أقيم رسميا يوم 10 ديسمبر 2010 حفل تسليم جائزة نوبل للسلام هذا العام في العاصمة النرويجية أوسلو أسندت فيه الجائزة للمعارض الصيني ليو تشياوباو liu Xiaobo والذي تغيب عن مراسم الاحتفال بسبب سجنه من قبل السلطات الصينية. يعتبر ليو تشياوباو أحد قيادي أحداث تيان أنمان الشهيرة لسنة 1989 و المحكوم عليه بالسجن لمدة 11 عاما قضى منها سنة واحدة فقط إلى حد الآن. و لم يتمكن أي أحد حتى من أقاربه من تسلم الجائزة.وهي المرة الثانية خلال 100 سنة لا يستطيع فيها فائز من تسلم الجائزة.المرة الأولى كانت سنة 1936 حين حرمت السلطات النازية الصحفي الألماني كارل فون اوسيازكي Carl von Ossietzky من تسلم الجائزة, وهذه هي المرة الثانية .
يمثل ليو تشياوباو في نظر لجنة التحكيم رمزا مناضلا من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية,إذ أنه من دعاة التخلي عن نظام الحزب الواحد في الصين المعاصرة. وتجدر الإشارة إلى أن ليو تشياوباو يعتبر من قبل الجهات الرسمية في الصين من حلفاء الغرب و أمركة العالم,فهو يترأس جمعية للمثقفين الصينيين المغتربين ممولة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية.كما تذكر بعض المصادر أنه من مناصري الحرب على العراق بدعوى نشر الديمقراطية,وهو يعتبر الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إرهابيا.في هذا السياق من المهم التذكير بأن نفس الجائزة أسندت خلال السنة الماضية للرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما.كما أسندت للدلاي لاما زعيم إقليم التيبت في الصين سنة 1989.
إن جائزة نوبل للسلام تثير مجددا الجدل على أصعدة عديدة منها السياسي بالطبع و منها الثقافي و الحضاري مع العلم أن الفصل بين الأصعدة المذكورة يقوم على اعتبارات منهجية فقط.إذ يتداخل السياسي و الاقتصادي و الحضاري في تشكيل المجتمعات الإنسانية.أما من جهتنا فقد رصدنا الأمرين التاليين :
1ـ صورة الصين من خلال خطاب رئيس لجنة التحكيم:
جاء على لسان رئيس اللجنة وهو رجل سياسة نرويجيّ سابق, أنه لا يمكن إنكار جهود الصين في محاربة الفقر وتحقيق نسب نمو اقتصادي عالية من جهة لكن من جهة أخرى يلاحظ أن الصين لم تسع في نفس السياق إلى تحقيق تقدم مواز في خصوص حقوق الإنسان و الديمقراطية.وقد قدم مقارنة ذات دلالة في هذا الصدد بين الولايات المتحدة و الصين في ميدان حقوق الإنسان و التعبير من خلال شخصية مارتن لوثر كينغ قائد مسيرة حركة المطالبة بالحقوق المدنية في أمريكا منذ 1954 و شخصية ليو تشياو باو الفائز بالجائزة هذا العام, وهو قائد ما يعرف بأحداث تيان أنمان 1989 المطالبة هي أيضا بالديمقراطية والمساواة و حرية التعبير عن الرأي.وهو ما يعني أن زاوية النظر منحازة بطريقة أو بأخرى إلى النموذج الغربي الأمريكي للحداثة في مجال حقوق الإنسان و الديمقراطية الأمر الذي يعيد مجددا الجدل الدائر حول هذه المسألة: هل تمثل حقوق الإنسان إرثا غربيا أم إرثا إنسانيا و ليس مجرد إرث عالمي بمقتضى توقيع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على و وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ فقد جاء في كلمة الممثلة النرويجية التي قرأت بالمناسبة ما يعرف بوثيقة 2008 المطالبة بحرية التعبير عن الرأي و شارك في تحريرها ليو تشياوباو وقد اعتقل بسببها ثم أودع السجن,أن قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان هي قيم عالمية و ليست غربية فقط.
ـ تعامل الصين مع إسناد الجائزة لليو تشياوباو :
رفضت الحكومة الصينية السماح لأي أحد من أقارب الرجل تسلم الجائزة فضلا عن المعني نفسه المدان بالتطاول على هيبة الدولة عندما سعى إلى الترويج لميثاق 2008 الداعي إلى الديمقراطية وحرية التعبير في بلد المليار و ثلاثة مليون نسمة ,الأمر الذي اعتمده القضاء الصيني لإدانة الرجل.وقد فرضت السلطات الصينية كما تذكر وسائل الإعلام تعتيما إعلاميا على مواطنيها في الداخل بغلق القنوات التلفزية الأجنبية التي تبث مراسم تسليم الجائزة للغائب الحاضر .وهو أمر قد نستغربه في عصر سرعة تداول المعلومة و الانفتاح إما اختيارا أو اضطرارا لكأن الصين تفصل بين عولمة في بعدها الاقتصادي وهي الموقعة على اتفاقية التجارة العالمية و صاحبة القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية, و العولمة في بعدها المعلوماتيّ . كما تذكر وسائل الإعلام أن الصين قادت حملة دبلوماسية بعد الإعلان عن الفائز بالجائزة منذ أكتوبر الماضي لمقاطعة حفل التسليم هذه السنة.و تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن 19 دولة قاطعت فعلا مراسم الاحتفال منها دول عربية و إسلامية و أمريكية لاتينية, واعتبرت الصين أن مراسم الاحتفال بالجائزة يشبه إلى حد كبير احتفالات الجماعات الدينية في أوروبا مما قد يؤدي إلى ربطها بالخصوصية الغربية و نزع الطابع العلماني و الكوني عنها في ذهن الصيني أولا و أذهان غير الغربيين. تتوجه نوبل للسلام إلى الصين إذن للمرة الثانية الأولى من خلال منح الجائزة إلى الدلاي لاما زعيم إقليم التيبيت سنة 1989 و الثانية هذه السنة 2010 من خلال منح الجائزة لليو تشياوباو الناقد ليس للسياسة الصينية الحالية فحسب بل الناقد للثقافة الصينية التي جعلت من المواطن الصيني خنوعا خاضعا للسلطة في نظره.
يبدو أن نوبل للسلام تذكرنا على صعيد فلسفة الحضارات باستشرافات هنتجتون الذي يرى أنه بعد نهاية الحرب الباردة و سقوط الإديولوجيات, حل عصر الصراع بين الحضارات: الغرب و كل من يدور في فلكه من ناحية و بقية الحضارات الأخرى من ناحية أخرى, سيما الحضارتان الكنفوشيوسية و الإسلامية.لكأن نظريته هذه ليست وصفا للتحالفات السياسية الدولية بل كذلك توجه سياسة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه بقية العالم.إننا نذكر بموقف هنتنغتون دون أن يغيب عن أذهاننا أن مثل هذه الصراعات ليست ثقافية فحسب بل هي تتداخل مع مستويات أخرى لا تقل أهمية عنها خاصة منها الصراعات الاقتصادية و الاستراتيجية.
ـ انتهى ـ