في تشخيصنا لحالة ميزان القوى الاجتماعي ما قبل 20 فبراير، وبغض النظر عن المعطى الموضوعي الثابت لاستبداد المخزن وفساد نخبه الإدارية والاقتصادية والسياسية وطغيانها، كنا نركز نظرنا على تشتت الحركات الاحتجاجية الشعبية من حيث محليتها وفئويتها، ناهيك عن افتقادها للربط بين المطلب الاجتماعي الفئوي وتأطيره السياسي العام. هذا التشتت وهذا الطابع الخبزي هما بالدرجة الأولى مفعولان للممارسة الكابحة من طرف البيروقراطيات القائدة لإطارات النضال الجماهيري (عن وعي مصلحي أو بسبب انعدام الأفق السياسي)، ولتخلف الوعي السياسي للجماهير المحتجة، وآنية مطالبها، أكانت منظمة أو عفوية. الأمر يتعلق إذن بغياب سيرورات مجمعة وممركزة ومسيسة للنضالات، وغياب قوى سياسية قادرة على، وراغبة في الانغراس في هذه البؤر الاحتجاجية من أجل حفز تلك السيرورات وتأطيرها.
تشكلت حركة 20 فبراير انطلاقا من نواة شبيبية حركها بشكل مباشر امتداد تأثير موجة العصيان الشبيبي والشعبي المسيس المسماة بالربيع العربي. ولكن يمكن القول أن هذا التحرك الشبيبي كان أيضا نتيجة صيرورة تمرد كانت تتراكم بشكل كامن ضد أشكال الاستلاب التي تقيد طاقات الشباب، وأهمها استلاب السلطة الأبوية المحايثة للجسم الاجتماعي بكل خلاياه (الأسرة، المدرسة، الحزب، العمل...)، ناهيك عن الحرمانات التي تسيج حياة الشباب وتمنعهم من التمتع بعنفوان شبابهم وتفجير طاقاتهم الكامنة (الحرمان من تعليم منطلق من انشغالاتهم ومتطلباتهم وموجه نحو تفتح الشخصية الإنسانية بكل أبعادها ،الحرمان من دخل يضمن العيش الكريم، انعدام إمكانية تحقيق الذات في شغل مناسب، استلاب الحياة العاطفية والجنسية...). فالشباب يسعى إلى امتلاك قرار مصيره و يبحث عن حياة سعيدة. وما أتاح له جرأة إخراج هذا المسعى من حالة الكمون إلى حالة المطالبة الصريحة والمنظمة هو انكسار حاجز الخوف بعد سقوط أسطورة الطاغية المطلق الجبروت في تونس ومصر. تشكلت هذه النواة الشبيبية من شباب غير منتمين سياسيا وناشطين جمعويين وشبيبات الأحزاب والتيارات اليسارية الجذرية (النهج، الطليعة، اليسار الموحد، تيار المناضلة، المؤتمر الاتحادي) والإسلامية الراديكالية(العدل والإحسان). وأسوة بنماذج الربيع العربي رفعت الحركة منذ الأرضية التأسيسية الأولى ومنذ الشكل الاحتجاجي الأول(20فبراير) شعارات سياسية تتجه نحو التغيير الجذري للنظام وربطت كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بإطارها السياسي أي بطبيعة النظام المبني على الاستبداد والفساد. الأمر يتعلق إذن بطفرة في شكل النضال حيث غدا ممركزا ووطنيا ومسيسا. إلا أن هذه الطفرة راجعة بالدرجة الأولى إلى عامل إرادي وإلى الوعي السياسي المتسارع لدى الشباب نتيجة موجة تسييس الربيع العربي. وليست ناتجة عن تراكم داخلي وقاعدي نابع من تجميع ومركزة وتسييس الحركات الاحتجاجية الجماهيرية الموجودة على الأرض. هناك سرعتان للنضال إذن:
حركات احتجاجية عمالية وشعبية مازالت تتخبط في جزئيتها(عمال زراعيين بالجنوب، فقراء تنغير، كادحو المناطق الفوسفاطية، مجموعات المعطلين..) وحركة طليعة شبيبية مسيسة لكن دون رابط بينهما، اللهم التعاطف والمشاركة الفردية لفئات عمالية وشعبية في مسيرات 20 فبراير. الأمر كان مختلفا شيئا ما في تونس ومصر، فرغم التشابه في نقطة البدء-التمرد الشبيبي كمفجر- وفي انعدام التراكم على مستوى الحركات العمالية والشعبية إلا أن سيرورة المركزة تمت بسرعة كبيرة إبان سياق العصيان الذي صنعه الشباب. بالالتحاق الميداني والسياسي لاتحاد عمال تونس، وبالإضرابات العامة التي شلت حركة الاقتصاد في مصر.
إن الرهان الأساسي الآن هو ردم هذا التفاوت بين الديناميتين المذكورتين أعلاه حتى تتحول الحركة إلى جبهة شعبية حقيقية من أجل التغيير الجذري.
مؤشرات ربح هذا الرهان هي: أولا، قوة الجذب النسبية التي أصبحت تميز الحركة رغم الحملات التشويهية من قبل النظام. وثانيا، التواجد الوازن لقوى اليسار الجذري في مركزيتين نقابيتين مهمتين (كدش والتي يقودها اليسار بشكل أساسي و إم ش،) والجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين، والجمعية المغربية لحقوق الانسان... وثالثا، التقارب الأيديولوجي والبرنامجي لهذه القوى. ورابعا، النجاح النسبي حتى الآن للتنسيق الميداني بين مختلف المكونات السياسية في الحركة.
ولكن ما يشكل كابحا ممكنا لتقدم هذه السيرورة هو الثقافة السياسية والتنظيمية المترسخة في مناضلي وقيادات هذه المكونات السياسية (العصبوية، الربح السياسي، عدم اللعب بكل الاوراق مع المخزن...)، وغياب النقاش السياسي الواضح والرصين حول تقييم المرحلة ورسم آفاق للحركة واقتصار لقاءات التنسيقيات والجموعات العامة على التدبير اليومي للتعبئات(باستثناء الندوة التي نظمها حزب الطليعة 26/08/09 التي تم الاكتفاء فيها باعلان المواقف العامة بشكل فضفاض وحسن النوايا). بالإضافة إلى الموقف الغامض للعدل والإحسان من شكل الدولة ونظام الحكم، أهو دولة دينية (الخلافة) كما هو موجود في أدبيات الجماعة منذ تأسيسها أم دولة دنيوية حديثة تضمن الحريات العامة والفردية لجميع المواطنين، وتستمد تشريعاتها ومشروعيتها من الإرادة الحرة والتعاقدية لهؤلاء المواطنين وليس من مرجعية لدنية تضفي القداسة على الحاكمين وتعيد إنتاج الاستبداد بشكل أفضع. ما دامت هذه هي روح الديقراطية وليس الاقتراع العددي الشكلي للجموع فحسب. ولا ننسى أن حاجز الخوف الذي تجاوزه شباب 20 فبراير، تقابله حواجز خوف أخرى مازالت قائمة في وجدان وأذهان عموم الجماهير الشعبية، أهمها الخوف من أن يكون شأن قادة الحراك الجديد هو نفس شأن القيادات التقليدية، أي الخوف من الخيانة.
من كل هذا نخلص إلى ضرورة:
تجاوز الخلافات اللغوية الصرف بين مكونات اليسار، والحواجز النفسية الموروثة من مرحلة السبعينات والثمانينات التي بعضها محض شخصي.
ضرورة أن يقدم الإسلاميون مراجعة فكرية وبرنامجية واضحة، بما فيه تقديم النقد الذاتي عن ممارساتهم الدموية السابقة في حق مناضلي الشعب المغربي(بنجلون، بوملي، بنعيسى...).
تكثيف الجهود من أجل الربط بين سرعتي نضال مختلف الفئات العمالية والشعبية من جهة وحركة 20 فبراير من جهة ثانية، في أفق بناء جبهة اجتماعية سياسية شعبية واسعة تميل ميزان القوى بشكل حاسم لصالح المضطهدين. بما يستلزمه ذلك من البلورة التدريجية، المبنية على الممارسة والدراسة الملموسة والنقاش الجدي، لاستراتيجية الانتقال الديمقراطي.
محاولة تشكيل مصداقية نضالية جديدة، في أعين الشعب المغربي، مبنية على الصدق في الخطاب والممارسة.