استفاق العالم صبيحة 17 ديسمبر 2010 على حدث اسثنائي زحف على المشرق العربي وبلدان المغارب، كان هو صباح الرجة الثورية التي قلبت موازين القوى، وتهتز معها اوضاع راكدة وتسقط أنظمة سياسية عاتية وتتهاوى أصنام ايديولوجية خاوية، الأمر الذي غير مجموعة من المعطيات وقلب المعادلات وخلخل الحسابات. وذلك عن طريق احتلال الحلبة السياسية من طرف شباب الإعلام الاجتماعي الثائر، الذي اقتحم الفضاءات العمومية مطالبا ومصرا على إحداث تغيير جذري في الأنظمة السياسية، حيث شق آفاقا فكرية جديدة وفتح باب الحرية أمام الجميع، أمام النخب المثقفة والمعارضة السياسية والانسان العادي، كما غير قناعات الاسلاميين الذين أعلنوا قبولهم بالدولة المدنية الديموقراطية، دون أن ننسى الحضور القوي للجنس الناعم.
هذا الحدث أثار مجموعة من المثقفين والكتاب حيث تعددت القراءات والمقاربات كل من زاوية اختصاصه فمن آل التاريخ والسوسيولوجيا إلى العلوم السياسية كل حاول الوقوف على الحدث وسبر أغواره. ومن هؤلاء نجد حضور صاحب أوهام النخبة المفكر اللبناني علي حرب[1] صاحب الأسلوب الكتابي الرشيق وحلاوة العبارة المولع بالتفكيك متأثرا بجاك دريدا.
حاول المفكر اللبناني قراءة الحدث من خلال عدة مقالات اعتبرت تتمة لمؤلفاته السابقة، قام بتجمبعها في كتاب صدر في طبعتين كانت الأولى تحت عنوان: " ثورات القوة الناعمة في العالم العربي.. نحو تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات"، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ببيروت، سنة 2011، في 120 صفحة . وجاءت الثانية، سنة 2012 بعنوان مغاير هو "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي : من المنظومة إلى الشبكة " ، بحجم أكبر إذ أضيفت إلى متنه مقالات عدة، ليصبح بذلك الكتاب في 240 صفحة، من قسمين الـأول بعنوان: " نحو تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات"، والثاني تحت عنوان: "المجتمعات العربية تصنع ديموقراطيتها".
توسل المؤلف في هذا العمل بمدخل فكري جديد في قراءة الثورات العربية محوره نموذج جديد هو " الفاعل الميديائي" المنخرط في موجة الحداثة الفائقة والمشتغل بالقوة الذكية الناعمة، فاعل غير التوابث وقلب العلاقة بين الممكن والممتنع.
فما قدمته العولمة من الإمكانات الهائلة بأدواتها الفائقة وشبكاتها العنكبوتية ووقائعها الافتراضية، باتت معطيات لا غنى عنها في فهم الواقع وإدارته وتغييره لإعادة تركيبه وبنائه، إذ هي غيرت نظرة الإنسان إلى نفسه وبدلت موقعه في العالم بقدر ما غيرت علاقته بمفردات وجوده سواء تعلق الأمر بالهوية والثقافة والمعرفة أو بالحرية والسلطة والقوة.
فبرأي علي حرب الانتفاضات الراهنة ما هي إلا ثمرة فتوحات العولمة التي كانت مصدر فزع -وهنا تكمن المفارقة- لدى الخائفين منها على هوياتهم الثقافية أو المتمسكين بعقائدهم القديمة والحديثة.لكن يعود علي حرب ويؤكد أن ذلك لا يعني أن الثورة في الدول العربية هي ثمرة الآلات الصماء، فالتقنيات ثمرة للعقول والأفكار، ولكنها تفتح بدورها إمكانات للتفكير والتدبير .
من هنا تحتاج الآلات لكي تستثمر بصورة نافعة وملائمة إلى عقول فعالة تحسن قراءة المجريات ورصد التحولات، كما تحتاج إلى فكر حي وخصب يقدر أصحابه على ترجمة المعطيات إلى إنجازات تتجسد في مبادرات فذة أو أحداث خارقة أو أعمال مبتكرة، في غير مجال سياسي أو اقتصادي أو ثقافي. وعليه تبقى الثورات الجارية متعددة الأبعاد، إذ هي سياسية بقدر ما هي فكرية، وتقنية بقدر ما هي ثقافية، وخلقية بقدر ما هي اقتصادية، فهي في جوهرها تجسد ولادة فاعل جديد على المسرح، هو الإنسان الرقمي ذو الاختراع والابتكار والتحويل والبناء والتجاوز.
هذا الواقع حسب علي حرب تشكلت فيه مجموعة قوى جديدة وهويات ثقافية بفعل العولمة وتقنياتها قوى يمثلها الانسان الرقمي الذي أحسن قراءة المعطيات وفك الشفرات واستثمر بإتقان لغة الخلق والتحول فأنتج ثورات سلمية تشتغل بالقوة الناعمة لا بالقوة العارية " فأنا في أول تعليق لي على الأحدث – يقول علي حرب- تحدثت عن ثورات مدنية تقودها القوى الجديدة من الأجيال الشابة التي تشتغل بالقوة الناعمة والفائقة للعصر الرقمي والواقع الافترضي... وما زلت على هذا الرأي بالرغم مما تشهده من عنف في هذا البلد أو ذاك من جانب الأنظمة القائمة"[2] . ثورات تعاملت مع الفرد كمنتج وناشط أو مبدع ومشارك وتم التركيز فيها على قيم الحرية العدالة والكرامة بدل شعارات التحرير والمقاومة والممانعة، وكل ذلك ارتبط طبعا بتغيير الفاعل في النسق السياسي فاعل يوزعه علي حرب بين :
- الدول الهامشية : أي صعود قوى إقليمية جديدة كالصين والهند والبرازيل وتركيا وبالتالي كسر أحادية القطب في التنمية والمعرفة.
- المرأة : خرافة الفحولة بتزايد المشاركة السياسية للمرأة.
- الشباب: الجيل الرقمي.
ارتبط هذا التحول في عمقه بالعولمة والنيوليبرالية ومن هنا فإن الانتفاضات الجارية تعطي مصداقية لفوكوياما،وليس لهنتنغتون[3]، لأن الأول نظر بعين الذاكرة الموتورة المشدودة إلى الماضي، كما تشهد مقولته "صدام الحضارات"، أما الثاني فقد نظر بعين البصيرة العاقلة فتوقع انتصار الديمقراطية في ظل تحولات العولمة الليبرالية، كما يؤكد بذلك نقده لأوهام المثقف حيث سبق أن صرح بأن من المفارقات الفاضحة أن يتوجس تشومسكي أو غيره من الكتاب اليساريين ونظرائهم العرب مثل طارق علي من العولمة والليبرالية الجديدة، فيما هي فتحت الإمكان الواسع لولادة نظام عربي جديد ديمقراطي بكسرها للحواجز والحدود على النحو الذي يتيح بث الصور والحصول على المعلومات بسرعة البرق والفكر[4]. وبذلك فإذا كان العالم العربي قد تأخر عن الانخراط في العالم الجديد بثرواته وتحولاته وانعطافاته التقنية والعلمية والمعرفية كما فعلت أكثر المجتمعات، فإنه يستدرك الآن ما فات عبر الأجيال والقوى الجديدة التي انخرطت في سباق العقول بعدة مستويات :
الأول: خلع عباءة الأيديولوجيات المقدسة بثوراتها ومقاومتها وانقلاباتها وأحزابها .
الثاني: كسر عقلية النخبة والانتقال إلى المجتمع التداولي حيث كل الناس فاعلون ومشاركون في أعمال البناء والإنماء، كل من موقعه وبأدوات اختصاصه وإبداعاته في مجال عمله .
الثالث: التخلي عن منطق العنف للعمل على تغيير الأوضاع وتحسين الأحوال بأساليب ووسائل سلمية مدنية وتواصلية، خاصة أن الميل إلى السلم يقوى يوما بعد يوم على وقع الأزمات وعلى نحو تزداد معه القناعة بحاجة البشرية إلى الانضواء تحت سقف رمزي خلقي يستبقي أو يستنجد بقيم التقى والتواضع والاعتراف والزهد.
وبرأيه فإن لكل عصر ثوراته وقواه، وهذا ما لم يكن واردا في حسبان القوى المهيمنة القومية واليسارية، الحداثية والتراثية، الدينية وغير الدينية، لأنها كانت ولا تزال تقرأ المجريات أو تدير الشؤون بأدوات العصور الآفلة وثوراتها الفاشلة بشعاراتها ونماذجها ولجانها ومليشياتها .
وهكذا فبينما كان الحاكم والداعية والمثقف أو المتلاعب والمضارب يتربع في سلطته المغتصبة، أو يتنعم في ثروته غير المشروعة، أو يتشبث بعقائده البائدة وأفكاره المستهلكة أو يدافع عن هويته العاجزة وثوابته العقيمة، كانت تعتمل وتتشكل في رحم المجتمعات العربية قوى صاعدة جديدة بصورة صامتة وغير مرئية من غير ادعاء، استفاد أصحابها من التحولات التي صاحبت الموجة الحداثية الجديدة، بأدواتها الفائقة ومعطياتها السيالة ووقائعها الافتراضية.
ولعل المفارقة العجيبة برأي حرب تبرز أيضا من ناحية التأثيرات المتبادلة بين انتفاضة وأخرى، حيث أتبثت الشعوب العربية من جديد أنها تمارس وحدتها من غير ادعاء أو تنظير. إذ بينما كان دعاة الوحدة ومنظروها من حكام ومثقفين يدمرون فكرة الوحدة من فوق بفكرهم الأحادي الفئوي والطائفي، الذي لا يتسع لتوحيد حي في مدينة، كانت المجتمعات العربية تنخرط في صنع عالم عربي مشترك بتشكيل بناه التحتية وفتح ما يحتاج إليه من الأسواق والمساحات أو تشكيل ما يتأسس عليه من اللغات والقواعد الجامعة والمشتركة، كما تشهد اللقاءات والندوات والمؤتمرات والمعارض في كل المجالات والميادين .
وهكذا فما يجري من ثورات عابرة يحطم الحدود المادية والرمزية لكي يفسح المجال واسعا للتبادل بين بلد عربي وآخر، والشاهد تحول مفهوم الثورة التي أخذت بعدا تنويريا تحرري وكانت محط الثناء والتقدير، والوجه الآخر هو تجدد مفهوم الشعب الذي كان مرادفا في السباق للقدح وأصبح الآن مرادفا للقوة والحيوية. وفي هذا الإطار يعبر علي حرب أن الوازع وراء التسمية هو ما تحمله الثورات من إضافة قيمة بلغتها ورموزها ومفرداتها ونماذجها.
يتوجه المؤلف بنقد لاذع لتأخر العالم العربي عن الانخراط في تغيير الواقع، وإغراقهم في التشبت بالتوابث والنرجسية الثقافية بنظرة عين السلب والعداء، واقع استنفدت فيه شعارات المصداقية والمشروعية بعد أن تحولت الجمهوريات إلى ملكيات والجيوش إلى مليشيات في سياق خارجي طبعه الفشل بعد استنفاذ شعارات التحرر والقومية، يضاف لذلك صعود الأصوليات الدينية التي جمعت على حد قول علي حرب مساوئ المشاريع السابقة القومية واليسارية وأضافت فتن الإرهاب والفتن المذهبية " مما وضع المجتمعات العربية بين فكي الكماشة الخانقة: استبداد مضاعف، فساد منظم، ثراء فاحش، فقر مدقع، جزر أمنية، مافيات مالية، جحيم المخابرات وجهنم الإرهاب"[5] ، هو مأزق حضاري وتخلف استوت فيه دينصورات التراث وعجزة الحداثة.
يجزم علي حرب في هذا السياق بأن نجاح الثورات في العالم العربي سوف يطوي حقبة فكرية ويفتتح أخرى، حيث يجري تجاوز عصر الأيديولوجيات الشمولية والأصولية التي استمرت عقودا والتي تجسدت في عدة نماذج أهمها :
- النموذج النضالي الآفل لحركات التحرر الوطني التي أخفقت في شعاراتها سواء تعلق الأمر بالوحدة والاشتراكية والتقدم أو بالتحرير والممانعة والمقاومة .
- النموذج النخبوي الفاشل الذي اشتغل أصحابه بتلفيق النظريات وفبركة الأوهام، لكي ينتجوا عزلتهم وهشاشتهم وهامشيتهم على مسرح الأحداث .
- النموذج البيروقراطي العاجز الذي يستخدم أصحابه في الإدارة أساليب مستهلكة أو بائدة تولد هدر الجهد والوقت والثروات.
وبذلك يتم تغيير مجموعة من المعادلات والتصنيفات: أولاها انتقال الصراع من القائم بين أنظمة عميلة أخرى ممانعة إلى صراع بين الشعوب وأنظمتها، وبالتالي الحد من الصراع بين الاسلام والغرب. كذلك كسر ثنائية النخبة والجمهور / الزعيم والحشد، حيث كان الحراك شعبيا محضا ابتعد عن النخب، كما ابتعد عن الأطر الحزبية والقوالب الإيديولوجية ( كاسترو، ماو، أو الخميني) " هي ثورات ذات هوية مركبة هجينة مفتوحة متعددة ومتحركة. رفضت منطق البطولات الذي يرادف العنف"[6].
وفي هذا السياق طرح المؤلف تحديات الثورات الناعمة فإسقاط نظام وإقامة آخر هو بالضرورة انفراد بالأمر، علاوة على حضور آثار النظام السابق ولو بغير وعي وكذلك تأثير المتحالف معه. ولذلك يبقى من الضروري لتلافي وأد الثورة:
- العمل بمنطق البناء.
- كسر منطق الاحتكار واعتماد الشراكة.
- الموقف النقدي اتجاه الذات.
لأن من آفات المجتمع الثقافية :
- النرجسية وادعاء احتكار الفكر والوعي. / - الوحدانية ( لغة الإقصاء) / - السرقة (السرقة الأدبية )
في ثنايا الكتاب كثيرا ما كرر صاحبة أوهام النخبة تحامله على المثقف سواء من حيث فهمه للواقع أو من حيث استراتيجيته في التدخل والتأثير، " فالمثقفون هم الوجه الآخر للسلطة السياسية في ارتكاب المساوئ والمفاسد.. ومن المفارقات أن الكثيرين من المثقفين الذين يتحدثون عن الانتفاضات الشعبية الراهنة ضد الاستبداد والفساد، لا يقلون فسادا عن الحكام الذين ينتقدونهم ويشنعون عليهم" [7].
عكست هذه الثورات في العمق نموذج المجتمع المركب بحيث كسرت ثنائية النخبة والجمهور، وولدت مفهوم جديد بديل للنخبة هو الشبكة متجاوزة شعار العنف قابلة التاريخ. كما كسرت الهمينة الذكورية بحضور المرأة وبددت ثنائية الزعيم والحشد وأكدت على القيادة الجماعية المشتركة. وفي هذا السياق يفند علي حرب طرح ألان بوديو القائل بأن رياح الشرق تكنس غطرسة الغرب، حيث يرد علي حرب بأن الثورات العربية تكسر ثنائية الداخل والخارج " فقد استهلكت استراتيجية الهروب من معالجة المشكلات الداخلية بخلق أعداء أو خلق مشكلات للخارج، وسقطت الأقنعة الإيديولوجية بعد أن أصبح الداخل يستنجد بالخارج، لم يعد مجديا تعليق الأوطان على صليب المقاومة والممانعة"[8] .بيد أنه رغم الامتياز الذي طبع الحراك من حيث آليات الاشتغال ( الناعمة الذكية) فإنها أتت بمعنى مماثل للثورة الفرنسية بثالوثها الشهير : الحرية، المساواة والإخاء.
خلص المؤلف من خلال مقارنة المشاريع الحضارية السالفة في العالم العربي ومثيلاتها في نماذج ناجحة (تركيا ماليزيا) إلى أن العطل كامن في الفكر من خلال النرجسية الثقافية والخوف الطفولي من المتغيرات بدل التداول المنتج والتحول الخلاق.
فبالرغم من أن المثقفين هم أول من تفاعل مع الأحداث على هذا الوجه أو ذاك، ليس فقط لأن الأحداث شكلت مادة دسمة للكتابة والتعليق والتحليل، بل لأنهم يتصرفون دوما بوصفهم الأوصياء والوكلاء الحصريين على القيم العامة المتعلقة بالحقيقة والعدالة والثورة والهوية والأمة. إلا أنهم قد فقدوا المصداقية والمشروعية والفاعلية منذ زمن طويل، سواء من حيث نماذجهم في فهم العالم أو من حيث برامجهم في تغيير الواقع. فالعالم تغير ويتغير بعكس تصوراتهم وخططهم، والأهم أنه يتغير على يد قوى جديدة كانت مستبعدة أو مهمشة وربما محتقرة من جانب المثقفين الذين يدعون احتكار الوعي والعلم والمعرفة بأحوال العالم، فإذا بهذه القوى تبدو حية ناشطة فعالة أكثر مما يحسب دعاة التقدم والتغيير .
ومن المفارقات أن فلاسفة العرب ومفكريهم ما زالوا يثيرون أسئلة النهضة ومشكلات الحداثة، في حين أن الفاعلين العرب الجدد قد تجاوزوا الحداثة إلى ما بعدها بانخراطهم في الحداثة الفائقة والسيالة للعصر الرقمي والواقع الافتراضي.ولذلك يرى حرب أنه لا بد أن نعترف بفشلنا وإفلاسنا، وبأن جيلنا قد أورث الأجيال الجديدة كل هذا التردي والتراجع، ومؤدى هذا الاعتراف أن المثقف العربي ما هو إلا الوجه الآخر للأنظمة التي يدينها وينتشي لانهيارها.
فالحاكم والمثقف كلاهما متأله وعاشق لذاته نابذ لغيره، الأول ينفرد بالسلطة والثاني يحتكر الحقيقة، وبالتالي فإن ما جرى في تونس ومصر وغيرها من البلدان العربية، إنما يفكك ثنائية النخبة والجماهير بقدر ما يكسر عقلية الوصاية على القيم والمجتمعات بعقل نرجسي وفكر أحادي .
إن مفهوم القوة أخذ في التغير، إذ القوة العارية بعنفها وحروبها وأبطالها وكوارثها بالطبع، لم تعد تغري العقلاء الذين استفادوا من دروس الحروب التي لا تنتج في عصر سمته "التشابك والتواطؤ" سوى الدمار المتبادل.
هذا التغير تعبر عنه ولادة مفهوم "القوة الناعمة" كما تتجسد في الإبداعات والاختراعات التي تتجسد إنجازات ومآثر سواء في مجالات العلم والأدب والفن والثقافة عموما، أو في عالم الأدوات والتجهيزات النافعة أو في نماذج التنمية وأساليب العيش وأنماط الحكم الرشيد .
من هنا فإن أنظمة الاستبداد والفساد التي يشتغل أصحابها بقمع الحريات وانتهاك الحقوق أو يخفقون في تحديث الاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة لا تشكل دولا قومية أو مقاومة بل هي "تدمر مصادر القوة والمنعة" لدى شعوبها بقدر ما تشوه سمعتها في الخارج .
وبالعكس فإن الدول التي تحسن إدارة الشؤون ورعاية المصالح واستثمار الموارد سواء على صعيد اقتصادي ببناء نماذج تنموية ناجحة أو على صعيد سياسي بالتحول من كونها أنظمة أمنية بوليسية إلى مجتمعات ديمقراطية، تصبح محط النظر والتقدير في العالم بقدر ما تصبح أقوى وأكثر فاعلية في مواجهة التحديات والضغوط والعواصف التي تهب من الخارج .
ترى العديد من الدراسات أن البطل يعرف دوما بوصفه من يضحي بنفسه من أجل سواه أو من أجل قضية يرفعها إلى مرتبة القداسة، ولكن هذا التعريف برأي حرب يغفل الوجه الآخر للعملة، وهو كون البطل يملك القدرة على أن يموت، بقدر ما يملك القدرة على أن يقتل غيره .
وبهذا القول لا بد من أن يتم إنزال البطل عن عرشه وتجريده من طهره لكي يبرز وجهه الآخر الذي يتم طمسه، وهو أن البطل ليس إلا "قاتلا" في النهاية، وذلك لأنه لا يقتل دوما في حالة الدفاع المشروع عن النفس، وإنما قد يمارس العقيدة لنشر عقيدة يعدها صحيحة أو لتطبيق نظرية يعدها عادلة وقد تكون غير ذلك في نظر سواه.
بهذا المعنى فإن تمجيد البطولات مديح للعنف وحض على ممارسته، رغم أن العنف ضرورة لا مهرب منها، يلجأ إليها الواحد في الحالات القصوى، التي هي الدفاع المشروع عن النفس أو الأهل أو الوطن، ولكن ذلك لا يعد بطولة، وإنما ضرورة من أشنع الضرورات .
ولذلك يرى الكاتب أنه لا بد من أن نعترف بذلك إن شئنا التخفيف من منازع العنف، فلا نمتدح القتل أيا كانت مشروعيته ومبرراته .ومن هذه الرؤية الجديدة للعنف تكمن أهمية الثورات العربية من ناحية تأكيد مطلقيها على عدم استخدام العنف، فهي انتفاضات سلمية وليست كالثورات والبطولات التاريخية والدموية التي تجسد في وجه من وجوهها الوجه البربري للبشرية .
بل ما تحاوله الثورات الجديدة هو افتتاح عصر جديد من عناوينه الحياة والنماء والفرح والجمال والمستقبل، ولذلك استحقت ثورة مصر أن تدعى بـ"ثورة النيل"، كما استحقت تونس أن تكون "ثورة الياسمين"
[1] يعرف عن علي حرب مواقفه المعادية للمنطق الصوري القائم على الكليات العقلية التي يعتبرها موجودات في الخارج وليست أدوات وآليات فكرية مجردة للنظر والفكر. فهو يتبع منهج كانط في نقد العقل وآلياته وبنيته الفكرية . ومن جملة مؤلفاته في هذا الإطار نذكر:
* خطاب الهوية ،سيرة فكرية. الدار العربية للعلوم ناشورن ، 2008.
* تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم: الدار العربية للعلوم, 2008.
* الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 2005.
* أزمنة الحداثة الفائقة: الإصلاح-الإرهاب-الشراكة: المركز الثقافي العربي, 2005.
* الأختام الأصولية والشعائر التقدمية: المركز الثقافي العربي, 2001.
* أصنام النظرية وأطياف الحرية: نقد بورديو و تشومسكي: المركز الثقافي العربي, 2001.
* النص والحقيقة: الممنوع والممتنع: المركز الثقافي العربي, 2000.
[2] علي حرب، ثورات القوة الناعمة...،مرجع سابق، ص 143.
[3] المستند إلى الذاكرة الموروثة المشدودة إلى الماضي / صدام الحضارات.
[4] نقد المثقف ص 41
[5] علي حرب، ثورات القوة الناعمة...،مرجع سابق، ص30.
[6] هنا استحضر المؤلف نموذج الناشط المصري وائل غنيم الذي نفى عن نفسه صفة الزعيم أو البطل.
[7] علي حرب، ثورات القوة الناعمة...،مرجع سابق، ص 138-139.
[8] نفسه، ص 153.