يقول علماء المناهج إنه لمن الصعوبة بمكان أن يكون الباحث محايداً طالما أن هناك عوامل بيئية وجبرية تؤثر على طريقة تفكيره، ولذلك نجد أن إنصاف الغير المخالف لنا في الرأي عزيزٌ ونادر، ولكن مع هذه العقبات الكؤودة فيما يخص مسألة البحث الموضوعي فالواجب أن نسدد ونقارب آملاً في الإقتراب من الحقيقة، هذا مع علمنا بأن الحقيقة المطلقة أمرها لله وحده.
أقول قولي هذا، وفي ذهني الاعتراك السائد بيننا الآن فيما يخص مسألة السيادة، وهل تكون للشريعة الإسلامية وحدها، أم أنه لا بد أن يكون للأمة منها نصيب، واعتقد أن المعارك التي دارت في هذا الصدد جاءت جلها انتصاراً للذات وإبرازاً للعضلات وإظهاراً للفتوة الفكرية ، وكان التجرد والبحث عن الحق فيها قليل جداً، مع أن القضية موضوع النقاش ليست بالجديدة ،وإنما هي معادً من القول مكرورُ، فقد لاكتها الألسن واجترتها العقول وأشبعت تنظيراً ، بل بعض محاورها حكته لنا التجربة العملية على مدار سنين طويلة وبأساليب متباينة وفي أزمنة وأماكن مختلفة ، وحررت بشأنها شهادة مجانية لم تحتج لجهد مجتهد ، فما أظن أن ضوء الشمس يخفى إلا على من به رمد.
إن قلة من العقلاء المتجردين – وهم ندرة نادرة – يحسنون النوايا في الآخر ، ويعتقدون في سلامة مقصده وسمو غايته طالما أن المجال مجال فكرٍ وتأمل، وأن الدلاء مهما تباينت سعتها واختلفت حبالها من حيث القوة والوهن فإن عين الماء المنهول منه واحد وأن الغاية المقصودة هي الإصلاح والفلاح لأمة اعترتها حالة أهل الكهف فأراد ربك لها أن تفيق بعد سبات، ولذلك ينبغي أن لا تحدث بيننا المشاحة المفضية للحقد والقطعية ما دام أن الأمر أمر إجتهاد وأخذٍ ورد ونقاش.
هذه التوطئة كان لا بد منها، وأنا أقارب هذا الخضم الفكري والسجال الهائج بشأن مسألة السيادة ، وهل هي للأمة أو أنها يجب ان تكون للشريعة الإسلامية المطهرة، وبما أن الأمر قد سال به مدادٌ كثير ، وسطرت فيه مقالاتً طوال ، وبحوث عظيمة كان أثر السهر والاجتهاد فيها ملموسا، لذا فإني لن أجنح إلى التنظير ، بقدر ما أسعى ما وسعني الجهد إلى لفت الأنظار إلى واقع التجربة العملية التاريخية التي احتواها الزمان والمكان وولدت وقبرت فيها حكومات ودول، تجربة عالمنا الإسلامي ودولتنا الإسلامية على مدى أربعة عشر قرناً، وأعتقد في هذا الصدد حد اليقين أن هذه التجربة العملية هي المحك الفيصل الذي يحكم بين المتخاصمين المتباينين في الرأي بشأن قضية السيادة ولمن تكون.
إننا اليوم نعيش في المائة الرابعة بعد الألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى على الناظر في التاريخ الإسلامي أنه قد تفاصلت أمام أعيننا بشأن هذه الفترة التاريخية الطويلة ثلاث مراحل، علاماتها الفارقة لا تحتاج إلى طلب الدليل، أولاها مرحلة التأسيس التي قام على أمرها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ، ويطيب لنا أن نسمي هذه المرحلة الجليلة بمرحلة (التطبيق المعصوم) لارتباطها العضوي بالوحي المقدس (إن هو إلا وحيٌ يوحى)، وثانيها – أي المراحل التاريخية الإسلامية – هي مرحلة الراشدين ، وهذه المرحلة أيضاً فيها من أثر النبوة ما لا يخفى على الباحث الموضوعي، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة ما بعد الراشدين ( الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين)، وهذه المرحلة بدأت يوم أن تحول أمر المسلمين إلى ملكٌ عضوض،وتعاورتها أمة المسلمين ودارت في فلكها حتى يوم الناس هذا، ويطيب لي أن أسمي هذه المرحلة ، مرحلة شرعية التماهي مع الشريعة الإسلامية بحثاً عن المشروعية، وقد تعرضت الشريعة الإسلامية في هذه المرحلة إلى اختزالاتٍ لا تخفى على الباحث، بدلالة الإعراض عن تطبيق كل نصوصها ذات العلاقة بالحاكم ومحاولة تأويلها بما يخدم قضية الحاكم، مع أن الواقع العملي خلال هذه المرحلة الثالثة الممتدة من نهاية حكم الراشدين وإلى يومنا هذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن السلطة ظلت تتنقل بين الخلفاء والملوك بالتغلب بالسيف ، في تعارض صارخ مع أحكام الشريعة الإسلامية التي جعلت أمر المسلمين شورى بينهم على نحو ما حصل في ولاية الراشدين رضوان الله عليهم ،الذين ولوا الأمر جميعهم بآلية الشورى من غير إكراهٍ ولا تلبيس، بغض النظر عن أداة التطبيق لألية الشورى المذكورة.
وهذا الاختزال الذي تعرضت له الشريعة الإسلامية ، وإبعادها المتعمد عن تنظيم تدوال السلطة والحكومة ، هو الذي فتح المجال واسعاً لبروز فكرة سيادة الأمة، ولا أجد نفسي مبالغاً، إن قلت: إن إبعاد الشريعة في هذا الصدد جعل اللون الأحمر القاني المداد الأشهر في كتابة تاريخ الحكم والسلطة في مرحلة ما بعد الراشدين.
وبما أن السيادة أمر نظري لا يمكن تنزيله إلى الواقع العملي إلا عبر آلية السلطة ،فإن الحديث عن السلطة من حيث سببها ومشروعيتها يجب أن يكون قطب الرحى وبيت القصيد الذي ينبغي أن يدور حوله النقاش وينصب عليه التحقيق، ولنا في هذا الصدد أن نسأل عن كم الحكام الذي ولووا الأمر برضا الأمة ورغبتها ، ونقارن ذلك بالذين ولوه بالقهر والتغلب؟ لا أظن أن الإجابة على هذا السؤال على الناس بخافية؟ والتاريخ كما قلنا سابقاً هو شاهدً عدلٌ إن نجا من التحريف فلن تجده منحازاً لأحد، فلنرجع إليه جميعاً فهو على علات تحقيقه وتدوينه يشفى الغليل.
لكن قد يجابهنا أحدٌ بسؤال مناهض ظل بيننا مكروراً، سؤالٌ صيغته تقول: أين المشكلة، ما دام أن الحاكم المستبد العادل يحمي بيضة الإسلام ويتحرى العدل في أمر الرعية؟
ألا تتتفق معي أخي القاريء أنه بالوقوف على هذا السؤال ، يتولد تساؤل آخر تسنده البداهة والمنطق العقلي، سؤالٌ مضمونه يقول : ما الذي يضطر أمة خالدة تقوم على أمر دين صحيح وشريعة قويمة أن تراهن في مستقبلها على الحظ وعلى مدى تدين الحاكم الجديد المتغلب؟ وهل في ظنك أن هناك مغامرة ومخاطرة تتفوق على هذا الرهان الشخصي الخاسر؟ وهل من سخف أكثر من أن يناط أمر أمة بأكملها ،بفردٍ أن صلح صلحت، وإن فسد فسدت شمائلها وأحوالها؟ قل لي بربك كم من ملايين الأنفس الزكية المسلمة أزهقت أرواحها ظلماً وعدواناً في سبيل الوصول إلى السلطة عبر آلية القهر والتغلب ؟
إني في هذا المقام أربا بك أخي القارئ من التورط في التوهم أو الغفلة التي قد تصور لغير اللبيب أن هذا الدين الذي أرشدنا ونظم لنا حتى أخص شؤون حياتنا وخفيها يمكن أن يكون قد غفل عن تنظيم شأن عظيم مثل مسألة الحكم الذي به الصلاح والفلاح لأمر معاشنا وأمر معادنا ليحلينا إلى آلية التغلب لتكون الحكم بيننا في هذا الأمر الجلل.
ومن باب آخر ألا تتفق معي وفق بدائه الأشياء، أن القول بولاية المتغلب يفتح الباب على مصراعيه لضربٍ من الدور والتكرار لا ينتهي بنا إلا إلى مزيد من سفك الدماء، نعم إن البديهة تقول إن تبني آلية التغلب لا تجعل الحاكم المسلم العادل يأمن على أمر حكمه وأمر رعيته ممن يقول بهذه الآلية ، ذلك أن القائلين بهذه الآلية سيكونون أول من ينفض من حول حاكم المسلمين لمبايعة "خارج" قد أفتوا "بكفره" في بادئ أمره فلما ثقلت موازينه بالقوة أصبح وليا لأمر المسلمين!!!!، ومثل هذا المنطق لا بد أنه يكشف نفاقاً وانعدام لوجود المبدأ في سلوك الذين يقولون بهذه الآلية المرهقة للأمة، حيث أنهم يمليون إلى حيث مال السيف ، ويسبحون بحمد المتغلب فإذا ضعف تجافوه وتفلوا عليه تفلاً مهينا.
وخلاصة قولي ما وودت من هذا المقال إلا أن ألفت نظر المتخاصمين فكرياً على مسألة السيادة ولمن تكون، إلى الركون إلى الواقع التاريخي والممارسة العملية للحكم والسلطة عبر التاريخ الإسلامي ، فهي في وجهة نظري خير حكم يحرر قضية النزاع ويقيم بين المتحاورين موازين القسط والعدل، فكل المتنازعين في هذا الشأن مسلمين يحدوهم البحث عن الصلاح والإصلاح، فإن حسنت النوايا فإنه لا ينبغي المزايدة بأمر الشريعة في مسألة أثبت التاريخ أنها كانت بمثابة حصان طروادة لأسباغ الشرعية على حكم المتغلبين بالقوة المادية، ولا أظن أن هناك مسلم حسن إسلامه يرضى للشريعة أن تظل تنظيراً معلقاً في الهواء في كل ما يخص أمر الحكم والسلطة.
ولست هنا لأنتصر لهذا القول أو ذاك، وأيا كان موقفي من سيادة الأمة إلا أني أجد نفسي متفهماً للأرضية التي نشأ فيها هذا القول،وأدرك تماماً بأن المنافحين عنه يفتقدون الملكة العجيبة التي مكنت المناهضين لهم من القدرة على التعايش مع التناقضات التي أفرزتها التجربة العملية وأثبتتها الممارسة التاريخية ، ويكفيهم – أي المنافحين عن مبدأ سيادة الأمة – أنهم وضعوا أصابعهم على جرحٍ قديم طالما جفل الآخرون عن تضميده، وتباعدوا عن علاجه مؤثرين السلامة والهروب.
إن جذوة الإيمان المشتعلة في قلوب كثير من الباحثين الذين دافعوا عن سيادة الشريعة لن تغير من تاريخنا المفجوع شئياً، فضلاً عن أنها لم تحمي الأبرياء ولم توقف نزف دمائهم بتقوقعها مع الموروث فيما يخص مسألة سيادة الشريعة وتطبيقات أحكامها ،مع أن كثير من هذا الموروث هو في الحقيقة أراء رجال، وقد ثبت بتداعي التاريخ وسيره بطلان الكثير منها فيما يخص المسألة موضوع نقاشنا هذا ، وعلى العموم فإن فهم الأمور على حقيقتها لا بد أن نميز فيه بين الخطاب العاطفي الحالم وبين التجريب الواقعي والنتائج العملية لتطبيقات هذا الخطاب. التي جاءت في جلها سلبية، ويكاد الإيجابي منها بعد الجهد يندرج في باب الاستثناء والقليل النادر.
فاتركوا سيادة الأمة جانبا ـ إن أردتم ـ و لكن قدموا للمسلمين قاعدة ثابتة واضحة جلية لإنزال السيادة إلى سلطة تطبيقية، فكفى سذاجة في التعاطي مع هذه القضية المصيرية، و كفى تقعرا في التنظير الأجوف و كأنكم تبشرون بمنهج جديد في هذه القضية غير المنهج الذي عرفناه و خبرناه و جربناه ما يربوا على الألف سنة و لم نجن منه إلا البوار.
الله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،.