عندما يفرز الواقع حشدا من مفاعيل الحراك المُجتمعي وأدواته، تبدو وكأنها إرهاصٌ بتحولات تاريخية جذرية، يصبح من غير الممكن نجاح أي معارضة للإرادة السياسية التي تعبر عن تلك التحولات، بسبب أن هذه التحولات تعتبر بمثابة نتائج مُحَتَّمة ترتبت على مقدمات أخذت مداها التاريخي الكامل في تخليقِ وتكوينِ لحظةِ التحول الراهنة.
تلك التحولات تعني أن مرحلة حصاد ما تم زرعه قد حلَّت، وأنَّ أوانَها قد آن، وألاَّ مفر من التعرض لنتائج ما كان بمثابة خيارات تاريخية سابقة، أدَّت إلى ما غدا خيارات تاريخية حالية. وينتج عن ذلك أن أي تحول جديد بالمعنى التاريخي للتحول لن يحدث إلاَّ بعد أن تفعل الإرادة السياسية الناتجة عما سبق والمؤدية إلى ما سيأتي، فعلَها الحافرَ في الواقع، استجابةً لمسؤولية تاريخية غدت هي وحدها المُعَبِّرَة عنها والحاملة لعبء تحقيقها في هذا الواقع.
فمنذ أكثر من مائة عام، كانت الشيوعية كحراك مُجتمعي يعبر عن إرادة تاريخية في التخلُّص من البُنْيَة الطبقية الإقطاعية وشبه الرأسمالية لروسيا القيصرية، تقتصر على مجموعة من الأشخاص المثقفين الذين كانوا يتنقلون بين مكتبات سويسرا، ويجوبون أنحاء القارة العجوز، لترسيخ المفاهيم البروليتارية، ولاستقراء الدياليكتيك في الوجود الطبيعي والاجتماعي، من خلال الدراسات الاستشهادية، إضافة إلى بعض الخلايا التننظيمية الموزعة هنا وهناك في روسيا القيصرية.
إن انتشار الشيوعية السريع بهذا الزَّخَم فيما بعد يشكل ظاهرة هامة ومدهشة، لكنها ليست ظاهرة فريدة في التاريخ، فهي تماثل انتشار حركات أخرى، كحركة الثورة الفرنسية قبلها، أو كحركة المد الديني البروتستانتي الإصلاحي الذي اجتاح أوربا عشية انقضاء القرون الوسطى. كما أنها تشبه من حيث سرعة الانتشار وأسبابه، المد الإسلامي قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا عبر ثلاث قارات في أقل من قرن من الزمان. إن تلك الحركات والثورات والدعوات والرسالات، استطاعت الانتشار بتلك السرعة وعلى ذلك النحو، لأن التاريخ كان قد دخل منعطفاتٍ جذريةً ناضجةً لها كل النضوج.
ولكن ما الذي يجعلنا نقول أن التحولات التاريخية الراهنة هي بمثابة منعطفات جذرية ناضجة لاحتضان حركةٍ عميقة وجذرية في واقعنا العربي؟!
إنَّ في ماضي وفي حاضر الأمة العربية من المؤشرات الموضوعية، ما يكفي لأن نؤكد جازمين على أن الاجتياح العراقي للكويت في الثاني من آب عام "1990"، مَثَّلَ ويمثل، بعد نكبة العرب الأولى عام "1917"، ثم بعد نكبتهم الثانية عام "1948"، عقدة مفصلية حاسمة في تاريخها، كشفت عن الكثير من الأمور التي كانت تعتمل في الخفاء، وبلورت منها ما كان يبحث عن مبررات للتبلور، وأوضحت منها ما كان غامضا، وكَرَّسَت كل عناصر الفرز والاستقطاب بدون مجاملة أو نفاق. فالحدثُ كان زلزاليا إلى درجةٍ لم تعد تنفع معها أيٌّ من أشكال المراوغة للتغطية على حقيقة الفرز والاستقطاب الحاصلين.
بطبيعة الحال فإن تأكيدنا هذا، لا ينفي أن هذه العقدة المفصلية يستحيل فصلها عن قضايا الأمة بأكملها، وعلى رأسها قضية التخلف والتنمية وقضية فلسطين، وعلاقة الأنظمة العربية المتراجعة بالاستعمار بكل أشكاله التي ورثَ بعضُها تركةَ البعض الآخر، في عملية تبادلٍ تاريخي مُحْكَمٍ للمواقع ولمفاعيل السيطرة على الوطن العربي، ولا عن قضية الحريات وحقوق الانسان، وإعادة بناء المنظومات الثقافية والفكرية للأمة بما يتناسب مع تطلعات النهضة التي تتفاعل في شرايين الحراك المجتمعي لها. كما أن هذه العقدة المفصلية لا يمكن التغاضي عن اعتبارها وما آلت إليه من غزو أميركي أنجلوساكسوني للعراق انتهى باحتلاله وبكل التداعيات المهينة التي شاهدناها ونشاهدها جميعا، مُكَوِّناً أساسيا من مكونات معادلات الصراع النهضوي لهذه الأمة.
فنكبة عام "1917" التي دشِّنت تاريخ المنطقة الحديث باحتلال بلاد الشام، تمهيدا لتنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، كانت في واقع الأمر بداية التطبيق الفعلي للرؤية "السايكسبيكوية"، التي أسفرت في عام "1948" عن ولادة أول مولود للمشاريع الاستعمارية بعيدة المدى في الوطن العربي.
ولأن زلزال الثاني من آب عام "1990" ظهر وكأنه يعمل على محاولة بناء الأمة في عكس الاتجاه الذي تم تكوينها في ضوء حيثياته منذ النكبة الأولى في مطلع القرن الماضي، مُدَشِّناً تلك المحاولة الجنينية – التي نقبل التأكيد على عدم نضج ظروفها الموضوعية – بغرس أول معولِ هَدْمٍ في قلب نظام "سايكس بيكو"، فقد مَثَّلَ عُقْدةً على ذلك القدر من الأهمية والزلزالية. إنه باختصار، زلزالٌ ضرب إنجازاتِ أكثر من سبعين عاما من تَلَوُّن الوطن العربي بألوان الاستعمار الغربي، في مقتل.
ولما كان التفاعل التبادلي متحققا وباستمرار على شكل تأثرٍ "بـ"، وتأثير "في"، بين عناصر الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية من جهة، وبين البُنَى الفكرية الحاضنة لهذا الحراك ولتلك الصيرورة من جهة أخرى، فَماَ لاشك فيه أن زلزال الثاني من آب كشكلٍ من أشكال الحراك المجتمعي والصيرورة التاريخية الأكثر تَأَجُّجاً، والأشد توترا وتوتيرا، كان له نصيبٌ وافر من عناصر التَّاَثُّر بما سبقه من بنىً فكرية، كما سيكون له ولزمن مديد أيضا تأثيره الفاعل بشكل صارخ في تلك البُنَى، دافعا بها نحو دوائر التفاعل والتجاوب الأكثر تراجيدية، على جميع الصُّعُد والمستويات، مع متطلبات ما آلت إليه المنطقة والعالم بعده. وما نراه يحدث في بلاد الرافدين وفي المنطقة المحيطة بها منذ الاحتلال الأنجلوساكسوني للعراق، ليس عنا ببعيد، وهو خير دليل على ما نقوله.
الزلزال كان في جانب مهم منه نتاجا لبُنَى فكرية دفعت باتجاهه، وهو عندما حدث وعبر كافة مضاعفاته وتداعياته التي نعايشها والتي سوف نعايشها لجيل قادم من الزمن أو أكثر، سيشكل جانبا مهما أيضا من منظومة الأسباب التي ستدفع بالبُنَى الفكرية للأمة نحو التغير والتطور والتجدد تجاوبا مع نتائجه الخطيرة جدا.
فمنذ الثاني من آب عام "1990"، وفرز المواقف العربية يتوالى تباعا على قدم وساق، من مواقع متعددة، وعلى خلفيات متنوعة، وحالة الاستقطاب الجوهرية لمختلف الخنادق العربية تتعمق تدريجيا، إلى أن جاء غزو العراق واحتلاله بدءا من الحادي والعشرين من آذار عام "2003"، ليَحْقِن حالة الاستقطاب والفرز المتأججة هذه، بجرعات زائدة، كان من شأنها أن عمَّقَت أكثر فأكثر حالة التَّخَنْدُق والمواجهة العربية العربية، مُخْتَزِنَةً في أحشاء هذه الأمة الباحثة عن صواعق نهضتها، إرهاصات بتغييرات جذرية مُرتقَبة. وراحت الفراغات المهولة التي خلَّفَتها توابع الزلزال على كل الصعد، وخاصة على الصعيد المعتقدي والأيديولوجي، تئن تحت وطأة البحث عمن يَملؤُها مُسْتَغلا اللحظة التاريخية التي أثبت معظم العرب رسميين وغير رسميين، أنهم ما زالوا عاجزين عن إدراك كُنْهِها وأهميتها، تاركين فرصة ملئها لغيرهم، رغم أن الفرصةَ قد تكون ما تزال مواتية لمن يريد أن يكون شريكا فعاَّلاً في معادلات ما بعد ملء الفراغ.
فالعمل السياسي هو فعلٌ مُجْتمعي. والمجتمع جزء من وجودٍ حَيٍّ تحكم حركتَه القوانين. فمن لم يعِ قوانين الحركة في أدائه السياسي، رَسَمَ لواقع مجتمعه لوحةً بلا معالم تشَوِّهها الاعتبارات غير الصائبة..
عَزْلُ الأحداث عن سياقها التاريخي يُفْقِدنا القدرة على فهمها، فذلك السياق هو الذي يجعل لتلك الأحداث معنىً، وهي بدونه وخارجَه طلاسم عصيَّة على التفسير، ككلمة مُفْرَدة انْتُزِعَت من بطن كتاب..
عندما نجهل قوانين التاريخ نتخبط، وعندما نتخبط نحتار، وإذا احترنا دَثَّر الغموض آفاق مستقبلِنا، لأن حاضرَنا الذي يُعَدُّ حبلا سُرِّياًّ يربطنا بذلك المستقبل، تَخنقه عندئذٍ الأباطيل ويقودُه الخوف ويُكَبّله التَّرَدد..
من حقائق التاريخ وقوانين الحراك الاجتماعي الأكثر أهمية وتجذُّرا في البُنْيَة المجتمعية للوجود، بعد قانون التطور الذي يُعَدُّ القانون الأكثر أهمية وتجَذُّراً في بُنْيَة الوجود كله بشتى البُنَى والأنساق المُكَوِّنة له، نجد قانونا نرى من المناسب أن نُطْلق عليه قانون "ملء الفراغ". فما هو هذا القانون؟! وكيف يؤدي وظيفته في الواقع المُجْتَمعي؟! وما هو موقعه في سُلَّم التفاعل مع القانون الأم، "التطور"؟!
إن الأفكار والمعتقدات التي تقوم عليها ثقافة أُمَّة من الأمم، إذا استمرت على نحوٍ مُضْطردٍ وموضوعي في التّكَيُّف والتجاوب مع متطلبات الحركة المُجْتمعية في سياق الصيرورة التاريخية لتلك الحركة، فإنها ستكون حتما الحصنَ الواقي الذي يحمي تلك الأمة من مخاطر حدوث الفراغات والفجوات التاريخية السوداء في حياتها.
إن الفعلَ المجتمعي هو في واقع الأمر المُحَصِّلة التفاعلية في ساحة الصيرورة لحركتين، تعانق كل منهما الأخرى عناقَ مشتاقٍ إلى نقيضه، الفعل والانفعال، التأثير والتَّأَثُّر. وليس الفعل المجتمعي مجرد حاصل جمع رياضي لهاتين الحركتين.
بتحقق علاقة الشَّوْق المتبادلة هذه، تأثرا وتأثيرا، فعلا وانفعالا، تحدث الحركة المجتمعية ويتجسَّد الفعل المجتمعي. وكلما كان تحقق هذه العلاقة فعليا ومُنساباً عبر الزمن انسياب الماء في الأواني المُسْتَطرقة، كلما كان المجتمع مُمتلكاً لكل عناصر القوة اللازمة لتوازنه واستقراره ولحصانتيه الداخلية والخارجية. أما إذا حصلت النَّشازِيَّة في هذه العلاقة، بظهور علامات انعدام الانسجام بين مَسارَيْ الحركتين، فإن ذلك يُعَدُّ مؤشرا على بدء الخلل في البُنْيَة المُجْتمعية، وإرهاصاً بقرب ظهور مناطق الفراغ التاريخي التي تمثل في واقع الأمر مَقْتَل المجتمعات، خاصة إذا كانت هذه المجتمعات في طور النهوض الذي تعرقله مصالح مُجتمعات أخرى خارجية، أو مصالح فئات داخلية، ترى في تلك النهضة بشكلها المُقَرَّر في الأنساق الفكرية الجديدة، عدوا تتربص به الدوائر.
الحركتان اللتان نعنيهما، هما حركة الفكر وحركة الواقع. والتأثير والتأثُّر اللذان أشرنا إليهما، هما تأثير الفكر في الواقع ليطور هذا الواقع، وتأثر الفكر بعد ذلك بهذا الواقع المتطور، ليتطور هو هذه المرة – أي الفكر – في ضوء قواعده الجديدة بعد التطور – أي قواعد الواقع – لتعود المعادلة وتتكرر من جديد في سمفونية تفاعلٍ أبدية لا تتوقف. فكرٌ يُطور واقعاً، وواقع متطور يطور فكرا. هذه هي حالة العناق الأبدية التي تربط أو التي يُفْتَرض أنها تربط حركة الفكر بحركة الواقع.
ولأن ساحة الصيرورة التاريخية للفعل المجتمعي تشهد على الدوام وبحكم طبائع الأمور بروز مجموعات بشرية ذات سطوة ونفوذ، تتعارض مصالحها في مراحل محددة من تلك الصيرورة التاريخية، مع الوُجْهَة الطبيعية لذلك الفعل، والناجمة عن منطق العناق الذي أشرنا إليه بين حركتي الفكر والواقع، فإنها – أي هذه المجموعات – تحاول بكل قواها وسطوتها ونفوذها حماية منظومة مصالحها التي قد يتطلب السياق التطوري للفعل المجتمعي تفكيكها أو تجاوزها، بل وتحطيمها أحيانا.
إن المحاولات التي تقوم بها هذه القوى النافذة لحَلِّ تعارض مصالحها الموروثة من بُنَى مجتمعية سابقة، مع متطلبات بُنَى مجتمعية توُلَدُ من رحم التطور التفاعلي الحاصل بين الفكر والواقع، هي في حقيقة الأمر شكلٌ صارخٌ من أشكال محاربة قانون التطور، ونموذج جَلِيٌّ من نماذج الوقوفِ الفَجِّ في وجه الطبيعة وهي تحقق ذاتها بقوة القانون الذي أودعه الله فيها لتتحرك بموجبه.
إنها في المحصلة محاولاتٌ تدل إما على جهلِ وإما على غطرسةِ من يقفون وراءَها، لأن الوقوف في مواجهة القانون الطبيعي والحتمي، لمنعه من التَّحَقُّق موضوعيا، ليس أكثر من جهل أو غطرسة، وأكثر ما يمكن أن يحققه من يفعل ذلك أو يَطالُه، هو تأجيل تَحَقُّق الحتمية الطبيعية، وتغيير شكل تحققها من الشكل التلقائي السلمي الانسيابي، إلى الشكل الثوري الانفجاري.
عندما يُؤَثِّرُ الفكر في الواقع، سيدفعه إلى الأمام، بعد أن يكون قد حَقَنَه بِمُقَوِّمات الاندفاع، ليقوم الواقع بعد ذلك بالتأثير في الفكر، ليدفعه بدوره إلى الأمام. في هكذا حالة فإن الأمر طبيعي وتلقائي. إن هذه الطبيعية والتلقائية، تعني أن الواقع يستجيب لحقنات الفكر الدافعة له، عبر إعادة إنتاج مؤسساته وهياكله وظواهره ونظمه وعلاقاته وروابطه الداخلية والخارجية في المجالات كافة، بما يستقيم ويتجاوب مع وُجهة الفكر المُؤَثِّر هذا. وعندئذٍ فإن هذه الطبيعية والتلقائية ذاتها تعني أن الفكر سيستجيب بدوره للمُنْتَج المُجْتَمعي الجديد، بأن يتجاوب مع وجهته في النمو والتمدد والتحول بحسب ما راحت تفرضه طبيعته الجديدة، عبر بقاء الفكر مستعدا لإعادة إنتاج نفسه بالصورة والشكل اللذين يمثلان تجاوبا سَلِساً مع متطلبات هذا المُنْتَج المجتمعي الجديد في صيرورته التطورية.
عندما يصل الواقع إلى مستوىً يتطلب إعادة إنتاجه عبر إعادة إنتاج الفكر اللازم لإعادة إنتاجه، فإن على الفكر أن يتحرك ويطرح رؤاه الخاصة بهذا الغرض. وعندما يطرح الفكر رؤاه القاضية بأنَّ الواقع في حاجة إلى إعادة إنتاج، فإن على القائمين على الواقع أن يعملوا على إعادة إنتاجه في ضوء الرؤى الفكرية الجديدة لإعادة الإنتاج.
تبدأ منطقة الفراغ التاريخي بالتَّشَكُّل، ثم بالتفاقم، مع كل محاولة يقوم بها أصحاب المصالح النافذة في المجتمع لمنع تأثير أيٍّ من الحركتين في الأخرى. ولأنهم بحكم مواقعهم وبحكم طبائع الأمور، أقدر على التَّحَكُّم في الواقع وفي بُناه، منهم على التحكم في الفكر وفي حركته، وفي الثقافة وفي إشعاعاتها، فإنهم ينحازون فورا إلى الواقع بشكله المحافظ على مصالحهم، فتظهر إرادة التغيير وكأنها حركة فكرية وثقافية، ما تلبث بعد ذلك أن تبدأ تنتقل عدواها بالتدريج إلى بُنَى الواقع ومؤسساته، عندما تبدأ المؤسسات بتبني مسار الحركة الفكرية والثقافية المُعَبِّرة عن إرادة التغيير.
عندما يبدأ الواقع يئن تحت وطأة الحاجة إلى إعادة إنتاجه بعد أن اهترأ وأصبح ثوبا أضيق من أن يحتوي جسدا تضخم حتى كاد يمزقه ويخرج منه، تبدأ المشكلة بالتَّكَوُّن والظهور إلى حيِّز الوجود، عبر تعبيرها عن نفسها ابتداءً في مُكَوِّن ثقافي وفكري، يرى ضرورةً وحاجةً مُلِحَّتين في إعادة إنتاج المجتمع لتعديل مسار الفعل المجتمعي فيه. ثم تبدأ المشكلة بالتمدد، وتأخذ أشكالا وأبعادا جديدة، مع كل معاندة تمارسها الفئات النافذة صاحبة المصالح، لمنع الفكر المُتَجاوب مع هذا الأنين من التعبير عن نفسه، أو للحيلولة دون تحويل فكرٍ أُتيحت له فرصة التعبير عن نفسه، إلى واقع ملموس متمثل في مُنْتَجٍ مجتمعي جديد.
منذ هذه اللحظة التاريخية في صيرورة المجتمع، تبدأ المشكلة بالتفاقم، وتبدأ ظاهرة الشد المتوتر التي تكون قد تَجَلَّت بالكاد على شكل نقطة، بالتحول مع مرور الوقت إلى منطقة فراغ اجتماعي هائلة، سياسيا وثقافيا وأخلاقيا.. إلخ، تَنْتُج عن ذلك البَوْن الشاسع الذي غدا يفصل الواقع في شكله المُهْتَرئ عن الواقع في شكله المطلوب والمُسْتَهدف والمُعَبًّر عنه فكريا، في ظاهرة حركية مجتمعية، تُسَمى ظاهرة "انشقاق المثقفين"، عن بُنْية النظام المجتمعي السائد الذي يُعبِّر بمعاندته لمتطلبات التطور، عن أقصى درجات الغباء التاريخي، والجهل الاجتماعي، بمعنى المصلحة حتى في سياقاتها البراجماتية.
إن ظاهرة منطقة الفراغ التاريخي في الواقع المجتمعي، وهي بطبيعتها ظاهرة مُرْبِكة للفعل المجتمعي، لأنها تترك الواقع نهبا لكل الذئاب المفترسة، رافقت ظهور الإنسان منذ أقدم العصور. بل يمكن استقراؤها حتى في حياة الأفراد والتجمعات الإنسانية المختلفة. إن أي علاقة مجتمعية يَحكُم مسار صيرورتها هذا العناق القائم على مبدأ التأثير والتأثر، الفعل والانفعال، هي بطبيعتها علاقة يُحكُمها قانون "ملء الفراغ"، في حال اختلال علاقة العناق القائمة هذه، عبر اختلال سمفونية التأثير والتأثر في سياق الحركة والصيرورة.
منطقة الفراغ قد تحدث في العلاقة بين الولد وأبيه، بين الطالب وأستاذه، بين الصديق وصديقه، بين أسرة وأخرى، بين موظف وآخر داخل المؤسسة الواحدة نفسها، بين مؤسسة وأخرى داخل المجتمع الواحد نفسه، بين شعب وشعب، وبين أمة وأمة. لا بل إن منطقة الفراغ قد تحدث في ذات شخص واحد تنهدم في أعماقه الجسور التي تربط بين حركة وعيه وحركة مشاعره من جهة، أو بين حركة ذلك الوعي وحركة السلوك الذي يُفترَض أن يكون ناتجا عنه، فتُخْلَقُ فيه هُوَّةً واسعة تُكَبِّلُه بالتناقضات والشروخ والمخاوف، وتحاصره بالهواجس التي تجعل منطقة الفراغ في داخله قابلةً لأن تُمْلأَ حتى بالسحرة والمشعوذين والدجالين، أو بالأوهام والخرافات والأباطيل.
إن قانون "منطقة الفراغ"، يَعُمُّ الوجود ويهيمن عليه، بعد قانون التطور. إن كل البُنَى المجتمعية القائمة في صيرورتها على تأثير وتأثر متبادلين بين أطرافها، هي في الواقع بُنىً قابلة لأن تعاني من منطقة فراغ بكل ما ينبثق عن وجود مثل هذه المنطقة من تداعيات ومضاعفات خطيرة. إن منطقة الفراغ عندما تتشكل في الواقع بسبب هذا الفصام النَّكِدِ بين حركة الواقع وحركة الفكر، تجعل المجتمع مُهَيَّأً لكل الأمراض المجتمعية، وتُضْعِفه إلى حدٍّ يحطم حصونه الداخلية والخارجية، ويهدر طاقات أبنائه، ويقضي على نظام المناعة النفسية والقيمية والثقافية لديه.
إننا كي نتصور على وجه الدقة ما الذي يحدث في مجتمع يُصَمِّم قادته وأصحاب السلطة والنفوذ والمصالح فيه على جعل حركة واقعه منفصلة عن حركة فكره، سواء بمنع الفعل المجتمعي من التجاوب مع حركة الفكر فيه، أو بمحاربة الفكر المتولد فيه تجاوبا مع متطلبات الحراك المجتمعي.. نقول: إننا كي نتصور ما الذي يحدث في مجتمع من هذا النوع، يكفينا أن نتخيل شخصا يريد الانتقال من مكان إلى آخر، تاركا جلده في نقطة المنطلق بسَلْخِه عن باقي جسده!!
إن تَصَوُّرَنا لجلد ذلك الشخص مربوطا في نقطة الانطلاق بما يُمَكِّنُه من أن يبقى ثابتا، لينسلخ وهو في مكانه عن جسد الشخص وهو يتحرك، يعني أننا نتحدث عن ألم فاجع منذ لحظة الحركة الأولى وفق هذه المعادلة النشاز التي ستؤدي في النهاية إلى انتقال الجسد العاري من جلده ومن عباءته الحامية له والمُحَصِّنَة لمقاومته، إلى مكان لا يستطيع مواجهة ما فيه من علاقات وظواهر جديدة، بل ومن أعداء ومهاجمين لهم مصلحة في اختراق هذا الجسد وافتراسه، ليعجز حتما عن ممارسة نشاطاته الطبيعية، إلى أن يموت ويفنى، بعد أن يكون قد أصبح موطئا سهلا لكل أنواع الجراثيم والبكتيريا والفيروسات القاتلة.
إن الوقوف في وجه قانون التطور القاضي بضرورة تجاوب كلٍّ من البناءين الفوقي والتحتي للحركة المجتمعية مع شريكه الآخر في صناعة تلك الحركة، عندما يتطلب الوضع التاريخي لذلك الشريك تجاوبا من نوع ماَّ، إنما يعني تجميد أحد البناءين عن الحركة في الوقت الذي يندفع فيه البناء الآخر مواصلا حركته التي لا يمكن إيقافها. إن الفكر هو البناء المجتمعي الذي يصعب إِنْ لم يستحل إيقاف حركته، لأنها في العادة حركة تقع وتحدث خارج نطاق سيطرة ذوي المصلحة في معاندة تيار الحركة التطورية للمجتمع. فلا وصاية على الفكر من حيث هو فكر، يقرأ الواقع ويبشر بالمستقبل ويحدد معالم المشكلات ويُشَخِّص طرائق الخلاص. ولأن الواقع هو البناء المجتمعي الذي يُمكن تلجيم حركته في العادة – وإن يكن ذلك مؤقتا في الغالب – بسبب كونها حركة تحدث عبر أدواتٍ يمكن التحكم فيها وتُمْكِن السيطرة عليها، ولأنه – أي الواقع – هو في حقيقة الأمر موطن المصالح والامتيازات التي تتشبث بها الفئات النافذة في المجتمع، فإن فعل تلك الفئات المقاوم لحركة التاريخ الطبيعية، إنما ينصب باتجاه هذه الحركة – أي حركة الواقع – مُلَجِّماً قدر ما يستطيعه، الفعل المجتمعي الذي تقوده هذه الحركة وتعبر عنه.
في مجتمع تقوده وتتحكم فيه فئات شديدة التراجع، أي شديدة العداء لقانون التطور بالشكل الذي شرحناه سابقا، كما هو حال منظومة "الرُّغاليين الجدد" في الوطن العربي، أو بتعبير أدق "الصهاية العرب"، الذين بدءوا يؤسسون ويؤصلون لأخطر فضاء من فضاءات الصهيونية ألا وهي "الصهيونية العربية"، والذين يمثلون امتدادا لمنظومة "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة وفي أوربا الغربية، نستطيع أن نلمس ضغطا هائلا على النشاط الفكري بغرض تبطيء حركته التي يستحيل إيقافُها بالكامل.
وتلك الفئات إنما تفعل ذلك كي تُخفي قدر ما تستطيعه معالم البَوْن الشاسع بين حالة الفكر وحالة الواقع، مُشَوِّهَةً بالتالي المظهر العام المقيت والقميء لمنطقة الفراغ الحاصلة بسبب معاندتها للتاريخ ولقانون التطور، مُماَرِسَةً بهذا السلوك من ثم، أشد أنواع التضليل والخداع في حق الجماهير والشعوب، الأمر الذي يطيل في عمر هيمنتها على مقدرات تلك الشعوب، وفي ارتهانها لمستقبلها، وفي تأخير نهضتها الحقيقية.
في المقابل، نرى على صعيد حركة الواقع، ليس ضغطا عليها بما يُبَطِّئها أو يوقفها عند مستوىً معين فقط، بل دفعا بها إلى الوراء إذا تطلب ذلك أمر الحفاظ على معادلات الهيمنة والمصالح السائدة، ليُصاَر إلى إعادة إنتاج الواقع الذي تقوده تلك الحركة، ولكن بأثر رجعي. أي أن تلك الفئات المتَنَفِّذَة صاحبة المصالح، لا تقف عند حدِّ جعلِ إحداثيات حركة الواقع بطيئة على المحور الموجب، مُكتفية بهذا الشكل من أشكال معاندة قانون التطور، بل هي تستكثر عليها – أي على الحركة – حتى الموجبات الهزيلة والضئيلة على هذا المحور، وتصِرًّ على جعلها تندفع نكوصيا وانتكاسيا بتغيير اتجاهها إلى السالب عند اللزوم، غير مبالية بما يعنيه ذلك من شكلٍ من أشكال التخلف لا يُضاهىَ.
إن هذا النمط من الفعل المُمْعِن في عدائيته لمنطق التاريخ، يجعل المجتمعات التي تعاني من وطأته، تظهر لا كمجتمعات تعاني من اتساع رقعة منطقة الفراغ الداخلية فقط، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة لا يستهان بها، بل هي تظهر كمجتمعات متراجعة جدا حتى في داخل منظومة المجتمعات المتراجعة أساسا، مادامت تتعامل مع قانون التطور بعدائية مُغْرِضة تتفوق على كل مستويات العداء التي تعرفها وتعهدها المجتمعات المتراجعة ابتداءً، لهذا القانون. وفي مثل هذه الوضعية الصعبة يغدو على الفكر أن يتصدى لمعالجة حالةٍ مُرْبِكةٍ وشديدة التعقيد من الشد الرجعي، تنطوي على ثلاثة مستويات من التراجع المنشِئِ لمناطق الفراغ التاريخي.
المستوى الأول، هو ذلك التراجع العائد إلى الهُوَّة القائمة أساسا بين المجتمعات المتقدمة وبين المجتمعات المتراجعة عموما.. أما المستوى الثاني، فهو ذلك التراجع العائد إلى الهُوَّة القائمة بين معظم المجتمعات المتراجعة، وهذا المجتمع الأشد تراجعا بالذات، بسبب مبالغة الفئات المتنفذة فيه في معاداة المنطق والتطور، وهو حال معظم أنظمة "الرُّغاليين الجدد" دعاة "الصهيونية العربية" في الوطن العربي.. أما في المستوى الثالث، فإننا نتحدث عن تراجعٍ عائدٍ إلى الهُوَّة الداخلية القائمة بين حركة الفكر وحركة الواقع كما مر معنا، وهو حال كل الأنظمة العربية بلا استثناء، وهي تَحوُلُ دون إعطاء الشعوب العربية حق التعبير والمشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات على كل الصعد والمستويات. مُعَبِّرَة بهذه الحيلولة ليس عن أبشع انواع الظلم الاجتماعي فحسب، بل عن أشد أنواع الغباء والجهل بحقائق التاريخ، لأن الغباء والظلم في واقع الأمر صنوان لا ينفصلان. وهما عندما يجتمعان، يكَوِّنان ظاهرة أطلق عليها القرآن الكريم اسم "السَّفَه"، ووصف من ينطبقان عليهم اسم "السفهاء".
خلاصة القول، أن معاداة قانون التطور في الجانب المتعلق منه بظاهرة العناق التبادلية القائمة بين حركة الفكر وحركة الواقع، تعني خلق منطقة فراغ كبيرة تفصل حالة الواقع القائمة التي تجاوزها الفكر عن حالة الواقع المأمولة والمفترضة التي راح يتحدث عنها ويبشر بها هذا الفكر.
ولأن المسافة الفاصلة بين هاتين الحالتين في الوطن العربي غدت أكبر مما يُتَصَوَّر، بسبب أن معاداة قانون التطور التي تُمارسها الأنظمة السياسية العربية، وصلت حدودا لا تَخطر على بال عاقل على وجه الأرض، عبر كمٍّ هائل من المعرقلات لمتطلباته في كل مرافق الحياة، فإن منطقة الفراغ السياسية والثقافية والمجتمعية في هذا الوطن تُعَدُّ من النوع المرعب في آفاقه المَرَضِيَّة المرتقبة.
إن منطقة الفراغ هذه تُمثِّل حالة مَرَضِيَّة مستشرية تستدعي علاجَها بملءِ الفراغ. وإن ملء هذا الفراغ لا يكون إلا بتغيير الواقع في الاتجاه المساند للفكر ولرؤاه، إنْ في القليل أو في الكثير. وهو ما يعني إعادة قراءة المنابع والأوعية الأيديولوجية لحركة الثورة والتغيير العربيين، وإعادة ترسيم وتحديد إحداثيات المواقع الجديدة لتلك المنابع والأوعية في بناء الوجود، بحثا في ثناياها التي يحاول سفهاءُ العصر إخفاءَها، عن صواعق الثورة العالمية.
ونحن إذ نقول.. "إن في القليل أو في الكثير"، فإننا إنما نعترف بطبيعة التاريخ كدائنٍ مهادنٍ يَتَّسِم بالحِلْم، إذا وجد أن المدين يلتزم بالسداد ويدفع ما عليه، وإن يكن جزئيا وبالتقسيط. ولعل هذه الطبيعة المهادنة للتاريخ، هي التي تجعل أصحاب المبادرة والمبادأة من ذوي الطموح والجرأة ووضوح الرؤية، مِمَّن لهم أجنداتهم الخاصة في مجتمع معين أو في إقليمٍ معين يدخلون على خط منطقة الفراغ في الوقت المناسب لملئها، عبر حقن الواقع المُهْتَرئ الذي تسبب في خلق تلك المنطقة، بحقنتين مختلفتين في الوقت ذاته.
الحقنة الأولى، تنطوي على جزءٍ يسير ومعتدل ومقبول لدى التاريخ وقوانينه، من الدَّين المستحق له ولمنطقه ولقانون التطور العميق فيه، كي يضمنوا بهذه الحقنة إبقاءَه مدةً كافية في حالةِ مهادنة. أما الحقنة الأخرى، فهي الحقنة التي تَخلُقُها المصالح والمطالب المُبَرْمَجة في أجندةٍ خاصة تتعارض في المحصلة التاريخية مع مصالح ومطالب وأجندة المجتمع نفسه.
ولكن في ظل غياب أصحاب المبادرة المحليين الذين بوسعهم أن يضمنوا أكثر من غيرهم حَقْنَ واقع مجتمعهم بحقنة كاملة من الدَّيْن المستحق في ذمتهم للتاريخ ولقوانينه، فإن من الطبيعي أن ينجح هؤلاء المالكون لأجنداتهم الخاصة، والغريبة عن المجتمع، والمتناقضة في بعض جوانبها مع مصالحه الحقيقية أحيانا، في مهادنة التاريخ بعد أن أدركوا طبيعته، وفهموه ولعبوا جيدا وبكفاءة على كافة محاوره، متصفين بقدر عالٍ من وضوح الرؤية، ومالكين لقدر أعلى من المبادرة والمبادأة والإقدام وسرعة اتخاذ القرارات الفعالة والتقدمية.
ولعل إيران تمثل نموذجا للذكاء الخارق في العمل الحثيث للانقضاض على مناطق الفراغ الإقليمية لملئها. وهي مرشحة لأن تنجح في ملء هذا الفراغ نجاحا باهرا، في ظل عجز أي من القوى العربية الرسمية وغير الرسمية عن فعل ذلك.
فما أغبى من يعتقد أن بإمكانه منع إيران من ملء الفراغ القاتل الذي تعاني منه الأمة العربية في الظروف الراهنة، وهو فضلا عن عدم امتلاكه للبديل الإيراني القادر على فعل ذلك، يقف في طريق حل المشكلات التي تناضل الشعوب العربية لحلها، بينما إيران تطرح نفسها حليفا حقيقيا وواضحا وجليا لتلك الشعوب في نضالها ذلك، معتقدا أن مجرد ادعائه لوجود أطماع وطموحات إيرانية في الأرض العربية كافٍ وحده لجعل الأمة العربية الباحثة حتى عن شيطان يساعدها في مواجهتها للصهيونية وللإمبرالية، تعزف عن إتاحة الفرصة لهذه الدولة الصاعدة الطارحة للإسلام في جوهره المعادي للظلم والقهر والاحتلال، كي تملأ الفراغ وتتولى قيادة الحراك المطلوب في الاتجاه المطلوب.
الفراغ التاريخي في المجتمع يُمثل حالةَ عُرْيٍ تثير الشبق لدى الراغبين في الاستمتاع. المجتمع الواقع تحت وطأة الفراغ، هو امرأةُ حسناء عارية ضعيفة المقاومة أمام كل طالبي المتعة الحرام. إن لم يقم بتغطية هذه الحسناء العارية شقيقُها أو حبيبُها أو من تُمثِّل بالنسبة له حرمة يَجب أن تُصان، انتهكها غيره على الفور، مُغطيا جزءا من جسدها لدفع الحد الأدنى من استحقاق ملء الفراغ للتاريخ، كي يضمن مهادنتَه، غارقا بعد هذا الفُتات المدفوع، في لذة العبث بمعظم جسدها الباقي، إلى أن ينتفض التاريخ من جديد، بعد أن تفقد المهادنة مقومات استمرارها.
إن من قوانين الوجود وسنن التاريخ، أن من يعاند قانون التطور، يُصَنَّف على الفور، إماَّ جاهلا غبيا، وإماَّ متغطرسا وقحا. ومصير الإثنين واحد في مُحَصِّلَة صراع الإرادات الناشئ بين إرادةٍ تتجاوب مع المنطق وأخرى تعانده. الولايات المتحدة الأميركية وأمامها في الصفوف الأولى إسرائيل، اللتان تعاندان على الصعيد المجتمعي الدولي كل منطق، ليس من السهل اعتبارهما جاهلتين أو غبيتين، فهما إذن متغطرستان وقحتان.
أما المجموعات والنُّخب صاحبة المصالح والامتيازات والسلطة والنفوذ في المجتمعات العربية، وعلى رأسها رموز الحكم المباشرين العاملين بجدارة منقطعة النظير على التأسيس للصهيونية العربية، ومن يُشرعن سياساتهم ومناهج إدارتهم لمشيخاتهم من مثقفي الهزيمة والهوان، ومن دار في فلكهم من فئات الانتهازيين والمزورين للحقائق، فهي في عنادها لمنطق التطور، وفي معاداتها التي لا تفتر لأي بادرةِ تجاوبٍ مع الفكر وهو ينمو مطالبا بالتغيير، لا تمتلك مقومات الغطرسة وحسب، بل هي تسبح فضلا عن ذلك في مستنقع الجهل والغباء. لكنَّ النكهةَ المميزةَ لهذه الفئة المعاندة للتاريخ، عن كل الفئات الشبيهة بها في أي مكان في هذا العالم، هي أنها لا تقف عند حد الجهل والغباء، بل تُتَوِّجُ كل ذلك بشكل من الوقاحة منقطعة النظير، إنها وقاحة الغبي.
وبين غطرسة واشنطن التي تظلل العالم بجبروتها، مُهيمنة على حراكه بالشكل الذي ترتضيه عبر خَوْزَقَةِ الوطن العربي بإسرائيل، والجهل والوقاحة الغبية للأنظمة السياسية العربية وحواشيها وبطائنها من مثقفي الهزيمة، تَمتد المساحة التي على أصحاب المبادرة في هذا الوطن أن يتحركوا في إطار حَيِّزها، كي يتمكنوا من ملء أبشع منطقة فراغ مُجتمعي تشهدها المنطقة، بل ربما العالم بأسره، قبل أن ينجح في ملئها المتكالبون على المتعة الحرام ممن ارتبطت أجنداتهم الخاصة بأجندة القوة المتغطرسة في كُلٍّ من واشنطون وتل أبيب، أو بأجندة قوة إقليمية صاعدة طموحة هنا أو هناك مثل إيران، أو بأجندة عائلة حاكمة في هذا البلد أو في ذاك، مرة باسم التبعية لدينٍ بريء منها ومن أفعالها ومن كل سياساتها، وأخرى باسم الانتساب لنبوةٍ زَكَمَت روائح الحقوق المفترضة لادعاء الانتساب إليها أنوف العالم، ومرة ثالثة باسم شعبٍ مغلوب على أمره، أو حرية مزعومة لا أساس لها في الواقع، أو ثورة أُزهِقت روحُها منذ أن امتطى جسدها العاري من يهتم بإرواء شبق أعضائه الجنسية، أكثر مما يهتم بحقوق شعبٍ ونهضة أمة، أو بعراقة حضارة وتاريخ.
في واقع الأمر، إن مجموعة التحولات الكبرى التي شهدها الوطن العربي، وبالأخص المنطقة المشرقية منه، منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، بدءاً بزلزال اجتياح الكويت عام 1990، وانتهاءً بكل من الحرب العربية الإسرائيلية السادسة في لبنان والسابعة في غزة، مرورا قبل ذلك بالاحتلال الأميركي للعراق، وما آل إليه وضع المنطقة بعده، أسهمت كلها وبشكل كبير في بلورة مجموعة من المبادئ، يمكن اعتبارها قواعدَ لعبةِ الصراع الحالية والمستقبلية في المنطقة العربية، وهو ما سنحاول معرفته في مقالات لاحقة إن شاء الله.