قال الله تعالى:" اذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة"[1].
لقد هبطت الثورة العربية واقعة بردا وسلاما على المظلومين والمضطهدين وثبتت عزائمهم وأثلجت صدورهم وجعلتهم يضربون في الأرض وينقحون الأفق ، ولكنها نزلت نارا وجحيما على الظالمين والفاسدين وزلزلت القصور والعروش ودفعت المذعورين الى الفرار بجلودهم والسارقين الى اخفاء معالم جرائمهم. فما الذي وقع الآن وهنا في العمق الترابي؟ ولماذا وقع الذي وقع؟ وكيف كان هذا الوقوع ممكنا؟
لقد كانت الثورة العربية واقعة قرعت الحق ودمغت الباطل ومثلت الحقيقة التاريخية التي لا مجمجة لها والواقع الفعلي الذي لا يقبل تجميلا لبشاعته ولا ركوبا على أحداثه. علاوة على ذلك كان للثورة وقوعا مزلزلا على قلوب الناس وأصداء في الآفاق وكانت وقعتها عظمى عصفت بالزيف والكذب والمنكر وثبتت القسط والمعروف ونزعت الحكم في وقت كان معلوما.
ان تأويل الواقعة في هذه النقطة بالذات يضيع في الوقائع المتعاقبة بسرعة وفي تعدد التأويلات وعلى هذا النحو يمكن تأويل لفظ الواقعة القرآني على أنحاء ثلاث:
- حدث غير متوقع وفجائي واستثنائي انفلت من كل الحسابات والتوقعات مثلما عبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي أدغار موران بلفظ Imprévisible.
- همزة وصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب وبرزخ بين خط الناسوت وخط اللاهوت واستجابة انسية على نداء وجودي ولطف الهي بالعباد المستغيثة وتعبير عن غلبة قوى الخير على قوى الشر وانتصار الحق واندحار الباطل.
لكن كيف يمكن تأويل وقوع الواقعة وحدوث الثورة؟
ما نلاحظه أنه توجد ثلاث تأويلات حول واقعة الثورة العربية:
- ثورة برجوازية ساهم فيها شباب الفايسبوك وحولت السخرية والنقد والتمرد في العالم الافتراضي الى الواقع العيني وسميت بثورة الياسمين وكانت مطالبها ليبرالية متمثلة في الحريات والحقوق .
- ثورة اجتماعية قادها العمال والناشطون والنقابيون وفجرت تطاحنا طبقيا وأظهرت تصميم الفئات الشعبية على التخلص من الحكم المركزي وفرض ارادة الشعب.
- ثورة أخلاقية ثقافية ذات أرضية دينية صلبة وظفت الرموز الايمانية ضد الفساد والاستبداد وواجهت العولمة المتوحشة بقيم روحية وتقاليد نيرة.
غير أن ما نقترحه هو تأويل تعددي يتفهم واقعة الثورة في سياقها الاجتماعي الواسع ويضم المركز الى الأطراف ضمن منهج مركب ومضمون متنوع الأبعاد يربط بين المصالحة مع الهوية والانتصار للكرامة ويستثمر القيم الكونية ويتفاعل مع الغيرية الجذرية ويبحث عن تأصيل للقيم والمبادئ بالاعتماد على فلسفة الضاد.
اللافت للنظر أن الثورة لم تقتصر على جهة بعينها أو بلد واحد وانما اشتعلت لهيبها في القلب وازدادت نيرانها بمرور الأيام في كل مكان وربما كان التناقض بين أصحاب رؤوس المال والأجراء أحد عوامل تفجرها وربما أيضا مثلت التجارب الاصلاحية تقريبا خطوات تمهيدية نحو تفجر الأوضاع بل تصاعدت لتشمل عدة بلدان وتأخذ أشكال أخرى وتتبدل وسائلها وصار بالإمكان الحديث عن الثورة الدائمة ولكن ليس بالمعنى التروتسكي وانما ثورة الفهم من أجل تفكيك المنظومة الشمولية وتمرد العقل الجمهوري على التفكير ذي البعد الواحد.
من هذا المنطلق يمكن أن نسميها ثورة عربية في تونس ذات توجه وطني ألفت بين قلوب قوى الشعب الناهضة وجعلت الجماهير تتوحد في صورة جسد واحد الذي قام ضد الفساد.
كما يمكن أن نتتبع العلاقة بين الثورة والاسلام ونفهم الاسلام على أنه ثورة على الظلم والفساد ومحاولة لإرساء العدل والصلاح في الأرض أو على الأقل نعتبر القيم الروحية الصافية لهذا الدين قد مثلت أحد العوامل التي غذت الثورة وخاصة النهي عن المنكر والجهر بالحق.
ان الفهم الاجتهادي التأويلي للإسلام عامة وللقرآن والحديث خاصة قد يوفر للناس نموذجا في الحياة لا يجدونه في الواقع ولا يمكنهم التخلي عنه وتجاوزه على مستوى الحلم والذهن. لكن لا نستطيع أن نطلب من الناس أن يكونوا مؤمنين بشكل مطلق ولكنهم يوجدون في الواقع ويعيشون الاسلام بجوارحهم وعقولهم وقلوبهم على نحو جزئي ولذلك هم عندما يقارنون بين الوقائع والمثل وبين المنشود والموجود يشعرون بالهوة وينهضون نحو التدارك والكدح.
غير أن تضمن الاسلام لقيم المحبة والتوادد بالنسبة للجماعة الانسانية وتأكيده على صلة الرحم ونصرة المظلوم واغاثة الملهوف في علاقة بالغير قد مثلت المحرك الروحي والأخلاقي للثورة وساهمت في تحفيزها وتنضيجها ودفعها الى الأمام لتستكمل مسيرتها.
كما أن الفقهاء ينقسمون الى صنفين: الصنف الأول هم فقهاء السلاطين الذين يدعون الى طاعة أولى الأمر في كل حالة ويحرمون الخروج على الحكام ويستندون الى مبدأ شهير هو: "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم". أما الصنف الثاني فهم فقهاء الأمة ويمرون من العقيدة الى الثورة ويرون بضرورة الخروج على الحكام المستبدين بغية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واظهار العدل ويستندون الى مبدأ شهير هو "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
من هذا المنظور يمكن أن نعتبر الثورة واقعة ونتدبر تأويليا واقعة الثورة بأنها حدث تاريخي استثنائي في التاريخ المعاصر سيكون له ما قبله وما بعده قامت بتكذيب كل التوقعات والتقارير المحبطة للعزائم والمتشائمة والتي تساند التوريث وتناشد من أجل التمديد.
زد على ذلك يمكن أن نقر بأن الثورة رفعت رايات الحق والعدل والحرية والكرامة وخفضت ألواح السيطرة والهيمنة والاحتكار والتفويض وفعلت مقولات العقل الجمهوري عند الفارابي والعدل عند ابن خلدون والحرية عند ابن رشد والانصاف كما جاء في المدونة الفقهية.
بين اذن أن المقصود هو أن واقعة الثورة هو حقيقة مطلقة وحدث غير قابل للتكذيب وأنها خفضت المستبدين المفسدين ورفعت الأحرار والصالحين والمناضلين درجات في سلم الوجود. لكن هل احتاجت الثورة لكي تقع الى ميلاد ثقافة ثورية؟ والى مدى قطعت ثورة الشباب مع الماضي وأحدثت ثورة ثقافية؟ وما العمل حتى لا تتحول الواقعة الى وقيعة؟
كاتب فلسفي
[1] القرآن الكريم، سورة الواقعة، الآيات 1-2-3