في سوسيولوجيا الإسلام ثمة ظاهرة لافتة، كلما أمعن رمز من رموز الطغيان في تلويث الدين ومسخه إلا وأسرع إلى تشييد أفخم الجوامع وأبهى الصوامع. وليْته قنع بذلك لأنه ليس ممن يعمرونها طويلا، فقصارى ما يبغيه من صنعه تخليد اسمه. لكن حاكم تونس الذي أطاحت به ثورة الشعب لم يقنعه تشييد الجوامع، فتفتقت عبقريته إلى اكتساح أسماء الساحات والشوارع، حتى كادت ألا تخلو بلدة أو مدينة في تونس من تسمية "شارع 7 نوفمبر". لكن لا الجوامع ولا الشوارع أطفأت مكنون الجوارح، فكان البحث عن دكتوراه فخرية من جامعة غربية يتقلدها "باكالوريا ناقص ثلاثة" كما يسميه التونسيون، أي "ختم الدروس الثانوية تنقصها ثلاث سنوات"، وهو المستوى التعليمي الحقيقي لبن علي.
عشية يوم أبلغتني أستاذة الأدب العربي إيزابيلا كاميرا دافليتو، الزميلة في جامعة الأورينتالي في نابولي، حين كنا ندرس هناك سويا، أن أعوان رئيس تونس وفدوا حازمين لانتزاع شهادة فخرية لولي أمرهم، عارضين إغراءات شتى على عميد الجامعة وعلى هيئة الإشراف. فالأوريِنتالي -الشرق- هي من أعرق الجامعات الأوروبية وأشهرها في تدريس الاستشراق والاستعراب والإسلاميات. حينها كنت الأستاذ التونسي الوحيد في تلك الجامعة، لم يخاطبني أعوان المخلوع في الأمر، لأنهم يعون أن هواي ليس معهم، ربما لأنهم يدركون أني زيتوني، ويعلمون أني حقي في الشغل في بلدي ملغي منذ سنوات، وأن جواز سفري التونسي صودر لعدة سنوات، ففكروا وقدروا تجنّبي.
كان موقفي متماثلا مع موقف الزميلة إيزابيلا كاميرا دافليتو، وهو ما سعينا للإعراب عنه إلى الزملاء، فكان قرار هيئة الإشراف متناغما مع ذلك، وإن أتى بلغة منمّقة ظاهرها الاعتذار وباطنها الرفض القاطع.
يومها غادر العرّابون الجامعة خاسئين، ولم يهنأ لهم بال حتى اشتروا له اسم "شُوَيْرَع" في بلدة إيطالية نائية، وعلا ضجيج الإعلام التونسي المدجَّن أشهرَ عن تكريم الرئيس في الخارج، وتصوروا أنهم عادوا من إيطاليا غانمين.