لم تكن الحركة الإسلامية في يوم غائبة عن المشهد السياسي في العالم العربي كما يدعي الكثير بأنها حركات وليدة لحظة تاريخية قريبة بعدما طفت على السطح الحركة العلمانية خلال القرن العشرين، ومع طفرة فكرة القومية كفاعل بنيوي أساسي في الفكر والحركة السياسية، ومع تصدر فكرة الاشتراكية في حقبة المد المادي للكتلة الشيوعية، وما رفد منها من مسالك متعددة لتكوين النظم، وما كان متجلياً بانعكاسه على الصراع الثنائي بين الشرق والغرب، و الظروف الدولية التي أنتجتها الحرب الباردة، وما تلاها من انهيار للمنظومة الاشتراكية أمام اتساع القناعة بالفكر الليبرالي.
يمكن القول أن المنطقة العربية شهدت على المستوى السياسي عاملا جاذبا لانعكاس ما يشهده العالم من تغيرات فكرية وسياسية واقتصادية، بدأت هذه القابلية للتأثر المباشر مع انهيار الإمبراطورية العثمانية آخر حالة تعترف بأنها خلافة إسلامية، وانكشفت أكثر مع مشروع سايكس_بيكو (1919) الذي أوجد "الدول" العربية القائمة الآن، كانت خلالها السياسية العربية سياسة قبلية، ملكية، ثيوقراطية، وكانت معها الظروف تسمح بوجود هذه الأنماط من الحكم السياسي نتيجة لعدم تبلور مشروع انعتاقي تقوده نخبة متنورة تدفع بالمجتمعات العربية نحو نماذج تحاكي ضرورات المستقبل وتحدياته، ومع عودة الغرب للاهتمام بالمنطقة أوجد دافع خارجي، فتظافر المخاض الداخلي العسير داخل المجتمعات العربية مع الأطماع الخارجية، رغم اختلاف توجهات وأهداف كلاهما، إلا أن نقطة الالتقاء كانت لدى الحركتين تتمحور حول حتمية التغير.
فيما يتعلق بتبلور الشخصية الوطنية العربية المستندة على نخبة تسعى لبناء ذاتها وجدت هذه النخب المتكونة في التجارب السياسية في الغرب نموذج للاقتداء والتقليد في نماذج الدولة القومية-الدولة الاشتراكية-دولة الرفاهة.
ولكن هذه النخب لا يمكن مضاهاتها بفكرة النخبة في الغرب، لأنه وبهذا الشكل لم تتبلور بعد لوجود كوابح متعددة ومقيدات الثقافة السياسية المختلفة المبنية على خلفية أبوية بطريركية، ولكن أمام حتمية التغيير التي أحدثها المناخ الدولي، امتلك العسكر زمام المبادرة وتلبية متطلبات الفعل، فتوالت "الانقلابات"العسكرية في الأقطار العربية متسلحة بفكرة القومية-الاشتراكية، وتولت سقف الحكم بفعل الواقع والقدرة، وغياب نضوج كافي للنخبة، وعدم استعداد الحركات الإسلامية للظهور (إذا أخرجناها من دائرة النخبة التي نقصد) كان لابد "للقيادات العسكرية التي تولت الحكم من البحث عن دعم دولي وفكرة سياسية جاذبة وقريبة من الأكثرية الشعبية قادرة على أحداث التفاف جماهيري حولها، وهنا لن نقصد أن التوجه نحو الشرق كان محل اختيار، ولكن الاندفاع من الأصل كان على الأرضية الاشتراكية التي تم تسويقها باعتبارها الأنسب والأصلح للتغير الايجابي في حياة الحيز العام، فتم عسكرة للتغيير بالانقلاب وليس بالثورة.
من هنا استمدت الأنظمة العسكرياتية شرعيتها في الحكم، ولكنها في إدارته لم تكن تسعى إلى دمقرطة الحياة السياسية، بقدر انشغالاتها في المحافظة على إدامة الحكم (فسرعان ما تحولت هذه الأنظمة العسكرية من حركات رديكالية إلى أنظمة محافظة) وعملت على ذلك بخلق مبررات الوهم بالمواجهة مع الغرب، وسياسة الأحلاف والتكتلات، وتحرير فلسطين، والانشغال بتحقيق الوحدة، التي جعلت من التحول الديمقراطي موضوعاً هامشياً، وتمأسست هذه السياسات وتغلغلت في نسيج بناء "الدولة"، وولدت لدى الشعوب العربية حالة قبول مبدئي بأهمية إدامة حكم العسكر.
خلع العسكر بزتهم العسكرية وامتطوا ثوب السلطان مكرهين أمام ضغط الحاجة إلى التوائم والتكيف للحفاظ على ديمومة الحكم وصولا للتوريث.
جاء المنعطف التاريخي الهام في حياة هذه الأنظمة العربية مع حرب الخليج الثانية 1991 عشية انهيار الاتحاد الاشتراكي، وتفكك ما كان يسمى حتى وقت قريب "بالنظام الإقليمي العربي"، وانفلات المشروع الأمريكي الليبرالي في المنطقة، فباعتقادنا كان عقد التسعينات تاريخاً فارقاً لما كان محملاً بحمولة فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية متعددة الأبعاد والتأثيرات، فعاد صوت الليبراليين للارتفاع من خلال الدعم الأمريكي لنخب مختارة ومصنوعة، وسياسات العولمة الاقتصادية، هذه الظاهرة الجامحة التي مست مفهوم السيادة بشكل مباشرة، كذلك عولمة النمط الثقافي الغربي، مع ذلك وجدت الأنظمة العربية نفسها مضطرة إلى الدخول في مواجهة مبطنة مع الليبرالية، ليست مواجهة بالتحدي أو الصدام ولكنها مواجهة نحو التسابق لتقديم نموذج يدعي الواقعية قادر وبغمضة عين أن يتحول من الاشتراكية إلى الليبرالية، أيضا ليس من منطق التحول الديمقراطي ولكن مرة أخرى للحفاظ على إدامة الحكم، والتوائم مع المتغيرات لإظهار القدرة على السيطرة والتحكم، ولهثت هذه الأنظمة لضمان حماية دولية هذه المرة من الغرب، وتتسابق فيما بينها لاسترضاء الباب العالي في البيت الأبيض الذي قبل بإدامة حكم هذه الأنظمة قبولاً مشروطاً.
قبلت الأنظمة العربية الشروط الغربية من البنك الدولي والصندوق والبنتاجون وحتى مراكز الدراسات والرأي العام في الغرب، لتظهر الأنظمة العسكرية بشكل ليبرالي أكثر انفتاحاً واستعداداً للبيع والخصخصة، أمام تغول رأس المال وبحثه عن الربح ولو كان ذلك بالزواج من السلطة لاسيما وهي تقبل ذلك باندفاع للمحافظة على موقعها، فكان هذا الرباط المقدس بين السلطة ورأس المال ذلك كله على حساب الديمقراطية وقوت الشعوب العربية.
تم خلال ذلك ضرب أيه بنية أو مقومات ترتكز عليها مفاعيل المواطنة وممارستها، بالرغم من الاحتقان البادي في الشارع العربي، واستمرار تآكل الطبقة الوسطى الرافعة لأي نخبة تنويرية، وأزمة الهوية التي جعلت الإنسان العربي لم يجد مخرجاً سوى الهروب إلى التطرف، مع غياب مشروع حضاري إسلامي حداثي له مقوماته الواضحة، وفتح باب التأويل والتفسير وأتيحت الفرصة أمام ثقافة التهييج والتطرف لتأخذ مساحتها في تركيبة العقل العربي.
أمام فشل المشروعات المجربة وانتهازيتها وتهميش العملية الديمقراطية وحبس العقل والجسد العربي تحت وطأة مفسدة الحكم كان طبيعي أن يذهب التنفيس باتجاهات غير عقلانية وغير واعية ،ولكن الحاضنة الأكبر للأمة التي يمثلها الإسلام فيها من الإغراء الذي لا يقاوم باعتباره مخرجاً بديلاً عن الفوضى والانطلاق إلى فضاء مفتوح الاحتمالات، ولهذا كان من أهم نتائج الثورة العربية إفراز وإبراز التيارات الإسلامية، وهنا لا نقصد الإسلام بمعناه الديني الضيق بقدر ما نشير إلى منظومة قيميه محملة بنهج حياة متكامل جسدت بعده السياسي الحركة الإسلامية التي أعادت بناء ذاتها من خلال دخولها في تجربة قاسية انتقلت فيه من الهامش إلى المتن بطرق مختلفة ومتباينة.
أن حالة الإنزياح العربي نحو الحركات الإسلامية جاء ليعبر عن نتيجة حتمية لما سبقها وتطرح تحدياً حقيقاً للمستقبل من قبيل العمل على خلق نموذج قادر على أن يقدم بديلاً مقبولاً، ومخرجاً ايجابياً للمأزق العربي الراهن خصوصاً وأنها أبانت من خلال تجربتها وعلاقاتها التي راكمت لديها خبرة جعلتها أكثر انفتاحاً وبراغماتية أوصلت للمواطن العربي قناعة أنها قادرة على ركوب التحدي.
من هنا يثار التساؤل إلى أي حد قادرة هذه الحركة الإسلامية أن تبني دولة مدنية، وكيف للقادمين من خلفية دينية أن يديروا الدولة القومية دون التخلي عن هذه الخلفية ودون الوصل إلي صدام مع النخب المدنية، خصوصا في ظل غياب نموذج، والي أي حد سوف تفرز هذه الحالات حالة ديمقراطية، بمعنى هل تدفع هذه الثورات بمسيرة التحول التي من المفترض أنها بدأت الآن مع الربيع العربي.
والى أي حد سوف تخلق هذه الحركات حالة منسجمة مع بعضها في مختلف الأقطار، أم أنها ستفرز أنظمة متباينة لكل منها تجربتها الخاصة، ناهيك عن التساؤلات التي تثار في العلاقة مع الآخر (الغرب).
من هنا يمكن القول أن التجربة التي جبلت بها الحركة الإسلامية وموقفها العقدي القائم على فلسفة عمل متميزة أكسبتها حركة فعل في أكثر من موقع، فقد عاشرت هذه الحركة متغيرات متعددة، انتقلت من الصدام مع السلطة حينا والتحالف معها حينا وتسوية قائمة على تحديد الوظيفة والدور حينا آخر، وكما أن علاقة الحركة الإسلامية مع باقي المكونات المجتمعية والسياسية تأثرت بأحداث جسام أوقعت الفكر والممارسة الإسلامية ومشاركتها في الحيز العام أمام اختبارات مستمرة في منعطفات وتجارب تاريخية هامة، كما أن تعددية الأدوار وتباينها من تجربة إلى أخرى أغنت الخبرة التي تولدت لديها ومثلت كلها دروس استفادت منها الحركة الإسلامية، من التعلم من تجربة الخلافة ، وتجربة الصدام مع الأنظمة الاشتراكية، والنماذج المتعددة التي قدمتها في تركيا وإيران وأفغانستان والسودان ودول شرق آسيا تعددت فيها أوجه الإسلاميين وتجاربهم في محاولة بناء دولة وإدارة الحكم، كذلك علاقة الحوار الذي فرض نفسه بين السلطة والحركة الإسلامية في أكثر من قطر مثل الأردن والكويت ومصر، أو المواجهة معهم التي وصلت حد الصدام في سوريا والجزائر والصومال وفلسطين، استفادت الحركة السلامية من تنوع وتعدد التجارب المختلفة التي أثبتت من خلالها عن وجود مرونة عالية وبرغماتية أسيئ فهمها على أنها استثناء وتنازلات، لكنها تبدو كتعبيراً حقيقياً على:
أولا: قابلية الفكر السياسي في السلام على الظهور بالتنوع والتشكل الذي يسمح بوجود تباين على مستوى الشكل في نماذج مختلفة ولكل مبرراته المسوغة لإظهار هذا النموذج.
ثانياً: قابلية الفكر الإسلامي على استخدام استراتيجيات التكيف دون المساس بمتن الفكر، والنجاح في إظهار "التنازلات" على أنها مكاسب مشروعة، وكلما أظهرت الحركة السلامية مرونة تجاه بعض القضايا كلما زاد الالتفاف الشعبي حولها، وهذه ظاهرة تميزت بها الحركة السلامية دون غيرها، وبذلك أبانت عن برغماتية عالية في التعامل مع القضايا الواقعية التي أغنت تجربتها.
ثالثاً: هناك ما يشير بقطعية أن الفكر السياسي في الإسلام هو في فحواه فكراً مدنياً، وان الدولة في الإسلام لا تتناقض مع الدولة المدنية، وهنا لا يجد حرجا الإسلاميين من الظهور كمدنيين، ولكن الإشكال متعلق بالعلمانية وهناك فرق بين العلمانية والمدنية، يجري الآن الخلط بينهم واستبدال العلمانية بالمدنية للتخويف من حكم الإسلاميين.
رابعاً: العمل المجتمعي الذي أبدعت فيه الحركات الإسلامية من خلال الجمعيات الإسلامية والعمل الدعوي واستخدام المساجد والعمل مع التجمعات الشعبية من خلال التأطير والتنظير المستمر للمجتمع، واستخدام الخطاب الديني الذي يلامس وجدان الأمة، جعلهم ذلك أكثر قرباً من الشارع العربي الذي عاني من التغييب والاحتباس، الذي شاركتهم فيه الحركة الإسلامية، في ظل وجود أزمة هوية التي سببت هذا الانزياح نحو الحركات ذات الطابع الديني، التي مثلت بدورها البديل الممكن والمتاح الوحيد تقريباً.
يبدو أن التجربة السلامية المستندة على ارث تاريخي زاخر، كذلك ولما تنطوي عليه من نماذج متعددة أبانت عن قابلية تكوين نواة المشروع الحضاري الإسلامي المستنير، والذي أظهرها ذلك على أنها النمط الفتي والأكثر نضوجاً حتى الآن، فالواضح انه لا بديل عن وجود الحركات الإسلامية بعيد الربيع العربي، وهذا الثابت سوف يجعل من المنافس الوطني والأجنبي مضطرا للتعامل معهم باحترام عالي مقدراً هذه الشرعية التي اكتسبتها، فقد انتزعت الفرصة لأنهم بدو الأكثر قربا لقراءة واقع الناس والأنسب لتمثيلهم، والديمقراطية بهذه الحالة تدفع باتجاه أن يقدم المنافسين تنازلاتهم لا الحركة الإسلامية هذه المرة، أما التحدي الأعلى سقفا الذي يواجهها هو طبيعة النموذج الذي ستقدمه، والى أي مدى سوف تستثمر عمق تجربتها في بناء دولة قادرة على تلبية متطلبات سكانها العادلة، دون صدام مع الآخر ودون هجران للموقف العقدي القائم على أسس متينة والتي لا تتناقض بدورها مع الحرية والرفاه المنشود.