تعيش النخبة الثّقافية والسياسيّة في تونس على إيقاع محاولات مراجعة حقبة الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة، والحدث مدعاة لعودة عديد الهواجس والتدّاعيات بمختلف تلوّناتها، تتعلّق أساسا بإعادة الوعي بتلك المرحلة. فالخطّ السياسي الذي ميّز تونس بعد الاستقلال –مارس 1956- يعدّ فريدا في العالم العربي، إن لم نقل نشازا. أوّلا: لانتهاج بورقيبة درب تحديث وعلْمنة صامتة مستندا فيهما لفلسفة فردانية وفّقت في جذب شعب بأكمله وراءها. ثانيا: لخروجه عن ثوابت وأعراف وتقاليد، ميزت ووحّدت السياسة العربية الحديثة. عبر هذين المستندين سنحاول النظر في تلك التجربة مبرزين انعكاساتها السلبية والإيجابية على التونسي من حيث بلورة توجهاته ونحت شخصيته الحديثة، ومن حيث جدلية تلك المغامرة مع الخط السائد داخل بنية الاجتماع العربي الجامعة. فبرغم المعية أو الضدية أو الحيادية التي تميز الرؤى المنشغلة بتلك الحقبة ومخلّفاتها، فإن الإقرار يسود بالاعتراف بتجذر صبغ البورقيبية لشخصية شعب بأكمله. لا يسمح المقال بمتابعة الإناسة السياسية للتجربة في جزئياتها ولذلك سنقتصر على المحاور الكبرى التي تلخصت فيها.
* علاقة بورقيبة بالغرب: خلقت كاريزمية بورقيبة، أو صنميته بتعبير عربي أدق، التي اكتسبها قبل الاستقلال وتدعّمت بعده، منه وثنا في الذهنية التونسية، هذه الصنمية سكنت الفلسفة الغربية الليبرالية في جوهرها، وهي التي كانت تحرك وعيها بالتاريخ والسياسة، داخليا وعربيا ودوليا. وعبر هذا الوعي كانت خطة صناعة "تونس بورقيبة" لا "تونس التوانسة". ففي صخب وهج الغليان الاشتراكي واليساري والقومي الذي سحر نخب التحرير والتغيير في العالم الثالث، لا شعوبها، جراء انتصارات الاشتراكية العالمية وتقدّمها، كان بورقيبة يدفع سفينته السياسية الهشة واليافعة، في أعقاب ليل استعمار هشّم كافة القدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سنده في ذلك إيمان ووعي بفرنسا والغرب، يتجاوز وجهيهما الاستعماري المستغِلّ والنّاهب، وتطلّع للدّخول بشعب بأكمله مدرسة العقل الغربي، الذي صنع منه -الغرب- مختزَن قوة حضارية ضاربة عالميا، ودون الالتفات لأوجه توظيفها في آليات الهيمنة والحروب والاحتلال وما شابههما، أي لتشكيل الشّعب التّونسي ضمن قواعد العلمَنة واللّيبرالية والحداثة.
هذا المثلّث الذي آمن بورقيبة به ووعى الغرب من خلاله، كان بالحقيقة أكبر من قدرات شعب منهَك، يسعى لكسر طوق الجهل والفقر والأمّية الذي يكبّله. وبمكر كبير استطاع بورقيبة وفي ظرف وجيز تحطيم كافة العقبات الدّاخلية التي تواجهه في ذلك، المتمثّلة في خطّ التقليدية الزّيتونية، وخط المنحى القومي العروبي، وخطّ المحافظة السّياسية، التي كانت ترهب تبعات أي تغيير جذري في مسار المجتمع. فاستطاع أن يثبت ويصنع بنفس السّرعة، خلال العقود الثّلاثة الأولى من الاستقلال، نخبة واسعة متركّبة من شريحتين ممتزجتين، من أنصار خطّ المحافظة التي تتشكّك من أي تغيير، وذلك بعد إعادة صنعها، وكوادر وخريجي المدرسة البورقيبية بعد الاستقلال. والملاحظ أن الوعي البورقيبي بالغرب كان أنضج من وعي سلفه كمال أتاتورك في تركيا، الذي ما كان يمثّل لديه سوى تلميذا فجّا للغرب، لتقليده الشّكلاني والقسري لا المفاهيمي والمؤسّسي. بذلك أمّن بورقيبة نفسه ومشروعه من أيّ حركة ارتجاعية باتجاه النّمط السّالف، عبر ما أحدثه من تحوير في الوعي لا في المظهر، وفي الجوهر لا في العرض.
* بورقيبة وقضايا العرب ومصيرهم المشترك: في مقابل علاقة بورقيبة بالغرب بدت وبشكل سالب علاقة بورقيبة بالعرب. فقد كان خيار التغرّب والتنصّل مما هو عروبي اقتضاء محتّما بالنسبة له، داخل شروط معادلته السّياسية التي أرادها. فالغرب كانت معالمه جليّة في الذّهنية البورقيبية، التي تلقّت تعليما فرنسيا في مراحله الأولى والعالية مما خلق فيه انسلابا، في حين الكيان الحضاري العربي فقد كانت قوته الحضارية مجهولة لدى بورقيبة، بفعل واقع التخلّف وقتئذ، مما خلّف فيه نكوصا تجاهه، فقد رأى بورقيبة العروبة بواقع ما بعد حقبة الاستعمار، التي تركت العرب هشيما تذروه الرّياح، وكانت معادلات سياسة القوى المتحكّمة هي التي تصنع افتراضاته وتوجّه خياراته. فإن رأى بورقيبة تونس عربية فقد وعى ذلك في غياب هموم وتطلّعات العرب ووحدة قضاياهم: فلسطين، والأمّة الواحدة، ومعركة التقدّم وغيرها، ورأى الأمر في حدود كون الأمر معطى تاريخيا إناسيا (أنثربولوجيا) فحسب، وهي إحدى المزالق الكبرى بمنظور قومي عربي وإسلامي، وإحدى الحتميات اللاّزمة من منظور تكامل مشروعه واتزانه، إذا أنصفنا البورقيبية، ولذلك سعى لخلق الأمّة التونسية ذات الجذور العربرية (العربية البربرية) في مقابل الأمّة العربية الخالصة. وكان بورقيبة يعود للمنطلق العروبي بالقدر الذي يلبي نفعيته السياسية، كما الأمر مع الترحيب بالجامعة العربيّة في تونس، أو استقبال منظّمة التحرير الفلسطينية، أو استجلاب الرّساميل والمستثمرين الخليجيين. هذه الانتهازية السياسيّة في الهرع للعروبة لغرض نفعي، تطلّبت مراجعة بعد انزياح بورقيبة من السّلطة لتفسح المجال لتثبيت انتماء تونس ومصيرها اللذين ليسا منّة أو خيارا بل قدرا وإيمانا.
* بورقيبة والدّين: تتلخّص تلك العلاقة في محطّتين أساسيتين، أوّلا مع الكتلة الزّيتونية التقليدية، النّاشئة داخل تعفّنات الحقبة الاستعمارية من حيث وعيها بالتغيير الحضاري للفضاء التونسي. وهي كتلة مدرسية المنهج عجزت عن وعي فلسفة الاجتماع من حيث شروط تحويله وعوامل تحريكه، فقد كان التكلّس المميت والتقديس المشيخي، يجعل من الموروث الفقهي والتراكمات المعرفية، في علوم القرآن والحديث والأصول والمواريث، معطى ثابتا جاهزا لديها. وما كانت تعي فلسفة التّشريع الإسلامي ضمن الخاصيات السُّننيّة الإلهية والتحوّلية البشرية، بتلخيص علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) للمسألة "القرآن كتاب مسطور بين دفّتين لا ينطق وإنما ينطق به رجال".
هذه العقدة الأساسية جعلت بورقيبة يبحث داخل أجنحة الكتلة الزّيتونية عن رفقاء دعم في مشروعه، ولكن بعد أن استيأس من معاضدته إلاّ من جانب ثلّة من الأحناف، مع أن الأغلبيّة مالكية، انقلبت سياسة بورقيبة كلّيا مع الزّواتنة وانطقلت سياسة التصفية والتشريد والإبعاد. فمحنة الزّواتنة مع بورقيبة كانت نتيجة خيارات فكرهم الذي صوّر إليهم أنه يمثل روح التشريع. ولا يعني أن بورقيبة كان في توجّهاته منطلقا من تعاليم الإسلام، بل قد يلتقي المنهج الإسلامي الأصيل والتاريخي مع غيره في المقصد وإن اختلفت المنطلقات.
المحطّة الثّانية في علاقة بورقيبة بالدّين، كانت مع ما عرف سابقا بحركة "الاتجاه الإسلامي" ولاحقا بـ"النهضة". كانت البورقيبية غاضّة الطّرف عن التنامي البدئي لهذا التيار، بصفته ردّ فعل اتزاني ضدّ التوجّهات اليسارية المهيمنة على الساحتين الثقافية والطلاّبية، والتي كانت ترنو، بصبيانية هائجة، لتصفية الموروث العربي الإسلامي على حدّ سواء، الذي كانت البورقيبية تتعامل معه، بكونه واقعا تاريخيا، لا محفزا أو مستندا تحديثيا للتنمية. قدّرت البورقيبية وارتأت ضرورة توْنَسَة التوجّه الديني المحدث، أي انكفائه عند السّاحة التونسية من حيث استلهام مرجعياته وتأسيس طروحاته، على نمط الأحزاب الدّينية -الديمقراطية المسيحية- المتواجدة في أوروبا.
حكم على بورقيبة هوَسَه بالأمّة التونسية، كونها كتلة متميزة، بخلق الإسلام التونسي، وما كانت المرجعيّات الخارجية فيه، الأزهريّة والسعوديّة والخمينيّة لاحقا، لتلاقي أدنى قبول أو اعتراف في حماه. إضافة وعلى النقيض من ذلك، كانت الأدبيات والمرجعيات التي استلهمها مؤسّسو حركة "الاتجاه الإسلامي" وأنصارهم تتنافى كلّيا مع قطرنة الإسلام التونسي، بل كانوا يعتبرون أنفسهم فصيلا داخل الحركة الإسلامية العالمية. هذه اليوطوبيا التي تربى عليها أنصار الحركة الإسلامية في تونس كانت مربط الفرس، المنتج للمنازعة مع السّلطة، ينضاف إلى ذلك، أن الحركة الإسلامية في تونس في استنادها لمرجعية دينية محلّية، راهنت فيها على إحياء تراث الزّواتنة المنبوذين من طرف البورقيبية، نعني أنصار الكتلة المالكية الزيتونية التقليدية، وما كانت لتعي عقم الفلسفة الاجتماعية التي تعي بها تلك الشلّة الدّين والمجتمع، والذي سيغرقها في نفس اليمّ الذي غرق فيه سلفها، وسيهيئ تصادمها الموسّع مع نظام السّابع من نوفمبر في فترة لاحقة. أمام تلك العوامل والظروف لم يبق لبورقيبة إلاّ أن يصوغ إسلاما تونسيا تهتدي رموزه بتعاليم القصر قبل تعاليم القرآن، كان إسلاما شعائريا وفلكلوريا بالأساس.
* بورقيبة والمرأة: المجتمعات العربية مجتمعات أبوية بامتياز، شرعت لذكوريتها عبر توظيف وتأويل للمرجعيات القيمية والدّينية بشكل انحيازي لاواعي، حتى دبّت قناعة خاطئة ترتئي في الدّين مرجعا ومستندا لذكوريتها. فصُنِعت قيم استمدّت جلالها من خلل نفسي مستحكِم، أُجبِرت المرأة فيه ولوحدها الالتزام به، فالشّرف والعفّة والطّهر وتوابعها في الملبس والعمل والحرّية الفردية -وهي قيم حق أساسية أريد بها باطل- أُرغمت المرأة على الالتزام بها وتم التغاضي عن الرجل فيها، سواء في إهمالها أو المحافظة عليها. وهذا السجن السلوكي للمرأة كان يستدعي سندات عملية داخل فضاء الفعل الاجتماعي تمثل أساسا في تضييق مجال الخروج للنشاط العملي، الذي يعني اكتساب قوة مادية وظيفية ذات بعد تحكّمي، من شأن الحصول عليها قلب موازين القوى في الفضاء الاجتماعي.
كان بورقيبة واعيا بهذه اللّعبة القذرة التي مورست في حقّ المرأة التونسية، وبطبيعة فلسفته التغييرية المستلهَمة من النمط الغربي، فقد كان عاجزا أو غير مقتدر على استعمال أدوات تغيير من التراث الدّيني الاجتماعي، لوقوع المخيال الجمعي تحت هيمنة تأويلية ذكورية خاطئة وشائعة بين الرّجل المتحكِّم والمرأة المستضعَفَة نفسيا وفكريا. وبفعل محدودية العبقرية البورقيبية التي مهما ضخِّمت فهي لن تخرج عن شروطها الإنسانية، تم دفع المرأة للشارع، والذي بقدر نجاح البورقيبية في إخراجها له، فإنه لم يحصّنها ضدّ الاستعباد الثاني الذي يتربّص بها، أي قوى الاستغلال، التي هي من طبيعة الخيار اللّيبرالي الذي تبنّاه بورقيبة، وهنا كان مأزق الرّهان البورقيبي ومحدوديته.
فعملية التحرير للمرأة التي ارتآها بورقيبة ارتكزت على أساسين: المساواة في حقّ المطالبة بالطّلاق أُسْوة بالرّجل ومنع تعدّد الزّوجات. في الجانب الأوّل وقع تجريد الرجل من تفرّده بالسلطة داخل البيت، عبر التحكم بمقادير بيت الزوجية ومورد رزق الأسرة، المستندين على مفهوم القوامة الذكورية المشرعَنة، فأصبحت أي عملية طرد –الطّلاق الفجئي- ممتنعة ولاغية في ظلّ إعادة توزيع مراكز القوة داخل بيت الزوجية، الذي صار يلزم بدفع النفقة التي كان متغافَلا عنها سابقا، برغم التنصيص عليها في التّشريع الإسلامي، إضافة لتوفير محلّ للسكنى والتعويض المالي والإنفاق على الأبناء الذين ما زالوا في حاجة لرعاية الأم، في حالة وقوع الضرر. هذه المستحدثات والقرارات القانونية وعاها الرّجل باعتبارها انتقاصا من فحولته وهيبته، وهي بالأحرى تصويبا لتكوينه الخاطئ.
أما المسألة الثانية وهي منع تعدّد الزّوجات، كان تجاوز بورقيبة فيها للسفسطة الفقهية المتعلّلة بمزايا التعدّد، إلى التمسّك بالأصل الشّرعي، واحدية القرين، والتجاوز لاستثنائية التعدّد، مقصدا دينيا بأدوات لادينية. ولذلك لم يجد بورقيبة حرجا في ذلك، سواء من جانب المرأة التي هلّلت للأمر، أو من جانب شقّ من الفقهاء الزّواتنة، الذين ساهموا في صياغة مجلّة الأحوال الشّخصية في أوت/أغسطس 1956 عشية الاستقلال.
من خلال هذه المراجعة الموجزة للبورقيبية، نتساءل هل نجحت هذه التجربة في خلق تونسي عضوي؟ فتلك هي المسألة الأساسية والجوهرية في المشروع البورقيبي. فلئن وفّقت في خلق تحرّرين وتكنوقراطيين سواء في صفّي المرأة أو الرجل، فإنها فشلت في غرس العضوية والالتزام. ولعلّ البنية الرمزية، التاريخية والدينية والحضارية، التي تجاوزها بورقيبة في صراعه مع تيار سلفي متردّ، لافتقاد تيار زيتوني أصيل، إضافة إلى ضغوطات سياسة الهيمنة الدولية، هي التي كانت وراء التحلّل والوهن الذي أصاب المجتمع التونسي في أواخر عهد بورقيبة، والذي تطلب مراجعة في حجم المسألة.
لقد أجاب بورقيبة عن سؤال التنمية والتحوّل والتقدّم من منظور فلسفته ورؤيته، ولكن تبقى الحقيقة الاجتماعية، أنه من صارع الواقع صرعه.
* بورقيبة وقضايا العرب ومصيرهم المشترك: في مقابل علاقة بورقيبة بالغرب بدت وبشكل سالب علاقة بورقيبة بالعرب. فقد كان خيار التغرّب والتنصّل مما هو عروبي اقتضاء محتّما بالنسبة له، داخل شروط معادلته السّياسية التي أرادها. فالغرب كانت معالمه جليّة في الذّهنية البورقيبية، التي تلقّت تعليما فرنسيا في مراحله الأولى والعالية مما خلق فيه انسلابا، في حين الكيان الحضاري العربي فقد كانت قوته الحضارية مجهولة لدى بورقيبة، بفعل واقع التخلّف وقتئذ، مما خلّف فيه نكوصا تجاهه، فقد رأى بورقيبة العروبة بواقع ما بعد حقبة الاستعمار، التي تركت العرب هشيما تذروه الرّياح، وكانت معادلات سياسة القوى المتحكّمة هي التي تصنع افتراضاته وتوجّه خياراته. فإن رأى بورقيبة تونس عربية فقد وعى ذلك في غياب هموم وتطلّعات العرب ووحدة قضاياهم: فلسطين، والأمّة الواحدة، ومعركة التقدّم وغيرها، ورأى الأمر في حدود كون الأمر معطى تاريخيا إناسيا (أنثربولوجيا) فحسب، وهي إحدى المزالق الكبرى بمنظور قومي عربي وإسلامي، وإحدى الحتميات اللاّزمة من منظور تكامل مشروعه واتزانه، إذا أنصفنا البورقيبية، ولذلك سعى لخلق الأمّة التونسية ذات الجذور العربرية (العربية البربرية) في مقابل الأمّة العربية الخالصة. وكان بورقيبة يعود للمنطلق العروبي بالقدر الذي يلبي نفعيته السياسية، كما الأمر مع الترحيب بالجامعة العربيّة في تونس، أو استقبال منظّمة التحرير الفلسطينية، أو استجلاب الرّساميل والمستثمرين الخليجيين. هذه الانتهازية السياسيّة في الهرع للعروبة لغرض نفعي، تطلّبت مراجعة بعد انزياح بورقيبة من السّلطة لتفسح المجال لتثبيت انتماء تونس ومصيرها اللذين ليسا منّة أو خيارا بل قدرا وإيمانا.
* بورقيبة والدّين: تتلخّص تلك العلاقة في محطّتين أساسيتين، أوّلا مع الكتلة الزّيتونية التقليدية، النّاشئة داخل تعفّنات الحقبة الاستعمارية من حيث وعيها بالتغيير الحضاري للفضاء التونسي. وهي كتلة مدرسية المنهج عجزت عن وعي فلسفة الاجتماع من حيث شروط تحويله وعوامل تحريكه، فقد كان التكلّس المميت والتقديس المشيخي، يجعل من الموروث الفقهي والتراكمات المعرفية، في علوم القرآن والحديث والأصول والمواريث، معطى ثابتا جاهزا لديها. وما كانت تعي فلسفة التّشريع الإسلامي ضمن الخاصيات السُّننيّة الإلهية والتحوّلية البشرية، بتلخيص علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) للمسألة "القرآن كتاب مسطور بين دفّتين لا ينطق وإنما ينطق به رجال".
هذه العقدة الأساسية جعلت بورقيبة يبحث داخل أجنحة الكتلة الزّيتونية عن رفقاء دعم في مشروعه، ولكن بعد أن استيأس من معاضدته إلاّ من جانب ثلّة من الأحناف، مع أن الأغلبيّة مالكية، انقلبت سياسة بورقيبة كلّيا مع الزّواتنة وانطقلت سياسة التصفية والتشريد والإبعاد. فمحنة الزّواتنة مع بورقيبة كانت نتيجة خيارات فكرهم الذي صوّر إليهم أنه يمثل روح التشريع. ولا يعني أن بورقيبة كان في توجّهاته منطلقا من تعاليم الإسلام، بل قد يلتقي المنهج الإسلامي الأصيل والتاريخي مع غيره في المقصد وإن اختلفت المنطلقات.
المحطّة الثّانية في علاقة بورقيبة بالدّين، كانت مع ما عرف سابقا بحركة "الاتجاه الإسلامي" ولاحقا بـ"النهضة". كانت البورقيبية غاضّة الطّرف عن التنامي البدئي لهذا التيار، بصفته ردّ فعل اتزاني ضدّ التوجّهات اليسارية المهيمنة على الساحتين الثقافية والطلاّبية، والتي كانت ترنو، بصبيانية هائجة، لتصفية الموروث العربي الإسلامي على حدّ سواء، الذي كانت البورقيبية تتعامل معه، بكونه واقعا تاريخيا، لا محفزا أو مستندا تحديثيا للتنمية. قدّرت البورقيبية وارتأت ضرورة توْنَسَة التوجّه الديني المحدث، أي انكفائه عند السّاحة التونسية من حيث استلهام مرجعياته وتأسيس طروحاته، على نمط الأحزاب الدّينية -الديمقراطية المسيحية- المتواجدة في أوروبا.
حكم على بورقيبة هوَسَه بالأمّة التونسية، كونها كتلة متميزة، بخلق الإسلام التونسي، وما كانت المرجعيّات الخارجية فيه، الأزهريّة والسعوديّة والخمينيّة لاحقا، لتلاقي أدنى قبول أو اعتراف في حماه. إضافة وعلى النقيض من ذلك، كانت الأدبيات والمرجعيات التي استلهمها مؤسّسو حركة "الاتجاه الإسلامي" وأنصارهم تتنافى كلّيا مع قطرنة الإسلام التونسي، بل كانوا يعتبرون أنفسهم فصيلا داخل الحركة الإسلامية العالمية. هذه اليوطوبيا التي تربى عليها أنصار الحركة الإسلامية في تونس كانت مربط الفرس، المنتج للمنازعة مع السّلطة، ينضاف إلى ذلك، أن الحركة الإسلامية في تونس في استنادها لمرجعية دينية محلّية، راهنت فيها على إحياء تراث الزّواتنة المنبوذين من طرف البورقيبية، نعني أنصار الكتلة المالكية الزيتونية التقليدية، وما كانت لتعي عقم الفلسفة الاجتماعية التي تعي بها تلك الشلّة الدّين والمجتمع، والذي سيغرقها في نفس اليمّ الذي غرق فيه سلفها، وسيهيئ تصادمها الموسّع مع نظام السّابع من نوفمبر في فترة لاحقة. أمام تلك العوامل والظروف لم يبق لبورقيبة إلاّ أن يصوغ إسلاما تونسيا تهتدي رموزه بتعاليم القصر قبل تعاليم القرآن، كان إسلاما شعائريا وفلكلوريا بالأساس.
* بورقيبة والمرأة: المجتمعات العربية مجتمعات أبوية بامتياز، شرعت لذكوريتها عبر توظيف وتأويل للمرجعيات القيمية والدّينية بشكل انحيازي لاواعي، حتى دبّت قناعة خاطئة ترتئي في الدّين مرجعا ومستندا لذكوريتها. فصُنِعت قيم استمدّت جلالها من خلل نفسي مستحكِم، أُجبِرت المرأة فيه ولوحدها الالتزام به، فالشّرف والعفّة والطّهر وتوابعها في الملبس والعمل والحرّية الفردية -وهي قيم حق أساسية أريد بها باطل- أُرغمت المرأة على الالتزام بها وتم التغاضي عن الرجل فيها، سواء في إهمالها أو المحافظة عليها. وهذا السجن السلوكي للمرأة كان يستدعي سندات عملية داخل فضاء الفعل الاجتماعي تمثل أساسا في تضييق مجال الخروج للنشاط العملي، الذي يعني اكتساب قوة مادية وظيفية ذات بعد تحكّمي، من شأن الحصول عليها قلب موازين القوى في الفضاء الاجتماعي.
كان بورقيبة واعيا بهذه اللّعبة القذرة التي مورست في حقّ المرأة التونسية، وبطبيعة فلسفته التغييرية المستلهَمة من النمط الغربي، فقد كان عاجزا أو غير مقتدر على استعمال أدوات تغيير من التراث الدّيني الاجتماعي، لوقوع المخيال الجمعي تحت هيمنة تأويلية ذكورية خاطئة وشائعة بين الرّجل المتحكِّم والمرأة المستضعَفَة نفسيا وفكريا. وبفعل محدودية العبقرية البورقيبية التي مهما ضخِّمت فهي لن تخرج عن شروطها الإنسانية، تم دفع المرأة للشارع، والذي بقدر نجاح البورقيبية في إخراجها له، فإنه لم يحصّنها ضدّ الاستعباد الثاني الذي يتربّص بها، أي قوى الاستغلال، التي هي من طبيعة الخيار اللّيبرالي الذي تبنّاه بورقيبة، وهنا كان مأزق الرّهان البورقيبي ومحدوديته.
فعملية التحرير للمرأة التي ارتآها بورقيبة ارتكزت على أساسين: المساواة في حقّ المطالبة بالطّلاق أُسْوة بالرّجل ومنع تعدّد الزّوجات. في الجانب الأوّل وقع تجريد الرجل من تفرّده بالسلطة داخل البيت، عبر التحكم بمقادير بيت الزوجية ومورد رزق الأسرة، المستندين على مفهوم القوامة الذكورية المشرعَنة، فأصبحت أي عملية طرد –الطّلاق الفجئي- ممتنعة ولاغية في ظلّ إعادة توزيع مراكز القوة داخل بيت الزوجية، الذي صار يلزم بدفع النفقة التي كان متغافَلا عنها سابقا، برغم التنصيص عليها في التّشريع الإسلامي، إضافة لتوفير محلّ للسكنى والتعويض المالي والإنفاق على الأبناء الذين ما زالوا في حاجة لرعاية الأم، في حالة وقوع الضرر. هذه المستحدثات والقرارات القانونية وعاها الرّجل باعتبارها انتقاصا من فحولته وهيبته، وهي بالأحرى تصويبا لتكوينه الخاطئ.
أما المسألة الثانية وهي منع تعدّد الزّوجات، كان تجاوز بورقيبة فيها للسفسطة الفقهية المتعلّلة بمزايا التعدّد، إلى التمسّك بالأصل الشّرعي، واحدية القرين، والتجاوز لاستثنائية التعدّد، مقصدا دينيا بأدوات لادينية. ولذلك لم يجد بورقيبة حرجا في ذلك، سواء من جانب المرأة التي هلّلت للأمر، أو من جانب شقّ من الفقهاء الزّواتنة، الذين ساهموا في صياغة مجلّة الأحوال الشّخصية في أوت/أغسطس 1956 عشية الاستقلال.
من خلال هذه المراجعة الموجزة للبورقيبية، نتساءل هل نجحت هذه التجربة في خلق تونسي عضوي؟ فتلك هي المسألة الأساسية والجوهرية في المشروع البورقيبي. فلئن وفّقت في خلق تحرّرين وتكنوقراطيين سواء في صفّي المرأة أو الرجل، فإنها فشلت في غرس العضوية والالتزام. ولعلّ البنية الرمزية، التاريخية والدينية والحضارية، التي تجاوزها بورقيبة في صراعه مع تيار سلفي متردّ، لافتقاد تيار زيتوني أصيل، إضافة إلى ضغوطات سياسة الهيمنة الدولية، هي التي كانت وراء التحلّل والوهن الذي أصاب المجتمع التونسي في أواخر عهد بورقيبة، والذي تطلب مراجعة في حجم المسألة.
لقد أجاب بورقيبة عن سؤال التنمية والتحوّل والتقدّم من منظور فلسفته ورؤيته، ولكن تبقى الحقيقة الاجتماعية، أنه من صارع الواقع صرعه.