كثيرا ما اتسمت الثورات في العالم على مر العصور بوجه يُعتبر جديدا بالنسبة للمجتمع ويغلب بطابعه على المشهد السياسي. ينطبق هذا على الثورة المصرية، ومعها الثورات العربية، بعدما شهدت غلبة النفـَس الإسلامي على شوارعها وفي شعاراتها. أفضى هذا، وبحكم الجراح التي لملمها الجسم الإسلامي، إلى إعطاء الإسلام السياسي فرصته التاريخية لإظهار صورة مشروعه وتقريبه للرأي الداخلي قبل الخارجي. لكن هل من الممكن أن يقف هذا المشروع ؟ وإذا أمكن ذلك، هل لأنه يحمل في ذاته ما ينقضه أم انه يخلق نقيضه نتيجة عن تحركه ؟
بعد ثورة 25 يناير التي تراصت الأطياف والأجناس السياسية والاجتماعية والثقافية جنبا إلى جنبا، و"دون النظر إلى لون الذي امسك بيده" (على حد تعبير أحد الثوار)، انتقلت مصر من التجانس والتمازج اللحظي إلى الفصل في مسألة مصير الجار والحليف السياسي. فالانتخابات البرلمانية حددت المواقع قبل المواقف. ورغم أن مصر لا تزال تتخبط في دوامة الحكم ما بين المطالبة بالمدني وبين تجدر العسكر، فإنها على الأقل تجاوزت مرحلة الاستقرار البرلماني وأجرت انتخابات مجلس الشعب بشكل قيل عنه أنه ديمقراطي بكل المعايير.
لكن الغريب، الذي لم يعد غريبا بعد كل ثورة، أن أعداء السلطة ومعمرو السجون سابقا هم أول من يتربع على سدة المجلس البرلماني. فالإخوان المسلمون، بدءا من المؤسس الشهيد حسن البنا إلى المرشد الثامن محمد بديع، لم تسلم أجسادهم و نفوسهم من التعذيب والقهر الذي مورس في حقهم على مر فترات الحكم المتتالية في مصر، فحصدوا الأغلبية في الانتخابات الأولية. ولهذا تغدو الثورات إلى قلب المفاهيم أو إلى تشكيل قالب من اجله تقوم (كالديمقراطية والحرية والكرامة والعدل والحق...الخ).
وجد الإسلام السياسي في مصر نفسه محاطا بين الصورة الضبابية عن الحكم الديني وبين الآمال الشعبية في تحقيق الحرية والكرامة لكل فرد بحسب انتماءه للوطن وليس على حساب دين أو اعتقاد. وطرح المتتبعون سؤالا، قد يبدو بدهيا؛ هل هذا الشعب، الضارب بوجه القمع عرض الحائط، تراءت له آمال التغيير الذي طالما حلم به وسمع عنه، إما في كتب فؤاد زكريا أو في أفلام يوسف شاهين أو من خلال محاضرات محمد الغزالي وباقي المثقفين ؟ وهل علق آماله على الإسلام السياسي أم على الإسلام؟ أم أراد بتصويته رد الاعتبار لحقه الذي طالما ذهب مع الريح ؟ وأيضا، ما الذي يمكن أن يخسره إذا ما خانته ثقته ؟
تربعت الأحزاب الإسلامية على قائمة الانتخابات البرلمانية. إذ حصل الإخوان المسلمون، ممثلين بحزب العدالة والحرية، على المرتبة الأولى بنسبة 47,18%، يليهم حزب النور السلفي بـ24,29%. وبعيدا عن المرجعيات المنفتحة أو المتشددة التي تحدد تحركات الحزبين فإنها تبقى أحزاب ذات مرجعية لطالما تخوف منها المجتمع المصري بشقه السياسي قبل الاجتماعي. إذ لم يخف هذا الأخير توجسه من صعود الإسلام السياسي منذ أفول نجم التيار القومي- العربي من هزيمة 67 إلى اتفاقية "كامب ديفيد" عام 78، إلى حُـلة الحزب الوطني. كما أن التشهير الإعلامي الذي طال الإسلاميين، في مصر عموما، كان غرض السلطة منه نفور المجتمع منهم.
بيد أن هذا النفور أو التوجس قد يتحول إلى صناعة ذاتية من طرف الإسلاميين أنفسهم، إذا ما أضيف إليه الجانب الثقافي والفني في معالم المشروع الإسلامي.
تتساءل اغلب الأوساط الاجتماعية والثقافية عن مكانة حرية الإبداع في الدستور الجديد، فالجدل السياسي غالبا ما نتج عنه، سلبا أو إيجابا، جدل ثقافي وفكري. ولعل ما حصل للفنان الكوميدي عادل إمام حين رفعت ضده دعوى قضائية مفادها الاستهزاء بالدين والمسلمين في بعض أفلامه السابقة والحكم عليه بثلاثة أشهر، يؤكد فرضية ومخاوف المجتمع من الحكم الجديد. الشيء الذي ظهر جليا أيضا عند ثلة من الممثلين والفنانين، الذين أعربوا في تصريحاتهم لوسائل الإعلام عن أن توجسهم من حكم الإسلاميين دافعه الخوف عن الفن والإبداع وليس من عمومه السياسي. كما يضاف إلى الفنانين، أيضا، قطاع التلفزيون، ففي حوار أجرته صحيفة "اليوم السابع" الالكترونية، يوم 7 فبراير من هذا العام مع رئيس التلفزيون "المصري" عصام الأمير، أكد فيه "انه لن يظهر على شاشتنا مذيع ملتح ولا مذيعة منقبة".
دفع هذا التوجس جبهة الإبداع المصري إلى إصدار سلسلة تسجيلات مصورة، تعرض توصيات على لسان مبدعين من كل صنف؛ سينما، مسرح، شعر، أدب وفن تشكيلي، مدونين في الانترنت، وباحثين علميين... حيث أقسم المبدعون في التسجيلات على الدفاع على حرية الإبداع والتضحية من أجلها. وتأتي هذه التسجيلات كتثمين واستحسان على وثيقة أصدرها الأزهر الشريف تؤكد، هي الأخرى، في مضامينها على "الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة، والاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين".
عُـرف عن بعض الإسلاميين في مصر تشددهم الطافح في جل المسائل الحياتية، فمن تكفير نجيب محفوظ.. إلى قتل فرج فوده.. إلى فوضى الفتاوى.. إلى رفع الآذان تحت قبة البرلمان مؤخرا.. فكيف لا يكون التخوف مشروعا !؟ وتـُعد واقعة البرلمان من الوقائع التي قد توسع دائرة التوجس لاسيما في فترة الانتخابات ما قبل رئاسية. إذ إن البرلماني رفع الآذان دون أن يبالي إلى تدخل احد البرلمانيين، مما أجج غضب الرئيس سعد الكتاتني ناهرا إياه بأنه ليس اتقى الناس وأفقهم، وبأن المكان ليس مسجدا.. وهو مشهد لا تزال تعانيه الحركات الإسلامية نفسها بين متشدد ومتجدد.
تحتاج الحركات الإسلامية إلى الإبداع كما هو محتاج إلى التنوع الديني والثقافي.. وبما أن الاختلاف طبيعة البشرية فإن الإبداع يقف عند حدود الالتقاء والاختلاف دون أن يمتزج بأحدهم. وقد يكون التدافع والتنافس خير من التسلط... ولأنْ تشعل شمعة خير من لعن الظلام.
ولنختم بالسينما باعتبارها أكثرهم جدلا، بمُلتمس نُهديه إلى بعض الإسلاميين الذين في نياتهم رفع دعاوى على الممثلين وعلى السينمائيين (رغم أننا لا نتفق مع كل السينما المصرية)، ونلتمس منهم أن يشاهدوا فلما إيرانيا من البارزين عالميا. وان يتساءلوا هل من الممكن أن أرغم المخرجين المصريين أن يخرجوا أفلاما توازيها ؟ أو أن أخرج، كمخرج إسلامي، أفلاما تحاكي متطلباتي وبالمقاييس العالمية ؟ أم أن لعن الظلام خير من ذلك... !!!