بعد تفاقم التناقضات إلى استخدام الجيش (المؤسسة المستقرة الوحيدة) كأداة انقلابية للوصول إلى السلطة في العديد من البلدان العربية, لكن هذا الخيار انقلب على أصحابه مع تطور التناقضات وانتشار الأوهام والوعي الزائف، وهذا ما دفع القوى الماركسية التي تبنّت فكرة المشروع النهضوي في الثلاثينات, وخاصة في المشرق إلى أن تتراجع عن مقولاتها حول الوحدة القومية والاستقلال وآليات التطور، والتنمية التي تضرب علاقة التبعية مع السوق الإمبريالية.
وكان عام 1937 هو عام القطيعة مع هذه المهمات، ومع تفاقم إشكاليات الواقع بدأت القوى الماركسية اليسارية تتبنى مقولات الماركسية السوفيتية التي نتجت عن "الكومنترن"، ومنها الموقف من قرار التقسيم عام 1947 الذي ترك ردود أفعال سلبية كثيرة في الأوساط الشعبية, والسياسية العربية ,والفلسطينية تجاه موافقة الحركة الشيوعية على قرار التقسيم، وأذكر في هذا السياق الحوارات الساخنة التي كنا نخوضها مع الشيوعيين في أوساط الجامعة الأمريكية في بيروت التي كنت طالباً فيها في تلك الفترة. هذا الأمر خلّف شرخاً عميقاً في علاقات قوى اليسار وبشكل خاص بين الشيوعيين والقوميين, كان لها تداعيات سلبية كثيرة وكذلك كانت مقولة التطور اللارأسمالي ـ فيما بعد ـ التي راجت كثيراً في واقعنا في فترة من الفترات، موضع خلاف لأنها جعلت القوى اليسارية ملحقة بالسلطات البرجوازية الهجينة الحاكمة في العديد من البلدان العربية، حيث بدأت الدول العربية المستقلة حديثاً عن الاستعمار في الخمسينات تتطور كل منها حسب ظروفها الخاصة، وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها، التي وجدت مصالحها تكمن في تكريس مشاريع سياسية واقتصادية تخدم الطبقة السياسية الحاكمة الحديثة، أكثر من خدمتها لتحولات اقتصادية ,واجتماعية جذرية على المستوى الوطني والقومي، وهذا الأمر ترجم نفسه بالإثراء السريع للطبقة السياسية التي استفادت من نفوذها في الحكم حيث انتشر الفساد، والمحسوبيات التي وسمت تلك المرحلة في معظم البلدان العربية، وهذا ما نعنيه بتكريس واقع التجزئة من الناحية العملية , لأن التطور بات يجري وفق صيرورات قطرية ضيقة، بمعزل عن المصالح القومية العليا للأمة العربية، مما عمّق الشرخ والحدود الفاصلة بين البلدان والشعوب العربية... وصولاً إلى المرحلة المتردية التي تعيشها المنطقة العربية الآن، بعد احتلال العراق وتفاقم الأوضاع في فلسطين، والتهديدات العسكرية الأمريكية المباشرة للبلدان العربية التي أعادت المنطقة إلى مرحلة الاستعمار.
إن شمولية الموضوع، وتعقيداته تحتاج بالتأكيد إلى دراسات تحليلية معمقة في الفكر السياسي اليساري العربي وتجاربه، للإجابة على هذه الأسئلة المتشعّبة، إذ من الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا الموضوع الشائك حول دور اليسار العربي من خلال مقالة كهذه، مع ذلك سنحاول قدر الإمكان مقاربة الموضوع بتكثيف تصوّر شامل للمسألة بأبعادها الداخلية والخارجية.
إن مسألة وعي الواقع كإشكالية، تفرض علينا مناقشة الرؤية، أو الرؤى التي استند إليها اليسار العربي، وتفحّص مشكلاتها، ليس على المستوى النظري فحسب، وإنما على مستوى القضايا العملية التي طرحها الواقع ذاته، والمهمات والبرامج التي انبثقت عن هذه القضايا، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها، وأعني هنا مسائل القومية : الاستقلال , التجزئة، التحرر، الوحدة، التنمية وأفق التطور الاقتصادي, والاجتماعي العربي، والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وخاصة في فلسطين والعراق، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره.. مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة، التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة، والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب، إلى مسألة تحصين البلدان العربية ضد التهديدات الخارجية المحتملة من خلال الإصلاح الداخلي الذي يستدعي أوسع صيغ التحالف الوطني العريض، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي الفاعل، الذي يعني ضمناً إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل، بعد أن غُيّب طويلاً.
السؤال الذي يطرح نفسه دوماً في هذا السياق : لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع ؟! ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ؟! ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ؟!
أعتقد أن أهم المشكلات التي أدّت باليسار العربي إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية... وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته. وذلك على اعتبار أن هذه الأحزاب قد حققت في حينه بعض الانتصارات والتحوّلات في بلدانها، ثم تبيّن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أن هناك ضرورة لإعادة النظر في كل التجربة الاشتراكية ودراستها، خاصة وأن أصوات كثيرة تعالت بعد ذلك معلنة " موت الماركسية ". لكن السؤال : أية ماركسية هي التي ماتت... هل هي ماركسية ماركس وانجلز ؟! أم الماركسية ـ اللينينية ؟! أم الماركسية الستالينية التي تعبّر عن الحقبة السوفيتية ؟! وما هي العلاقة بين الأنظمة الشيوعية التي تداعت وبين فكر ماركس ؟!
إن السمات السلبية التي رافقت تجربة البلدان الاشتراكية، لم تنجُ منها أيضاً بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية التي لم تصل إلى السلطة، بما في ذلك الأحزاب اليسارية العربية, وبالتالي بات من المشروع السؤال عن علاقة هذه السلبيات التي طبعت الأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً بطابعها , وبين التراث النظري الماركسي باعتباره مرجعية تلك الأحزاب.
لقد سال الكثير من الحبر في نقاش تلك الأسئلة المحورية ,وقد اختلف المفكرون الماركسيون واليساريون عموماً حول تقييم هذه المسألة، ومن جهتي, يهمني التأكيد في هذا السياق : إن انهيار الأنظمة الشيوعية التي كانت نتاج النظام الستاليني الشمولي، لا يعني أن البديل هو الديموقراطية البرجوازية أو الليبرالية الجديدة كما يدعو البعض، بل إنَّ البديل الحقيقي هو الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس الديموقراطية السياسية فحسب، بل الديموقراطية بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما كانت تفتقده تجارب بلدان المنظومة الاشتراكية. إن الديموقراطية الغربية أو الليبرالية الجديدة، ستظل خادعة طالما أنها لم تتحْ حيزاً واسعاً للاعتراف بالمنتجين كفاعلين سياسيين على مستوى الرقابة والقرار، وبالتالي سوف تظل ديمقراطيتها ناقصة وشكلية.
إن تطور العولمة في صيغتها الأكثر وحشية " الأمركة " خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي الجديد على مستوى العالم... وقد بدأت حركة العولمة البديلة التي تضم في داخلها على المستوى العالمي أطيافاً واسعة من القوى والأحزاب اليسارية, وحركة أنصار البيئة, وهيئات المجتمع المدني، تناضل بأشكال مختلفة من أجل بلورة صيغ فاعلة للمواجهة، لكن للأسف، لا تزال القوى الاجتماعية والحركات السياسية وهيئات المجتمع المدني في بلداننا العربية عاجزة أيضاً عن الانخراط في الحركة العالمية المناهضة للعولمة والأمركة.. لأنها لا تزال جنينية وغير متبلورة بشكلٍ كافٍ لتقوم بالجهد المنوط بها في سياسة هذه الحركة العالمية.
اليسار والوحدة العربية
شغلت قضية فلسطين والوحدة العربية حيّزاً هاماً من اهتمامات الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن), والحركة الشيوعية المحلية منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، وإذا عدنا إلى الوثائق الصادرة عن كونفرنس مشترك جرى بين الحزبين الشيوعيين السوري والفلسطيني عام 1931، وخاصة الوثيقة التي نُشرت بعنوان " مهمات الشيوعيين في الحركة القومية العربية " سوف نذهل لمدى مقاربة التحليل الماركسي الثوري الذي تنطوي عليه هذه الوثائق، لنبض الشارع العربي آنذاك، رغم بعض الأخطاء في تشخيص (طبيعة الحركة والطبقات الاجتماعية) " لقد اتخذت الأحزاب الشيوعية في فلسطين وسورية ومصر، سنة 1929 وبعدها بناءً على توجيهات الكومنترن وتحت قيادته، موقفاً واضحاً لا لبس فيه ولا تحايل، في النقطة الجوهرية : تأييد الحركة القومية الرامية إلى الاستقلال والوحدة القومية ـ المعادية للإمبريالية ـ ضد الحركة الصهيونية.. الحليفة المتقدمة للقوى الإمبريالية وأداتها في المنطقة العربية ".
لقد ميّز لينين تمييزاً صارماً بين القومية المظلومة والقومية الظالمة، وفرض على الأحزاب الشيوعية في أوروبا تأييد الأولى وشجب الثانية... وقد أكدّت أدبيات تلك المرحلة " أن الوحدة العربية وقضية فلسطين هما قضيتان من قضايا النضال العالمي المناهضة للإمبريالية، من قضايا الثورة الاشتراكية في العالم. أنهما القضيتان النوعيتان للنضال المناهض للإمبريالية في الوطن العربي، وقد درج الماركسيون على القول أنهما فرع من الكل.
".... إن هذا الموقف الواضح من قضيتي فلسطين والوحدة العربية، هو تجلٍّ للعلاقة بين الخاص والعام بين قضيتي الوحدة وفلسطين والنضال العنيد ضد الإمبريالية العالمية, الذي تجسّد بشكل خاص في واقع الفترة التي تبنّت فيها الحركة الشيوعية العالمية والمحلية قضية الوحدة وفلسطين بشكلٍ لا لبس فيه، لأن تلك الفترة كانت فترة صدام كبير بين الاتحاد السوفيتي, والأممية الشيوعية من جهة, وبين العالم الرأسمالي الإمبريالي في ظرف الأزمة الاقتصادية العالمية وبناء الاشتراكية السريع في الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى.
ولقد تغيّر هذا الموقف مع تطور الأحداث و تغيّر الظروف، إذ بدأت الأحزاب الشيوعية تغيّر مواقفها هذه كانعكاس لتغيير مواقف الكومنترن، من هذه القضايا، رغم أن الإمبرياليات العالمية قد عملت بشكل حثيث على تمزيق الجسد الحي للشعوب العربية، وأبقت الدول العربية في حالة من التجزؤ الإقطاعي، وحرمت هذه البلدان من مقومات التقدم والنمو الاقتصادي والسياسي المستقل، وكذلك عملت على تجميد ديناميات التوحيد القومي السياسي وخلق الحدود للبلاد العربية، وساعدت على زرع الكيان الصهيوني في فلسطين قلب الوطن العربي، وهكذا تحوّلت البلدان العربية حتى بعد استقلال بعضها إلى ملحقات دولُ المتروبول، دولاً مستقلة شكلياً إلا أنها تابعة للسوق الإمبريالية من الناحية الفعلية ( زراعية ومنتجة للمواد الخام )، وهذا ما أفضى إلى بطء تشكّل طبقات المجتمع الرأسمالي ونمو عناصر السيادة القومية التي راحت تنمو بشكل عشوائي وغير منتظم، وهذا ما سهّل التحالف بين الإمبريالية التي كانت تعمل على تأمين مصالحها ونهب شعوبنا، وبين القوى الإقطاعية الرجعية العربية و الكومبرادورية التي سيطرت على السلطات في البلدان العربية, وجعلتها قواعد لسياسة الاغتصاب الإمبريالية العدوانية.
هذا الوضع خلق نقيضه فيما بعد، مع عملية المد العربي التحرري، وبدأت الطبقة العاملة الناشئة حديثاً وأحزابها ونقاباتها بالإضافة إلى حركة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة تلعب دوراً فاعلاً في هذه العملية التحررية وقادت الأحزاب اليسارية بجناحيها الشيوعي والقومي الماركسي, بالإضافة إلى قوى اليسار الأخرى هذه العملية، التي انضوى بعضها ضمن أحزاب الاشتراكية الدولية، ومن هنا صار علينا أن نميّز ما بين أجنحة قوى اليسار, وأدوارها حسب الأحداث, والمراحل التاريخية التي مرت بها، وبين القوى اليسارية الأكثر راديكالية والتي تبنّت مواقف وسياسات أكثر استقلالية، لكن هذه القوى ظلت أيضاً عاجزة عن تحويل برامجها إلى إنجازات فعلية على أرض الواقع, وعاشت بالتالي أزمة من نوع جديد هي أزمة عدم القدرة على الفعل في الواقع...
وعلى المستوى الفلسطيني تعتبر حركة فتح بهذا المعنى ضمن اليسار الاشتراكي الدولي... وكذلك حزب العمل الإسرائيلي، ومن المعروف أن الاشتراكية الدولية وأحزابها لا تختلف في الغرب عن البرجوازيات الحاكمة إلا ببعض البرامج الاجتماعية الإصلاحية، وهي تضم طيفاً واسعاً من القوى غير المتجانسة... ومن هنا لا يمكن أن ننظر لليسار الإسرائيلي إلا باعتباره يساراً صهيونياً معادياً لمصالحنا الوطنية والقومية، عمل على تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين طوال العقود الماضية، كذلك نجد أنفسنا على خلاف مع الكثير من أطروحات يسار فتح أبو عمار الذي ينضوي أيضاً ضمن حركة الاشتراكية الدولية، ويجسّد عملياً مصالح الفئات البرجوازية الفلسطينية التي استفادت بعد أوسلو من السلطة وحوّلتها إلى أداة للفساد, و المحسوبيات, والإثراء السريع وغير المشروع للفئات المستفيدة منها على حساب مصالح شعبنا الذي يواجه أعتى أشكال الاحتلال التي أفرزها عالمنا المعاصر، وهو الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الذي يريد أن ينفي شعباً بأكمله ويحل مكانه على أرضه وثرواته وتاريخه..
وإذا عدنا إلى نقطة البدء، نرى أن إشكاليات الواقع... تقتضي على ضوء المنهجية الجدلية التاريخية إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلاً معمقاً للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج, وهذا يقتضي من اليسار العربي والفلسطيني مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع.. على مستوى الإستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة.
المطلوب فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجدداً... ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً فتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية : الماركسية, والقومية, والإسلامية المتنورة، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الإستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.
وكان عام 1937 هو عام القطيعة مع هذه المهمات، ومع تفاقم إشكاليات الواقع بدأت القوى الماركسية اليسارية تتبنى مقولات الماركسية السوفيتية التي نتجت عن "الكومنترن"، ومنها الموقف من قرار التقسيم عام 1947 الذي ترك ردود أفعال سلبية كثيرة في الأوساط الشعبية, والسياسية العربية ,والفلسطينية تجاه موافقة الحركة الشيوعية على قرار التقسيم، وأذكر في هذا السياق الحوارات الساخنة التي كنا نخوضها مع الشيوعيين في أوساط الجامعة الأمريكية في بيروت التي كنت طالباً فيها في تلك الفترة. هذا الأمر خلّف شرخاً عميقاً في علاقات قوى اليسار وبشكل خاص بين الشيوعيين والقوميين, كان لها تداعيات سلبية كثيرة وكذلك كانت مقولة التطور اللارأسمالي ـ فيما بعد ـ التي راجت كثيراً في واقعنا في فترة من الفترات، موضع خلاف لأنها جعلت القوى اليسارية ملحقة بالسلطات البرجوازية الهجينة الحاكمة في العديد من البلدان العربية، حيث بدأت الدول العربية المستقلة حديثاً عن الاستعمار في الخمسينات تتطور كل منها حسب ظروفها الخاصة، وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها، التي وجدت مصالحها تكمن في تكريس مشاريع سياسية واقتصادية تخدم الطبقة السياسية الحاكمة الحديثة، أكثر من خدمتها لتحولات اقتصادية ,واجتماعية جذرية على المستوى الوطني والقومي، وهذا الأمر ترجم نفسه بالإثراء السريع للطبقة السياسية التي استفادت من نفوذها في الحكم حيث انتشر الفساد، والمحسوبيات التي وسمت تلك المرحلة في معظم البلدان العربية، وهذا ما نعنيه بتكريس واقع التجزئة من الناحية العملية , لأن التطور بات يجري وفق صيرورات قطرية ضيقة، بمعزل عن المصالح القومية العليا للأمة العربية، مما عمّق الشرخ والحدود الفاصلة بين البلدان والشعوب العربية... وصولاً إلى المرحلة المتردية التي تعيشها المنطقة العربية الآن، بعد احتلال العراق وتفاقم الأوضاع في فلسطين، والتهديدات العسكرية الأمريكية المباشرة للبلدان العربية التي أعادت المنطقة إلى مرحلة الاستعمار.
إن شمولية الموضوع، وتعقيداته تحتاج بالتأكيد إلى دراسات تحليلية معمقة في الفكر السياسي اليساري العربي وتجاربه، للإجابة على هذه الأسئلة المتشعّبة، إذ من الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا الموضوع الشائك حول دور اليسار العربي من خلال مقالة كهذه، مع ذلك سنحاول قدر الإمكان مقاربة الموضوع بتكثيف تصوّر شامل للمسألة بأبعادها الداخلية والخارجية.
إن مسألة وعي الواقع كإشكالية، تفرض علينا مناقشة الرؤية، أو الرؤى التي استند إليها اليسار العربي، وتفحّص مشكلاتها، ليس على المستوى النظري فحسب، وإنما على مستوى القضايا العملية التي طرحها الواقع ذاته، والمهمات والبرامج التي انبثقت عن هذه القضايا، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها، وأعني هنا مسائل القومية : الاستقلال , التجزئة، التحرر، الوحدة، التنمية وأفق التطور الاقتصادي, والاجتماعي العربي، والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وخاصة في فلسطين والعراق، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره.. مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة، التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة، والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب، إلى مسألة تحصين البلدان العربية ضد التهديدات الخارجية المحتملة من خلال الإصلاح الداخلي الذي يستدعي أوسع صيغ التحالف الوطني العريض، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي الفاعل، الذي يعني ضمناً إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل، بعد أن غُيّب طويلاً.
السؤال الذي يطرح نفسه دوماً في هذا السياق : لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع ؟! ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ؟! ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ؟!
أعتقد أن أهم المشكلات التي أدّت باليسار العربي إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية... وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته. وذلك على اعتبار أن هذه الأحزاب قد حققت في حينه بعض الانتصارات والتحوّلات في بلدانها، ثم تبيّن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، أن هناك ضرورة لإعادة النظر في كل التجربة الاشتراكية ودراستها، خاصة وأن أصوات كثيرة تعالت بعد ذلك معلنة " موت الماركسية ". لكن السؤال : أية ماركسية هي التي ماتت... هل هي ماركسية ماركس وانجلز ؟! أم الماركسية ـ اللينينية ؟! أم الماركسية الستالينية التي تعبّر عن الحقبة السوفيتية ؟! وما هي العلاقة بين الأنظمة الشيوعية التي تداعت وبين فكر ماركس ؟!
إن السمات السلبية التي رافقت تجربة البلدان الاشتراكية، لم تنجُ منها أيضاً بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية التي لم تصل إلى السلطة، بما في ذلك الأحزاب اليسارية العربية, وبالتالي بات من المشروع السؤال عن علاقة هذه السلبيات التي طبعت الأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً بطابعها , وبين التراث النظري الماركسي باعتباره مرجعية تلك الأحزاب.
لقد سال الكثير من الحبر في نقاش تلك الأسئلة المحورية ,وقد اختلف المفكرون الماركسيون واليساريون عموماً حول تقييم هذه المسألة، ومن جهتي, يهمني التأكيد في هذا السياق : إن انهيار الأنظمة الشيوعية التي كانت نتاج النظام الستاليني الشمولي، لا يعني أن البديل هو الديموقراطية البرجوازية أو الليبرالية الجديدة كما يدعو البعض، بل إنَّ البديل الحقيقي هو الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس الديموقراطية السياسية فحسب، بل الديموقراطية بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما كانت تفتقده تجارب بلدان المنظومة الاشتراكية. إن الديموقراطية الغربية أو الليبرالية الجديدة، ستظل خادعة طالما أنها لم تتحْ حيزاً واسعاً للاعتراف بالمنتجين كفاعلين سياسيين على مستوى الرقابة والقرار، وبالتالي سوف تظل ديمقراطيتها ناقصة وشكلية.
إن تطور العولمة في صيغتها الأكثر وحشية " الأمركة " خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي الجديد على مستوى العالم... وقد بدأت حركة العولمة البديلة التي تضم في داخلها على المستوى العالمي أطيافاً واسعة من القوى والأحزاب اليسارية, وحركة أنصار البيئة, وهيئات المجتمع المدني، تناضل بأشكال مختلفة من أجل بلورة صيغ فاعلة للمواجهة، لكن للأسف، لا تزال القوى الاجتماعية والحركات السياسية وهيئات المجتمع المدني في بلداننا العربية عاجزة أيضاً عن الانخراط في الحركة العالمية المناهضة للعولمة والأمركة.. لأنها لا تزال جنينية وغير متبلورة بشكلٍ كافٍ لتقوم بالجهد المنوط بها في سياسة هذه الحركة العالمية.
اليسار والوحدة العربية
شغلت قضية فلسطين والوحدة العربية حيّزاً هاماً من اهتمامات الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن), والحركة الشيوعية المحلية منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، وإذا عدنا إلى الوثائق الصادرة عن كونفرنس مشترك جرى بين الحزبين الشيوعيين السوري والفلسطيني عام 1931، وخاصة الوثيقة التي نُشرت بعنوان " مهمات الشيوعيين في الحركة القومية العربية " سوف نذهل لمدى مقاربة التحليل الماركسي الثوري الذي تنطوي عليه هذه الوثائق، لنبض الشارع العربي آنذاك، رغم بعض الأخطاء في تشخيص (طبيعة الحركة والطبقات الاجتماعية) " لقد اتخذت الأحزاب الشيوعية في فلسطين وسورية ومصر، سنة 1929 وبعدها بناءً على توجيهات الكومنترن وتحت قيادته، موقفاً واضحاً لا لبس فيه ولا تحايل، في النقطة الجوهرية : تأييد الحركة القومية الرامية إلى الاستقلال والوحدة القومية ـ المعادية للإمبريالية ـ ضد الحركة الصهيونية.. الحليفة المتقدمة للقوى الإمبريالية وأداتها في المنطقة العربية ".
لقد ميّز لينين تمييزاً صارماً بين القومية المظلومة والقومية الظالمة، وفرض على الأحزاب الشيوعية في أوروبا تأييد الأولى وشجب الثانية... وقد أكدّت أدبيات تلك المرحلة " أن الوحدة العربية وقضية فلسطين هما قضيتان من قضايا النضال العالمي المناهضة للإمبريالية، من قضايا الثورة الاشتراكية في العالم. أنهما القضيتان النوعيتان للنضال المناهض للإمبريالية في الوطن العربي، وقد درج الماركسيون على القول أنهما فرع من الكل.
".... إن هذا الموقف الواضح من قضيتي فلسطين والوحدة العربية، هو تجلٍّ للعلاقة بين الخاص والعام بين قضيتي الوحدة وفلسطين والنضال العنيد ضد الإمبريالية العالمية, الذي تجسّد بشكل خاص في واقع الفترة التي تبنّت فيها الحركة الشيوعية العالمية والمحلية قضية الوحدة وفلسطين بشكلٍ لا لبس فيه، لأن تلك الفترة كانت فترة صدام كبير بين الاتحاد السوفيتي, والأممية الشيوعية من جهة, وبين العالم الرأسمالي الإمبريالي في ظرف الأزمة الاقتصادية العالمية وبناء الاشتراكية السريع في الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى.
ولقد تغيّر هذا الموقف مع تطور الأحداث و تغيّر الظروف، إذ بدأت الأحزاب الشيوعية تغيّر مواقفها هذه كانعكاس لتغيير مواقف الكومنترن، من هذه القضايا، رغم أن الإمبرياليات العالمية قد عملت بشكل حثيث على تمزيق الجسد الحي للشعوب العربية، وأبقت الدول العربية في حالة من التجزؤ الإقطاعي، وحرمت هذه البلدان من مقومات التقدم والنمو الاقتصادي والسياسي المستقل، وكذلك عملت على تجميد ديناميات التوحيد القومي السياسي وخلق الحدود للبلاد العربية، وساعدت على زرع الكيان الصهيوني في فلسطين قلب الوطن العربي، وهكذا تحوّلت البلدان العربية حتى بعد استقلال بعضها إلى ملحقات دولُ المتروبول، دولاً مستقلة شكلياً إلا أنها تابعة للسوق الإمبريالية من الناحية الفعلية ( زراعية ومنتجة للمواد الخام )، وهذا ما أفضى إلى بطء تشكّل طبقات المجتمع الرأسمالي ونمو عناصر السيادة القومية التي راحت تنمو بشكل عشوائي وغير منتظم، وهذا ما سهّل التحالف بين الإمبريالية التي كانت تعمل على تأمين مصالحها ونهب شعوبنا، وبين القوى الإقطاعية الرجعية العربية و الكومبرادورية التي سيطرت على السلطات في البلدان العربية, وجعلتها قواعد لسياسة الاغتصاب الإمبريالية العدوانية.
هذا الوضع خلق نقيضه فيما بعد، مع عملية المد العربي التحرري، وبدأت الطبقة العاملة الناشئة حديثاً وأحزابها ونقاباتها بالإضافة إلى حركة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة تلعب دوراً فاعلاً في هذه العملية التحررية وقادت الأحزاب اليسارية بجناحيها الشيوعي والقومي الماركسي, بالإضافة إلى قوى اليسار الأخرى هذه العملية، التي انضوى بعضها ضمن أحزاب الاشتراكية الدولية، ومن هنا صار علينا أن نميّز ما بين أجنحة قوى اليسار, وأدوارها حسب الأحداث, والمراحل التاريخية التي مرت بها، وبين القوى اليسارية الأكثر راديكالية والتي تبنّت مواقف وسياسات أكثر استقلالية، لكن هذه القوى ظلت أيضاً عاجزة عن تحويل برامجها إلى إنجازات فعلية على أرض الواقع, وعاشت بالتالي أزمة من نوع جديد هي أزمة عدم القدرة على الفعل في الواقع...
وعلى المستوى الفلسطيني تعتبر حركة فتح بهذا المعنى ضمن اليسار الاشتراكي الدولي... وكذلك حزب العمل الإسرائيلي، ومن المعروف أن الاشتراكية الدولية وأحزابها لا تختلف في الغرب عن البرجوازيات الحاكمة إلا ببعض البرامج الاجتماعية الإصلاحية، وهي تضم طيفاً واسعاً من القوى غير المتجانسة... ومن هنا لا يمكن أن ننظر لليسار الإسرائيلي إلا باعتباره يساراً صهيونياً معادياً لمصالحنا الوطنية والقومية، عمل على تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين طوال العقود الماضية، كذلك نجد أنفسنا على خلاف مع الكثير من أطروحات يسار فتح أبو عمار الذي ينضوي أيضاً ضمن حركة الاشتراكية الدولية، ويجسّد عملياً مصالح الفئات البرجوازية الفلسطينية التي استفادت بعد أوسلو من السلطة وحوّلتها إلى أداة للفساد, و المحسوبيات, والإثراء السريع وغير المشروع للفئات المستفيدة منها على حساب مصالح شعبنا الذي يواجه أعتى أشكال الاحتلال التي أفرزها عالمنا المعاصر، وهو الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الذي يريد أن ينفي شعباً بأكمله ويحل مكانه على أرضه وثرواته وتاريخه..
وإذا عدنا إلى نقطة البدء، نرى أن إشكاليات الواقع... تقتضي على ضوء المنهجية الجدلية التاريخية إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلاً معمقاً للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج, وهذا يقتضي من اليسار العربي والفلسطيني مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع.. على مستوى الإستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة.
المطلوب فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجدداً... ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً فتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية : الماركسية, والقومية, والإسلامية المتنورة، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الإستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.