" ان اهتمام الناس في وضعيات الطغيان والاضطهاد هو أن يكونوا في صيرورة ثورية بشكل فعلي، لأنهم لا يملكون فعل أي شيء آخر"[1]
لعل تقسيم الخارطة السياسية الى يمين ووسط ويسار هو مسألة ضاربة في القدم ووجدت منذ تشكل التاريخ البشري وانقسام المجتمع الى طبقة حاكمة ومعارضة وسواد أعظم ولكن البداية الفعلية للتسمية كان إبان الثورة الفرنسية وجلوس المحافظين المؤيدين للحكم الملكي على اليمين وتركز أنصار الثورة من الجمهوريين المؤيدين للفصل بين الكنيسة والدولة على اليسار.وقد تواصل الأمر بهذه الطريقة الى حد الفترة المعاصرة وارتبط اليمين باقتصاد السوق والليبرالية والنضال من أجل الحرية في حين التصقت باليسار شعارات الاشتراكية والبيئة والعمل النقابي والنضال الاجتماعي والحركات الاحتجاجية ومناهضة العولمة والمساوة والعدالة الاجتماعية وإيقاف الحروب والدعوة الى التسامح والالتزام بالسلم الأهلي.
غير أن اختلاط المفاهيم وتداخل المرجعيات وصعود أسهم التيار الديني وتراجع الاتجاه القومي الذي شهدته الساحة السياسية بعد اندلاع الربيع العربي وكثرة المندسين في هذا التيار أو ذاك وظهور بوادر النفاق على اليمين والانتهازية على اليسار والذرائعية على الوسط وانقسام المشهد السياسي الى معسكرين: الأول يدعي الانتماء الى الثورة والثاني يمثل النظام القديم وظهور مفاهيم الفلول والثورة المضادة والثوري الجديد والثورة الدائمة هي أسباب معقولة لكي يعيد الفكر السياسي ترتيب أوراقه وتنظيف مفاهيمه ويطرح من جديد السؤال الدولوزي: ماذا يعني من الناحية الفلسفية أن يكون المرء على اليسار اليوم؟ ماهي مميزات الكينونة اليسارية؟ وكيف ينتقل الانسان من الوجود يسار الدولة الى يسار التاريخ؟
يعرف جيل دولوز في حوار مع كلار بارنات وجود المرء على اليسار بأنه مسألة ادراك لوجود الانسان بالنسبة الى نفسه والى الآخر وفي العالم ، ويفسر ذلك بأن من يكون على اليسار يدرك بشكل مختلف عن الذي يصرح بأنه ينتمي الى اليمين. فالأول رافض ومتمرد ومعارض للسائد بينما الثاني محافظ وخانع ومستسلم للمألوف. وبالتالي ينتمي اليميني إلى نفسه ويقول أنه موجود في وضعية محبذة وأنه ينجز كل ما يتمناه وبالانطلاق من هذا الإدراك للذات يهتم بما يحيط به ويكون غرضه العثور على استجابة فورية لإنتظاراته. أما الإنسان الذي يكون على اليسار فهو على خلاف ذلك ينظر في المجموع نظرة استغراب وعدم رضا على الحال ويتبنى منهج الثورة ويمثل شخصية قلقة ويعشق الحركة والتجديد وما يدفعه الى هذا الاهتمام هو انتباهه الى اللاّعدالة التي تغمر العالم وسخطه على التفاوت الاجتماعي واستهجانه لحالات الظلم في السياسة والاستغلال في الاقتصاد . لذلك نراه يقرر مع غيره العزم على تغيير الأوضاع والمساهمة في تبديل وجهة العالم نحو الأفضل ويلتزم بذلك طيلة حياته. من هذا المنطلق الدولوزي أن يكون المرء من اليسار معناه أن يدرك الآخر أولا لكي يقربه بعد ذلك اليه ويدرس مشاكله عن قرب ثانيا ويتفطن الى الانساني فيه في مرحلة ثالثة ويحرضه على الانتباه واليقظة والثورة على الواقع رابعا.
بيد أن الكينونة على اليسار لا تعني الانتماء الى الأحزاب اليسارية مثل الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والجبهة الشعبية بل الشعور بالقرب من مشاكل الناس والالتزام بالعمل على حلحلتها من جذورها والعناية بقضايا التحرر ومقاومة الاستغلال والتصدي للحروب والاستعمار ومناهضة العنف والتمييز بكل أشكاله. على هذا الأساس اليسار ليس انتماء الى عائلة سياسية أو شريحة اجتماعية معينة والتعالي والتصادم والابتعاد عن البقية مثلما ينتمي اليمين الليبرالي الى العائلة البرجوازية ويقدم مسكنات علاجية للفئات الشعبية المعوزة بل هو رفض التحزب ورفض التوقيع المجاني على صك ولاء لقوى سياسية غير معصومة عن بيع الانسانية وإدانة الارهاب الذهني والعدوان المنظم والسلوك الفاشي الصادر عن أنظمة ورموز تحسب على اليسار. لا يهتم اليساري بالمشاكل الميتافيزيقية الزائفة ولا يضيع وقته في أشباه المشاكل ولا يجهد نفسه في البحث عن حلول لمشاكل أسيء طرحها وإنما يحسن تشخيص الواقع ويجيد فن طرح المشاكل الحياتية ويهتم بالقضايا الحقيقية ويجد ويكد من أجل الوقوف الى جانب المستضعفين ويضع نفسه على ذمة المهمشين.
غني عن اليان أن الكينونة اليسارية ليست ظرفا مكانيا مقابل اليمين ولا تموقعا جغرافيا شماليا مقابل الجنوب الفقير وإنما هي فعل في الواقع الاجتماعي وحركة في التاريخ وتحمل الرسالة الوجودية بقوة.
على هذا النحو لا يضع الثوري نفسه في منطقة وسطى بين الافراط والتفريط وبين التقليد والتجديد ولا يكون البتة اصلاحيا في الفكر والممارسة ولا يقدم حلولا ترقيعية بل يصطف على اليسار دائما ويرفع صوته عاليا في وجه الظلم والعار ويرفض الإعتداء على الحياة الانسانية ويعالج الأمور بنقدية جذرية ويصدر مواقفه بعد التعمق في الفهم ويساند قضايا التحرر والمعارك العادلة في العالم ويحيا حياة ثورية متمردة وينتقل من وضعية قصوى الى آخر ولا يخاف من الطرد والمحاصرة والسجن والعقاب. لا ينبغي التخلي عن المنطق الثوري وعن المطالبة بالاستقلالية ويجب ضمان الوطنية قبل الحديث عن الأممية والحلم بالشعب الجديد القادم يمكن أن يتخطى الحدود القومية والطبقية بشرط ان يكون شعبا حرا. من البديهي أن يكون اليسار هو الرحم الذي يولد منه الانسان الجديد والمرآة التي يعيد من خلالها المرء النظر الى انسانيته على نحو مختلف بحيث لا يسقط من حسابها الأبعاد الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. كما أن تصبح يساريا يعني أن تجعل من المناضلين والثوار مرجعك وأسوتك وأن تتعلم وتستفيد من جميع الثورات والانتفاضات وأن تعتبر من حركة التاريخ وتحولات المجتمعية والمنعطفات التي تحصل للفكر. والحق أن الوضعيات ليست هي التي تجعل من الناس ثوارا بل الصيرورة التاريخية هي التي تدفع الناس الى الثورة وتوسع دائرة المشاركة الشعبية ونداء الوجود الذي يصطفي القيادات والطلائع والرموز. ما تعنيه الصيرورة الثورية هو القول بأن الذهاب الى المستقبل بنفس وسائل انتاج الحاضر هو أمر غير مجدي وغير مبدع وأن عملية التغيير تستوجب احداث رجة في أنماط انتاج التعامل مع أبعاد الزمانية. مشكلة اليسار الدائمة هي كيفية اندراج الناس ضمن صيرورة ثورية وتوجيه حركة التاريخ واختطاف المجتمع وانتشاله من حالة السبات الأنثربولوجي الى وضعية التدفق الوجودي والمخاض الثوري.
" الكينونة على اليسار تعني ابداع الحق" عند جيل دولوز وهي كذلك الدفاع عن الحق كماهو الشأن عند الفلسطينيين واسترجاع حق السود من عند البيض في جنوب إفريقيا ومناهضة أشكال التمييز العنصري. وكل انسان يحتمي بالثورة يمكنه أن ينتصر ويتحرر ويضع حدا للطغيان لأن الانتصار هو منطق الثورة وهدفها هو إجبار مستقبل التاريخ وصيرورة المجتمع على أن يتكلما نفس اللغة ويعرفان نفس المصير. لكن هل من حقوق الانسان عن دولوز أن يصبح المرء ثوريا؟ أليست حقوق مجردة وصعبة التحقيق؟
يتحدث جيل دولوز عن الرغبة في الثورة عوض الرغبة في الحرية وعن احترام حقوق الانسان وعن حق التخيل عند الوجود في وضعيات مكبلة وفي ظل مقترحات جوفاء من طرف فكر متردد في حقبة فقيرة. كما يثني على ثورة الطلاب التي حدث سنة 68 ويعتبرها أكبر من النظرية الماركسية ومن الشيوعية وذلك للوعود التي حملتها وأطلقها الرفاق والأصدقاء وجعلت العالم بعد هذا الحدث يتغير والناس يعودون الى واقعهم الفعلي والى صيرورتهم الواقعية أي الى المجتمع والتاريخ والاقتصاد واللغة والفن والسلطة. لكن يوجد فرق بين الصيرورة الثورية ومستقبل التاريخ ويظهر ذلك حينما يقع الناس ضحية صيرورات زائفة ويعجز المؤرخون عن فهم السبب الذي يؤدي الى تشكل صيرورة ثورية دون حصول ثورة. هكذا يعترف دولوز بأن فهم الكينونة على اليسار هو بالضبط التعرف على الصيرورة الثورية ولكنه ينفي وجود حكومة على اليسار رغم مدنية الانسان اليساري وبعبارة أخرى اليسار لا يهتم بالحكم بل بالمعارضة ولا يأتي بحكومة تحقق طموحات اليساريين وتكون مواءمة مع اليسار لأن اليسار لا يهتم بالحكم بل بالثورة.
في نهاية المطاف يحدد دولوز كينونة اليسار بطريقتين:
1- كينونة اليسار ليست مسألة نفس طيبة بل هو ظاهرة ادراك الأفق حتى لا تدوم اللاّعدالة المطلقة.
2- كينونة اليسار ليست مسألة اجماع وأغلبية بل هو صيرورة طبيعية ومسألة أقلية وموقف مختلف.
لكن اذا كان اليسار هو مجموعة الصيرورات التي تكون أقليات ، فإن الأغلبية التي تصنعها العملية الانتخابية تضع مبدأ الديمقراطية التمثيلية موضع شك. ألا يتعارض حق الأقلية مع حكم الأغلبية؟ اليس اليسار الجديد هو تنبني المنهج الثوري دون الاعتقاد الدغمائي في الشيوعية وفي الماركسية؟ وما قيمة يسار يعارض السلطة دون أن يحكم ويمثل الأقلية دون أن يكون له الحق في الثورة على الأغلبية؟
المرجع:
Gilles Deleuze : Qu’est-ce qu’être de gauche ?
حوار مع كلار بارنات Claire Parnet ، في الملاحظ الجديد nouvel observateur- L’Abécédaire de Gilles Deleuze, 1988
الرابط: http://www.oeuvresouvertes.net/spip.php?article910
كاتب فلسفي