من يتأمل الوضع العربي الراهن يصاب بالذهول والخوف. ذهول مما آل إليه العرب من تقتيل وترويع من جهة. وخوف مما سيؤول إليه مصير جيل كامل من سكان المنطقة من جهة أخرى, بعد موجة الربيع التي انطلقت شرارتها من تونس, لتنتشر بعد ذلك على امتداد العالم العربي من الماء إلى الماء. والتي تساهم فيها مختلف الشرائح الاجتماعية والمكونات السياسية و الثقافية و الاثنية واللغوية الغنية والمختلفة.
لقد كانت البداية كما يعلم الجميع عندما خرج التونسيون إلى الشارع بعد سنوات من حكم بن علي و بطانته, وشكل هذا الخروج صدمة للشارع العربي, بل شكل صفعة أيقظت الناس و أحسوا من خلالها أن التغيير ممكن. و ان الحاكم العربي أصبح إما جرذا يفر بالزحف الشعبي, كما فعل بن علي, أو وحشا يشنق كما فعلت أمريكا و عملاؤها بصدام حسين من قبل. غير أن النتيجة المهمة هنا ليست هي الشنق أو الهروب, و إنما هي كسر جدار الخوف من النظام المهيمن. فالحاكم العربي فقد وضعه الاعتباري, و تحطمت تلك الصورة النمطية التي ألصقت به كزعيم له هيبة و كريزما, فأصبح ينظر إليه كوصمة للذل و الخيانة والخنوع.
إن خروج التونسيين كان له ما يبرره: الفساد و الظلم و البطالة, وكذلك ظهور نخبة متعلمة ذات كفاءة وتعليم عاليين تبحث عن موقع لها داخل المجتمع. مقابل طبقة بليدة وغير متعلمة بالشكل الذي يخول لها الحصول على المال و السلطة اللذين تنعم بهما داخل الوطن. إن هذا التعارض الفاضح أصبح مستفزا ولا يطاق. زد على ذلك كل القهر التاريخي الذي مورس على التونسيين منذ عهود الأتراك و حكم الدايات ثم الفرنسيين ونخب ما بعد الاستعمار التي تشظت هويتها السياسية ما بين العلمانية و الاسلاموية, وهذا التشظي يرجع في أساسه إلى الفترة الاستعمارية و كذا لحظة المقاومة التي انتهت بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي الذي خلف دولة بمؤسسات غربية غريبة. ونخبة متخرجة من مدرستين متمايزتين: الزيتونة الكلاسيكية: وهي التي ساهمت في تخرج نخبة محافظة ذات توجه محافظ و اسلاموي. و المدرسة الصادقية ذات الطابع الفرنسي وهي من ستساهم في نشر الفكر الغربي العلماني و كذا اليساري. إن هذه الازدواجية التعليمية ستخلق ازدواجية في التوجهات السياسية وكذا في الاستراتيجيات المستقبلية لتونس ما بعد الاستعمار, وهو ما سيرخي بظلاله حتى على تونس ما بعد الثورة, فالصراع بين النخب العلمانية اليسارية و اليلبرالية من جهة. والاسلامويين المتمثلين في حزب النهضة وكذا أتباع الفكر السلفي المنتعش بعد الثورة من جهة أخرى, لن يهدأ. وسيؤثر على استقرار تونس الخضراء إلى اجل غير مسمى.
نفس الوضع سنجده في المحروسة مصر بعد سقوط الفرعون المريض عقب اعتصامات ميدان التحرير التي انتهت بانتخابات سيصوت فيها الشعب المصري على الاسلامويين وهو مكره بالديمقراطية لا بطل. بعد أن أفلست الايوديلوجيات القومية والفكر العلماني بكل أطيافه. فالساحة السياسية المصرية سواء بعد الاستعمار أو أثناء حكم الأنظمة المتعاقبة بعد الملكية, لم تنتج ولو طيفا سياسيا واحدا مقنعا قادرا على مجاراة التيار الاسلاموي الضارب في القدم و المرتبط عضويا بالطبقات المسحوقة كما المتوسطة لبلاد الكنانة. إن النخب العسكرية التي تولت الحكم بعد الملكية هاجمت الاسلامويين و أودعتهم السجون تارة, وحابتهم تارة أخرى, كي تعطي المشروعية لحكامها. وهذا ما اكسب الاسلامويين قوتهم و شرعيتهم كمكون سياسي شعبي فاعل في الساحة السياسية المصرية, الأمر الذي أعانهم بشكل سلس على بلوغ السلطة الآن. و رغم ذلك فان انعدام الخبرة والكفاءة في تسيير دواليب الدولة, وغياب الفنية و المرونة و التسامح في استيعاب التعدد الثقافي والسياسي والطائفي, وتقبل الطموح المشروع نحو امتلاك السلطة لدى شريحة واسعة من الأطر المصرية. وكذا سرية ولاءات الاسلامويين للغرب الكافر وإسرائيل رغم مجاهرتهم بكرههم لها. سيجعل استقرار المحروسة على كف عفريت. خاصة وان معظم المصريين أضحوا مدركين لكل هذه الأمور بفضل انتشار التعليم واتساع رقعة وسائل الإعلام والاتصال.
العدوى نفسها ستصيب الجارة ليبيا التي انقض فيها العقيد المسحول على السلطة نهاية القرن الماضي, عندما وضع حدا للحكم التقليدي للملك السنوسي, ليبني جماهيريته بألفاظ حداثية, ويحتفظ بنمط حكم أقدم من النظام العشائري. فاغرق ليبيا في مستنقع من الجهل والفراغ السياسي والثقافي لتنشأ نخب سكيزوفرينية تائهة بين التبني الجاهل للشريعة, أو اعتماد ديمقراطية الغوغاء. فأصبحت ليبيا تعيش تحت رحمة ميليشيا العشائر, أو تحت إرادة نخبة سياسية سترتمي في أحضان الغرب لتحقيق مبدأ الحصول على السلطة مقابل منح الثروات الطبيعية. إن هذه الوضعية التعيسة التي تعيشها ليبيا هي ما سيعرفه اليمن السعيد بعد أن خلد صالح في الحكم حتى احرق جلده ليفر الى الجارة السعودية, التي أصبحت مزبلة الرؤساء المغضوب عليهم والضالين ليترك حاشيته وورثته يغذون الصراع رفقة الفزاعة السلفية التي وجدت في اليمن السعيد ملاذا لها. ان الخلافات المذهبية تمزق هذا البلد و الجارتين الوهابية والشيعية تغذيان هذا الخلاف الذي كان نظام صالح يسترزق به.
كل هذه التجارب سيستفيد منها نظام الأسد في الشام ليحول الانتفاضة السلمية - التي لم تستلهم نموذج الصدور العارية- إلى حرب طاحنة ضحيتها الشعب السوري، ولا ندري من يستفيد منها هل الدب الروسي الذي تنبه لعدم استفادته من نعيم الربيع العربي، أم العمامة الإيرانية، أم الجارة السرطان تل أبيب. فلا احد يدرك الآن من يستفيد من الدم السوري المسفوك.
إن فرضية الفوضى الخلاقة تتجلى في ما يحدث في سوريا ربما لان طرف ما تفطن لهذه الفوضى التي اعتبرها غير خلاقة بالنسبة اليه.
خلاصة القول, سواء اعتبرنا الربيع العربي ثورة أم فوضى. فان عوامل تفتقه سترتبط تحديدا ب:
1 التدخل الأجنبي الذي وجد في العالم العربي مساحة شاسعة لإنعاش اقتصاده المتهالك وذلك من خلال السيطرة على الثروات و خلق سوق جديدة لشركات السلاح المتذمرة من الأزمة الاقتصادية في الغرب.
2 تكسير صورة الزعيم العربي الخالد المغوار الذي لا يهزم. خاصة بعد غزو العراق الذي شكل رئيسه الراحل صدام حسين النموذج المحبوب لدى العرب بعد ما كان أول من قصف إسرائيل.
3 تهاون الزعماء العرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية وتجاهلها و ارتماؤهم في أحضان الغرب و إسرائيل دون مراعاة لمشاعر الشعوب.
4 عدم نجاعة الوصفات السحرية المستوردة من الغرب لترسيخ حقوق الإنسان و الديمقراطية والتي أتت بالتوريث عوض الشرعية الديمقراطية ليصبح الناس أمام جيل جديد من مشاريع الأبناء الرؤساء.
5 معاناة التيارات الاسلاموية من تشديد الخناق على عملها السياسي والدعوي الذي تعتبره حقا شرعيا لا تكفله الأنظمة العربية. وهو ما سينعشها بل سيؤهلها لقطف أزهار هذا الربيع قبل أن تبزغ ثماره لتسيطر على الحكم هنا و تتشاركه هناك دون مجهود أو عناء إبان الثورة.
6 انتشار وسائل الاتصال المختلفة جعلت النخب كما العامة يكتشفون نعم الحداثة وحقوق الإنسان في البلدان الغربية التي شكلت نموذجا يتطلع إليه. كما سهل فضح الأوضاع المزرية اقتصاديا وسياسيا للدول العربية عن طريق وسائل الإعلام دون خوف من الأنظمة التي أصبحت مفضوحة أمام العالم.
7 طموح فئة عريضة من المتعلمين وتطلعهم لحياة أفضل. بالمقابل تحرمهم الأنظمة العربية من نعم الحداثة والثروة والسلطة.
ان من سيتولى الحكم بعد الربيع العربي في الدول العربية عليه أن يستوعب هذه التحولات, ويجعل منها منطلق التغيير ومآله في الآن ذاته, مع محاولته إقناع القوى الفاعلة في التغيير بان قطاف ثمار الربيع لا زال بعيدا إلى حين وقت الحصاد وانه لا يجب استعجال الصيف لان النتيجة ستكون خريفا قاحلا وسنوات عجاف. بالموازاة مع محاولة الإقناع هذه يجب إطلاق شرارة ثورة ثقافية لا تبقي و لا تذر أي اثر للجهل والتعصب والتخلف, و الذي قد يجعل الربيع العربي مدمرا يحصد أبناءه قبل أن تقطف ثماره.