يقول جورج طرابيشي في معرض حديث له عن العلمانية في العالم العربي إنها أصبحت "مكسر عصا" لكل مبتدئ في الفكر. والحقيقة أنه ما من فكرة تعرضت للتشويه، والقذف، والكراهية، والتحريض، مثل فكرة العلمانية، وما من فترة كانت العلمانية فيها عرضة لهذا الكم من العداء والهجوم غير المقنع وغير المبرر، كما هي الحال اليوم.
وليس غريباً أن يكون الفكر العلماني التنويري عرضة للهجوم من غلاة الإسلاميين المتطرفين. الغريب أن أشد المعادين للعلمانية في الفترة الأخيرة، هم من المرتدين عن الفكر التنويري عموماً، والذين يتسابقون للهجرة إلى مواقع الفكر الأصولي الإسلامي، بشقيه المتطرف، والإصلاحي. وأفضل سلاح يتسلح به مناهضو العلمانية هو تعريفها بما ليس فيها، ثم مهاجمتها من خلال التعريف الذي منحوه هم لها. وهذه التعريفات تتراوح بين الخلط المقصود بين العلمانية، والإلحاد، والتمييز القسري، بين "علمانية راديكالية متطرفة" وعلمانية "إنسانية" لا تحتوي من فكرة العلمانية إلا اسمها، أما المضمون فهو فكر ديني منغلق. ومن هنا، فالحديث عن أولويات العلمانية أمر يكتسب مشروعية وضرورة في وقت معاً. ولن أدخل في تعريف للعلمانية في سطر، كما لن أدخل في لعبة تعلم العلمانية في خمسة أيام بدون معلم، لأن أية فكرة هي أكثر تعقيداً من تطبيقاتها، وأوسع من أي محاولة لتعريفها. بدلاً من ذلك، سوف أقوم بالتمهيد للحديث حول هذه الفكرة، التي يزداد أعداؤها يوماً بعد يوم، بسبب الجهل بها. تعني العلمانية، بالنسبة لي ولكثيرين أشاطرهم الرأي، حيادية الدولة. فالعلمانية تفترض، وتؤدي إلى ألا تكون الدولة ملكاً لفئة من البشر الموجودين على أرضها. على الضد، تفترض العلمانية أن تكون الدولة ملكاً لمجموع الشعب، من دون أدنى تمييز بين الأفراد، من ناحية الجنس، واللون، والعرق، والدين، والطائفة، والمذهب. والدولة العلمانية، بحيادها، هي ليست دولة لا- دينية، تماماً كما أنها ليست دولة دينية.إنها إدارة محايدة لمؤسسات مختلفة، وغنية، ونوعيه، ينبغي أن تتم إدارتها بشكل يضمن ألا تطغى فئة، مهما كان حجمها ولونها، ودينها، على هذه المؤسسات. ولكن هذا الحياد يضمن بالمقابل حرية العقيدة، للفئات الكبيرة، وأيضاً للفئات الصغيرة.
إن دور الدولة العلمانية، إذن، هو تمكين الأفراد والجماعات الأكثر ضعفاً، من التمتع بالحرية الدينية والعقدية، نفسها التي تتمتع به الجماعات الكبرى. بتعبير آخر، تلعب الدولة هنا دور الحكم: بمعنى، أنها لا تنحاز إلى تفسير معين للشكل الصالح للحياة، وتترك حرية التفسير إلى الأفراد والجماعات أنفسهم. وبالمقابل، تعمل الدولة على ألا يقوم أحد بفرض تفسيره الخاص للخير على المجموع. فالخير متعدد بتعدد تفسيراته، وما يراه "أ" خيرا يراه "ب" مصدرا للشر، والعكس بالعكس. وللحد من التناقض بين التفسيرات المتباينة للخير، يدخل دور الحق. فالحق بعكس فكرة الخير هو واحد. والحق تمثله الدولة المحايدة، التي تقوم على أساس تعاقدي بين جميع المواطنين، يقوم على أولوية الدستور الذي يمثل الحق. إن العيش المشترك للمواطنين في الدولة العلمانية يقوم على التعاقدية،التي هي نتاج للديمقراطية، ومؤسس لها في آن معاً. وبالتالي، فالدولة العلمانية لا يمكن أن تكون إلا دولة ديمقراطية، بعكس كل الدول الإيديولوجية، سواء أكانت دولاً دينية، أم دنيوية، تقوم على أيديولوجية دنيوية، كالأنظمة الشيوعية والفاشستية، التي لم تكن دولا دينية، بل إنها كانت مناهضة للدين، وشجعت على الإلحاد. وهذا ما يسقط ذريعة كبيرة لدى مناهضي الفكر العلماني، إذ يقدمون دائماً النموذج الستاليني-الهتلري على أنه الدولة العلمانية. بهذا المعنى، كانت الممارسات السياسية في سورية على امتداد الزمن، ممارسة أقرب إلى العلمانية. ولإن لم تستخدم كلمة العلمنة في الدستور، فمن المعروف أن كثيرا من الدول التي تمارس العلمنة، لم تذكر العلمنة أيضاً. ومثال ذلك، الولايات المتحدة، التي يخلو دستورها من مفردة العلمانية، ولكن ممارساتها للعلمنة أشد أحياناً من فرنسا التي يعرفها دستورها على أنها " جمهورية علمانية تكفل المساواة أمام القانون..."، بالمقابل، الولايات المتحدة التي لا تذكر العلمانية في دستورها، هي أكثر فصلاً بين المؤسسة الدينية، والمؤسسة السياسية، فهي مثلاً، على عكس فرنسا، لا تقدم دعماً مالياً للسلطات الدينية. سورية أيضا، منذ استقلالها عن السلطنة العثمانية، مارست فصلاً مهما بين المؤسسة الدينية، ومؤسسات الدولة. ورغم أن معظم السياسيين السوريين كانوا متدينين، إلا أنهم لم يعكسوا ذلك مطلقا في عملهم السياسي. المشكلة أن هذه العلمانية الشفافة أصبحت محل تفريط من المثقفين السوريين الساعين إلى رضا الجموع، وإلى الحصول على بركة التيارات المتطرفة، بدل أن تكون مصدر عناية وتطوير، ولهذا حديث آخر.