"إن المجتمع ـ الموجّه ـ يبدو وكأنه
لا يقبل الشك، وهنا تكمن المُشكلة، إنها
الولع في التبرير وتصديق أي شيء"
دوستويفسكيما المفكر "الأنسني" إلا ذاكرة مضادة ـ على حد تعبير الرائع ادوارد سعيد ـ، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذى يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم! وكما أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض المسائل الجدلية التى يستحيل مصالحتها، أو تجاوزها، بل إنها ليست قابلة حقاً لأن تُطوى في نوع من التوليفة الأرقى، هي بلا ريب الأنبل..
أصيل فكرنا الأنسني أصالة الضمير! قاسٍ هو قسوة الحقيقة! غير أن الخطر كل الخطر في مناهضته واضطهاد أصحابه، ناهيك عن تجفيف منابعه، كما هو حاصل في مجتمعاتنا المُتخلفة، منذ جلاء المُستعمر الأوروبي عن أرضنا!
ثمة دروس عظيمة يمكن استخلاصها من عقود استقلالنا الزائف! فكائناً ما كان نُبل الأهداف التحررية، إن صح القول بوجودها، لدى مؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، فإنها لم تمنع للأسف الشديد من انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، ساعد على التمكين لها تشبع الوجدان العربي بفهم مُخنث للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المُستبد العادل(1)!
فُقدان الحرية في مجتمعاتنا ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! استقلالنا الوطني حتمي وبديهي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين! إلى هذه الدرجة من الرداءة، وصل الفكر الشائع بين أبناء مجتمعاتنا! الهروب من "الحقيقة" أعلى مراحل التخلف!
من هنا، يأتي حرصي على التمرد على التعاطي العربي "اللاثوري" مع الثورات! فكل انتفاضة في تاريخنا "تُخفق" في بلوغ أهدافها، تُصبح فتنة شيطانية زائلة(2)، يُشيع أصحابها بالاستهجان والنسيان، إما إلى القبور أو إلى المُعتقلات!
وكل انتفاضة "تنجح" في بلوغ أهدافها، هي ثورة مُباركة خالدة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! القراءة النزيهة والمنظمة لأحداثها خيانة للوطن ولدماء الشهداء! ثوراتنا العربية دائماً ما يقوم بها أبطال معصومون! ومن ثم، لايجوز المساس بهم، من قريب أو بعيد! إنهم رُسل العناية الالهية لبلادهم!
الطريف في الأمر، انه ومع مرور الزمن غالباً ما يثبت خلاف ذلك!!
مقالتى هذه محاولة لاستكشاف جذور وملابسات ثوراتنا الأخيرة(3)، والتى اتمناها "نبع الهام"، لا "ضريح ولي"! وأملي أن أوفق في إنشاء موقع جدير بالهجوم عليه حقاً! رغم ما تؤكده الثورات نفسها ـ وهنا يكمن الخطر ـ، من وجود فقر في التفكير الحُر، والنفوس الحُرة القادرة على قراءة نزيهة ومنظمة للأحداث!
أبدأ رحلتي مع الثورات الأخيرة، بمشهد رأيته على شاشة التليفزيون الوطني في بلادي! رأيت شاباً يتحدث عن طموحاته! علمت لاحقاً من حديثه انه يعمل في صناعة السينما، وأنه عائد لتوه من الولايات المتحدة! ما يهمني هنا هو حديث هذا الشاب عن أمله في صناعة فيلم عن بلاده، يُصور فيه الشوارع والناس والبنايات..الخ! لا لشيء وإنما على حد قوله ليثبت للغربيين أننا أسوياء مثلهم!
حديث المخرج الشاب بدا غريباً بعض الشيء، فاستوقفته المذيعة باندهاش، طالبة التوضيح! فأجابها في ثقة وأريحية يُحسد عليهما انهم في الولايات المتحدة الأمريكية لايرون في الشرق الأوسط سوي العنف وترويع الآمنين أو الارهاب على حد قوله. ولا يعرفون أو يعترفون لأهله بدور يُذكر في الحضارة الحديثة!
تمرد "أخرق" على ناموس الحياة، أخرج شعوبنا وبلادنا من التاريخ!
بيئة عالمية "جديدة" لم نُشارك في صُنعها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مؤلفه القيم "القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000"، وفي إطار تحليله لتطور النظام العالمي في العصور الحديثة(4)، أكد بول كنيدى أن انسحاب الولايات المتحدة السريع من الالتزامات الخارجية بعد عام 1919، والتوجه الانعزالي الروسي تحت حكم البلاشفة، أفرز نظاماً عالمياً لا يرتبط ـ بصورة غير مسبوقة ـ بالواقع الاقتصادي الجوهري.
فرغم ضعف قوة بريطانيا وفرنسا إلا أنهما كانتا في بؤرة المسرح السياسي العالمي! ولكن تعرض وضعهما في ثلاثينيات القرن العشرين لتحديات دول ناهضة عسكرياً كإيطاليا واليابان وألمانيا، حيث كانت الأخيرة عازمة على السعي الأكيد نحو فرض هيمنتها على أوروبا، بصورة أكبر من سعيها في عام 1914.
وفي الخلف ظلت الولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم، وكانت روسيا الستالينية ـ نسبة إلى الزعيم ستالين ـ تتحول بسرعة إلى قوة صناعية عظمى. وبالتالي تمثل مأزق الدول الناهضة عسكرياً في وجوب توسعها بأسرع وقت ممكن إذا شاءت ألا تخضع لمشيئة العملاقين القاريين(الولايات المتحدة الأمريكية & الاتحاد السوفيتي). في حين تمثلت ورطة القوى القائمة ـ كفرنسا وبريطانيا ـ في مواجهة تلك الدول الناهضة، وهو ما ينهك قواها بالضرورة.
وقد أكدت الحرب العالمية الثانية، بكل ما حملته من تغيرات، على هذه المفاهيم. فرغم الانتصارات المبكرة التي حققتها دول المحور، إلا أنها في النهاية لم تنجح في مواجهة اضطراب الموارد الإنتاجية التي فاقت كثيراً مثيلاتها في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت فقط تنحية فرنسا جانباً وإنهاك بريطانيا قبل أن تخبو هي نفسها أمام القوة الأكبر، لينفتح المجال أمام حلول "الثنائية القطبية" في العالم، حيث سار التوازن العسكري بحذى التوزيع العالمي للموارد الاقتصادية.
ميلاد هذا النظام الدولي ـ السابق على "الثنائية القطبية" ـ تواكب مع ظهور الاستعمار الأوروبي الحديث، حيث خرجت القوى الأوروبية تضرب في المجهول، وعادت مُحملة بثروات العوالم الأخرى، القديم منها والجديد. بيد أن السلوك الأوروبي لم يكن ـ وقتها ـ خروجاً على المألوف، فقد انخرطت معظم القوى الدولية في سلوكيات مماثلة، تراوحت ما بين ممارسة الاستعمار أو مساندته أو على الأقل قبوله ـ لخدمته مصالحها أو لعدم تعارضه مع تلك المصالح ـ!
ومع اضطلاع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية، ساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول المُستعمرة ـ وفي مقدمتها بلادنا ـ استقلالاً "زائفاً"، يسمح بانبثاق بدائل محلية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، تعمل ـ بوعي أو بلاوعي ـ على تكريس تخلف شعوبها، من خلال تجفيف منهجي لمنابع الحرية، يتجاوز في خسته المُمارسات الاستعمارية! وبحسب التاريخ، لم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لحكام بأعينهم في مساندتها لأنظمتهم ولمبدأ الاستقلال الزائف، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام الحاكم لواحدة أو أكثر من مصالح تلك القوة في المنطقة(5).
بانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن مساندة الاستقلال الزائف للبلاد العربية ـ على خلاف موقفهم المناهض له في دول إفريقيا جنوب الصحراء(6) ـ! حدث هذا، على ما يبدو، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة(7)، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطُلح على تسميته "الحرب الباردة".
نهاية الحرب الباردة لم تحقق السلام على الأرض، كما توقعت الولايات المتحدة وحلفاؤها! صحيح أنها احدثت استرخاء للتوترات الاستراتيجية، واتاحت فرصة للتركيز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ـ من منظور المصالح الغربية بطبيعة الحال ـ، غير أنه بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يفسرون بشكل ملائم جميع الأحداث التى تقع في العالم على أساس الانتصارات أو الهزائم للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفيتي، أصبح العالم المعاصر كتلة متشابكة من المتناقضات، ووجب على الأكاديميين وصناع السياسة ايجاد طرق جديدة يعرفون بها العالم!
وهذا بالضبط ما حصل! على سبيل المثال، ظهرت وجهة نظر يزعم أنصارها ان الدور التاريخي لـ"الأمة ـ الدولة nation-state" قد انتهى، مثلما انتهت حقبة "الديناصورات"، ويجب أن ترفضه خرائط القرن الـ21، على أنه دور تقادم عليه العهد(8)! إلى جانب العديد من الخرائط الأخرى للوضع الدولي "ما بعد الحرب الباردة"، لخص باستور ستاً منها، واصفاً اياها بأنها الأكثر تأثيراً(9):
[1] العولمة Globalization: إن أوجه التقدم التى حدثت في التكنولوجيا والاتصالات المقترنة بالقوة المتصاعدة للشركات متعددة الجنسيات قد عولمت السياسة والاقتصاد وقللت من دور الدولة. هذه العملية "غير الارتجاعية" يُتوقع أن تؤدي بشكل حقيقي إلى اقتصاد بلا حدود، وتحسن مستويات المعيشة للجميع.
[2] صدام الحضارات Clash of Civilization: يتحدد النظام العالمي الجديد بالصراع بين الحضارات وليس بالتكامل العالمي. ويُميز صمويل هنتنجتون بين تسع حضارات رئيسية: الغربية، وأمريكا اللاتينية، والأفريقية، والاسلامية، والصينية، والهندوسية، والأرثوذكسية، والبوذية، واليابانية. ويزعم هنتنجتون أن التنافس بين الدول الكبرى قد حل محله صدام الحضارات. فالتكامل الاقتصادي لن يجعل هذه الثقافات تتجانس، لكنها سوف تظل متمايزة ولا يمكن التوفيق بينها.
[3] النظام العالمي الجديدNew World Order : إن انتهاء التنافس على القوة العظمى أتاح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يلعب الدور الذي أنشيء من أجله: باتخاذ اجراءات جماعية لمنع وازالة العقبات التى تهدد السلام، وتعزيز حقوق الانسان. والتحالف الذى نشأ تحت مظلة الأمم المتحدة وأخرج العراق من الكويت كان علامة على ميلاد هذا النظام. والذي ظهر في الوقت المناسب، حيث قللت العولمة من قدرة الدول على إدارة الأنشطة العابرة للحدود الاقليمية بشكل فعال. ولا يمكن إلا لشكل واحد من أشكال الحكم العالمي أن يتعامل مع مشاكل انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التقلبات المالية السريعة أو التدفق الضخم للاجئين أو الخلافات التجارية أو التدابير المنظمة لابادة شعب أو ثقافة.
[4] السلام الديمقراطيThe Democratic Peace : إن قضايا السياسة العالمية هي شأن من شئون قضايا السياسة المحلية، ويعتمد السلام على انتشار قيم ونظم الديمقراطية، فالدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً على الأقل بعد أن تترسخ فيها الديمقراطية. ولذا تحدث التهديدات الرئيسية للسلام العالمي بين الدول التى يحكمها دكتاتوريون أو بين دول ذات أنظمة دكتاتورية ودول ديمقراطية.
[5] وحدة عموم الأقاليم :Pan-Regions ضغطت التكنولوجيا المسافات، ومنذ عام 1947 أزالت الاتفاقيات الدولية معظم الحواجز التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فالنتيجة لم تكن عالماً واحداً بل ثلاثة عوالم: فقد ازدادت التجارة داخل كل إقليم من الأقاليم الثلاثة(أوروبا، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا)، بسرعة أكبر من التجارة بين الأقاليم بعضها وبعض. ويهيمن على كل إقليم من هذه الأقاليم قوة: الاتحاد الأوروبي من خلال ألمانيا الموحدة، وأمريكا الشمالية من خلال الولايات المتحدة، وشرق آسيا من خلال اليابان، لكن الصين تنازعها الهيمنة بشكل متزايد. هذه الأقاليم الثلاثة تمثل نسبة 80% من انتاج العالم وتجارته.
[6] الدول States: حدث تغير جوهري في النظام الدولي بينما ظلت دوله تلعب الدور الأكثر أهمية. وكما هو الحال دائماً، فالدول الكبرى لها قدرة أكبر في التأثير على طبيعة قواعد النظام الدولي وشكلها. غير أن جميع الدول لها حق التصويت في المنظمات الدولية التى تطبق القواعد على نطاق كبير من الأنشطة.
توحي النظرات الاعتبارية الخمس "الأولى" بأن عصر الدولة القومية قد انتهى بسبب التآكل السريع للسيادة من خلال التفكك الثقافي أو التكامل العالمي أو التنظيم الدولي أو مجموعة تشتمل على دول مختلفة. غير أن تحليلاً أدق ـ فيما يرى باستور ـ يتيح للمرء أن يرى الدور الرئيسي الذى لعبته الدول في كل هذه الرؤى، كما يعترف بذلك العديد من المناصرين لهذه الرؤى. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤكد على أن المتغيرات الثقافية تعتبر أكثر أهمية في تفسير سلوك الدول، فإنه يعترف أيضاً بأن الدول ستظل اللاعب الرئيسي في شئون العالم، وتتضمن سيناريوهات الصراعات التى طورها في كتابه الشهير "صدام الحضارات"(10)، على صراع بين الدول الكبرى وليس بين الحضارات.
ويقول توماس فريدمان أن الدول الكبرى يجري استبدالها بأسواق كبرى(سوبر ماركت)، لكنه يزعم أنه بسبب العولمة والحدود المفتوحة فسيكون للدول شأن أكبر وليس أقل في وضع القوانين وتنفيذها. "تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقراً للقوة، ولا توجد دولة أكثر أهمية لذلك من الولايات المتحدة. فالانترنت وغيرها من التكنولوجيات التى يصممها وادي السيليكون Silicon Valley لنقل الأصوات الرقمية والصور التليفزيونية والبيانات حول العالم، وعمليات التكامل التجاري والمالي المستمرة في تعزيزها بابتكاراتها، وأيضاً كل الثروة التى تتولد عن ذلك، كلها تحدث في عالم تعمل على استقراره قوة غير ضارة، عاصمتها واشنطن دي سي. فمن ناحية، يرجع عدم اندلاع حرب بين دولتين توجد بهما مطاعم ماكدونالدز إلى التكامل الاقتصادي، ولكنه يرجع أيضاً إلى وجود القوة الأمريكية واستعداد أمريكا لاستخدام هذه القوة ضد أولئك الذين قد يهددون نظام العولمة، بدءاً من العراق إلى كوريا الشمالية. فلن تنجح اليد الخفية للسوق بدون وجود قبضة خفية. ولا يمكن أن تنجح مطاعم ماكدونالدز بدون ماكدونيل دوجلاس مصمم طائرة السلاح الجوي الأمريكي إف ـ15. وتسمى القبضة الخفية، التى تحفظ للعالم الأمان الذى يسمح لتكنولوجيات وادي السيليكون بالازدهار، جيش الولايات المتحدة، وسلاحها الجوي، ومشاة بحريتها. وهذه القوات المقاتلة والمؤسسات يدفع لها بالدولار دافع الضرائب الأمريكي"(11).
السلام الديمقراطي يقوم على أساس الدول، وخريطة عموم الاقليم تتكون أيضاً من دول، تكون الغلبة فيها لاحدى دول الاقليم. فالولايات المتحدة تصدر 90% من الانتاج الكلي و73%من التجارة إلى أمريكا الشمالية، واليابان تصدر 70% من الانتاج الكلي وثلث التجارة إلى عشر دول في شرق آسيا. وتصدر ألمانيا23% من انتاجها الكلي و28%من تجارتها إلى دول الاتحاد الأوروبي.
في القرن التاسع عشر، بدت القومية فكرة سياسية أكثر ضعفاً من فكرتي الليبرالية والاشتراكية، بيد أن الأفكار الثلاثة وجدت تعبيراً لها بصفة رئيسية داخل الدول. فقد غرست القومية في الدول الطاقة والتوجه الذى كان أحياناً ايجابياً وأحياناً مدمراً، على حد تعبير باستور. وبالمثل، وفيما يرى باستور أيضاً، يجري مع نهاية القرن العشرين إعادة تعريف مصالح وأولويات الدول عن طريق العولمة والهوية والديمقراطية، وبواسطة فاعلين جدد(المنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، والمؤسسات متعددة الجنسيات..الخ)، يعززون هذه المصالح والأفكار.
صفوة القول، ان الدول لا تزال هي الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، غير أن كلاً من هذه الرؤى الأخرى تزيد من فهمنا للأرضية التى تناور عليها الدول للدفاع عن أنفسها أو اعلاء مصالحها. والسؤال: أي الدول اليوم هي الأكثر أهمية؟ نحتاج إذن لتعريف "القوة"، وبعدها نُحدد الدول الأقدر على التأثير ـ عالمياً ـ.
"القوة" مُصطلح مراوغ! وفي محاولة جوزيف ناي الابن لتعريفها، قارن في البداية القوة بالطقس ـ الذى يسهل التحدث عنه أكثر من فهمه ـ وبعد ذلك قارنها بالحب الذى يسهل معايشته عن تعريفه أو قياسه! وإذا عُرفت القوة بالمصطلحات العسكرية التقليدية كقدرة على سحق العدو، حينئذ فإن الاسلحة النووية تعتبر المؤشرات الرئيسية، ولا تزال الولايات المتحدة وروسيا من أكبر دول العالم قوة، واذا عُرفت القوة بقدرة الدولة على انتاج السلع والخدمات، فسوف يكون اجمالي الناتج المحلي هو المؤشر الأفضل، وأعلى اجمالي تمثله دول كالولايات المتحدة.
مفهوم القوة تغير كثيراً مع الزمن، على نحو واضح، ففي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كان يُعتقد على نحو واسع أن الحكومات التى تستطيع تعبئة أكبر عدد من الجيوش واطعامهم ويمكنها أن تجبي الضرائب من أكبر عدد من السكان سوف تفوز في الحروب، لذا كانت القوة غالباً ما تكافيء عدد سكان الدولة ومساحات الأراضي التى تستزرعها. وفي القرن التاسع عشر، كانت الصناعة والسكك الحديدية مصادر أكثر أهمية عن الزراعة أو مساحة الأراضي. وكان لدى روسيا عدد سكان أكبر من ألمانيا لكنها كانت أضعف منها، لأنها كانت تفتقر إلى ما كان لدى ألمانيا من السكك الحديدية الحديثة، والبنية الصناعية.
وبدءاً من صناعات النسيج الأولى والثورات الصناعية ومروراً بالثورة الكيمائية والنووية والمعلوماتية ـ أياً كان ما يُطور من تكنولوجيا جديدة أو معرفة أو ما يُمتلك من ثروات يُعتمد عليها ـ، فإن الدولة تجد نفسها في مقدمة منحنى القوة. فاختراع بريطانيا للآلة البخارية ووفرة الفحم جعلاها في مقدمة الثورة الصناعية. وعلاوة على ذلك، كانت أنواع معينة من الدول قادرة بشكل أفضل على استغلال مراحل معينة من التصنيع، فالاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، كان قادراً على استخدام قوة التخطيط المركزى لتطوير صناعات الصلب الضخمة والكيماويات والمعدات الرأسمالية، غير أن اقتصاده الموجه أصبح عبئاً في عصر الكمبيوتر. تعلمت اليابان أن الطريق الصعب باستخدام الجيش من أجل الحفاظ على البترول والفحم كما فعلت في ثلاثينيات القرن ال20، أكثر تكلفة وأقل فاعلية من الاعتماد على السوق والتكنولوجيا، وهي ما اتجهت إليه بعد خمسة عقود.
الحكمة اليوم هي أن الدولة تستمد قوتها من النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، وتصبح التكنولوجيات مصدراً للقوة إذا أمكنها اختصار الزمن أو المسافة أو الفضاء، فالانترنت تُعتبر بحق التكنولوجيا الجديدة الأكثر قوة لأنها تنقل المعرفة والمعلومات إلى أشخاص أكثر وبصورة أسرع وأرخص وأسهل من أي وسائل اتصالات أخرى موجودة، ففي العقد من 1988 إلى 1998 الذى استخدمت فيه الانترنت على نطاق واسع، عملت الانترنت على تحفيز الصناعة بأكملها، وبحلول 1998 كان ثلث النمو الاقتصادي للولايات المتحدة يُعزى للانترنت.
الانترنت وقوة المعلومات تزيد من قدرة الأفراد والمنظمات غير الحكومية على التأثير في السياسة الخارجية والشئون السياسية الدولية. ولن نجد ـ والكلام لباستور ـ مثالاً أفضل لهذا من جودي ويليام، وهي سيدة شابة تعمل من خلال منزل متواضع في ولاية فيرمونت. ففي غضون ست سنوات من خلال عملها على الانترنت، استطاعت ويليام أن تنظم ائتلافاً من 1300منظمة غير حكومية في 60دولة وقامت بصياغة اتفاقية دولية لمنع انتاج وتخزين واستخدام الألغام الأرضية على مستوى العالم. وعلى الرغم من معارضة الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقد أعدت المنظمات غير الحكومية حملة لوبية ناجحة استطاعت أن تجعل 122 دولة توقع اتفاقية في أوتاوا في ديسمبر 1997. وفازت ويليامز بجائزة نوبل لدورها في تنظيمها، واستخدام سيدة أعمال عادية لتكنولوجيا جديدة من أجل تعزيز معيار دولي، يعتبر هذا نوعاً جديداً من القوة في عصر جديد.
في عالم الحكم المطلق والحماية الجمركية تُعتبر الأرض مصدر القوة، وفي عالم التجارة الحرة تعتبر الأرض أقل أهمية، فدولة صغيرة مثل سنغافورة أو دولة تتكون من مجموعة جزر مثل اليابان يمكن أن تكون دولة ثرية وقوية. وكما ذكر ريتشارد روزكرانس فإن فهمنا لمعنى القوة قد تغير مثلما تغير العالم من "الدولة الاقليميةterritorial state" إلى "الدولة التجاريةtrading state" إلى "الدولة الافتراضيةvirtual state"، حيث تكون المعلومات وجميع عناصر الانتاج اجمالاً لها القدرة على الحركة والتأثير. ميزة متغيرات القوة المادية(العسكرية والسكان والاقتصاد والأراضي والثروة الطبيعية) هو أنه يمكن قياسها ويُعترف بها عالمياً على أنها مؤشرات للقوة. أما القوة غير المادية فهي معنوية ومن المستحيل قياسها، غير أن هناك مؤشرات بديلة لروعة جمال وجاذبية أي دولة، فقوة الولايات المتحدة الأمريكية غير المادية تظهر في المهاجرين والطلاب الذين يفدون إليها.
العلاقة بين القوة المادية والقوة غير المادية لم تُكتشف بعد بشكل كاف، والعلماء كلما حاولوا فهم "القوة" استعصت الاحاطة بها! لكنه، وفيما يرى باستور، توجد بعض التوضيحات المفيدة. أولا، يمكننا أن نفرق ما بين المؤشرات العسكرية والاقتصادية للقوة المادية حتى لو لم يكن في استطاعتنا مقارنتها أو إجمالها بسهولة. ثانياً، جعلت فكرة القومية والمعايير الدولية من استخدام القوة المادية أكثر تكلفة، ومن ثم تزايدت أهمية القوة غير المادية. ثالثاً، لا توجد إجابات بسيطة عن أسئلة مثل أي أنواع القوة التى يحتمل أن تكون أكثر فاعلية في إجبار أو إقناع خصم، حتى في الحرب، بل بصفة خاصة في وقت السلم أو أثناء المفاوضات.
على أية حال، من شأن تحليل سريع لمؤشرات القوة المادية والقوة غير المادية أن يُظهر، أن الدول السبع التالية: بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين، هي الدول الكبرى في العالم..
ولقد كانت للولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية التى مكنتها من أن تحتل المرتبة الأولى على المسرح العالمي منذ بداية القرن العشرين، غير أن امكاناتها العسكرية لم تبلغ درجة التفوق إلا بعد دخولها الحربين العالميتين ـ الأولى والثانية ـ. قوة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، ولكن على الرغم من وضعها البارز هذا، فانها أظهرت على نحو مُلفت قدراً من التناقض بشأن زعامة العالم!
هناك دول أخرى، في رأي باستور، قد تنضم أو تحل محل الدول الكبرى في القرن الحادي والعشرين. وتعتبر الدول المرشحة الأكثر وضوحاً حالياً قوى اقليمية، لما لها من تأثير ملحوظ في مناطقها. ومن المحتمل أن يزيد تأثيرها عن تأثير الدول الكبرى. ففي أمريكا اللاتينية، تعتبر البرازيل والأرجنتين والمكسيك قوى اقليمية. وفي أفريقيا، نيجيريا وجنوب افريقيا. وفي الشرق الأوسط، العراق وايران ومصر. وفي آسيا، الهند واندونيسيا والباكستان لها تأثير خارج حدودها.
تحميل المقال كاملا من هنــــــــــــــــا