يعد الفارابي مِن أوائل مَن عنى ـ من فلاسفة المسلمين ـ بإصلاح نظام الحكم، في كتاب"أراء أهل المدينة الفاضلة". و قد جاءت آراؤه متناصة بجمهورية أفلاطون. و الدارس للفكر الفارابي السياسي سيَلْحَظ أن الدولة التي يدعو لها، هي دولة مثالية/خيالية تكشف عن عدم قابليته للأوضاع القائمة في بداية القرن الرابع الهجري، حيث أخذت الدولة العباسية في الاضمحلال و خاصة في عهد المقتدر(295ـ320هـ/908ـ932م). و قد صاحب هذا الاضمحلال تمزق على مستوى الوحدة السياسية للدولة الاسلامية، و لا سيما بعد أن ظهر للشيعة العلوية دولة بمصر و الشام و بلاد المغرب و استقر الأمر في الدولة العباسية لأهل السنة، فصارت كل دولة تضطهد في بلادها كل الفرق المخالفة لها عقديا.
هذه الأحداث المخيبة في التاريخ الإسلامي جعلت الفارابي ـ و غيره من المفكرين ـ يتأسى بأفلاطون و أغسطين و غيرهم في نظرياتهم اليوتوبية، ساعيا لقيام مدينة فاضلة يعيش في ظلها و تحت كَنَفِها مجتمع مختلف الأطياف و متباين العقائد.
و لما كان المجتمع الفاضل هو أساس نظرية الفارابي السياسية، فإن هذا المجتمع يقوم على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: المدينة الفاضلة و الهدف المنشود:
فقد ذهب الفارابي إلى أن الإنسان مدني بجِبِلته و أن هذه المدنية لا تكون لها كينونة إلا بـ (الاجتماع البشري)، ذلك أن الإنسان لا يبلغ مبلغ الكمال و السعادة في الآل و المآل (الدنيا و الآخرة) إلا بالتعاون مع أناس آخرين، فيقول في هذا الصدد:(و كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه و في أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه ...فلذلك لا يمكن أن يكون للإنسان الكمال الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في أن يبلغ الكمال) أراء أهل المدينة الفاضلة، ص71.
من كلام الفارابي أعلاه نشير إلى نقطتين أساسيتين:
•الأولى: إن ما قال به الفارابي يتماشى مع ما قرره أفلاطون على لسان سقراط، في كتابه"الجمهورية"حيث قال:(أرى أن الدولة لا تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه، و افتقاره إلى معونة الآخرين. و لما كان كل إنسان محتاج إلى معونة الغير في سد حاجاته،و كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد منا، من صحب و مساعدين في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع إسم الدولة أو المدينة) جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، ص56.
كما قرر ارسطو كذلك أن الإنسان (حيوان اجتماعي بطبعه)، (فهو لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن بني جنسه في مجتمع سياسي منظم يطلق عليه اسم الدولة أو المدينة)السياسة لأرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، ص56.
•الثانية: إن نظرية (الاجتماع البشري) التي قال بها الفارابي، قال بها أيضا بعض مفكري و فلاسفة الإسلام:
- ففي كتابه "أدب الدنيا و الدين" تحت فصل"ما يصلح به حال الإنسان في الدنيا"، قَعَّد الماوردي (364ـ450هـ/974ـ1058م) قاعدة سماها بـ (الألفة الجامعة) فقال:(وأما ما يصلح به حال الإنسان فثلاثة أشياء.... وأما القاعدة الثانية وهي الألفة الجامعة: فلأن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة. فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة. فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت مدته عنهم، وإن كان صفو الزمان عسرا، وسلمه خطرا).
- و في مقدمة كتابه "الحسبة" يذهب ابن تيمية (661ـ728هـ/1263ـ1328م) في هذا الصدد، قائلا:(وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة).
- و نجد البَحَّاثَة ابن خلدون الاشبيلي (732ـ808هـ/1332ـ1406م) في مقدمة ديوانه "المبتدأ و الخبر في تاريخ العرب و البربر و من عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، نجده يؤكد على (المَوَاعِين) التي تساهم في (العمران البشري)، و ذكر من هذه المواعين، ضرورة (الاجتماع البشري). يقول ابن خلدون:( الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ ويعبِّر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع الّذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران... فلا بدّ من اجتماع القَدْرِ الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كلّ واحد منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه).
فالمدينة الفاضلة التي ينشدها الفارابي هي المدينة التي تتشكل من تلاحم و تعاون و تناصر أفرادها و تكوينهم بذلك مجتمعا يصلح لتحقيق الكمالات الإنسانية.
و تجدر الإشارة أن الفارابي رغم جعله "المدينة" أول مراتب الكمال في الاجتماعات البشرية، إلا أنه لم يجعلها المرتبة الفضلى على الإطلاق، بل إنها يسبقها مراتب أخرى أكثر كمالا و تحقيقا للفضيلة و السعادة، فنجده في هذا الإطار يقسم المجتمعات الكاملة إلى أنواع ثلاثة: عظمى، و وسطى، و صغرى.
ـ أما المجتمعات العظمى: هي اجتماع الأمم على نطاق الجماعة الإنسانية في المعمورة كلها، و يَعُدُّ الفارابي هذا النوع أكمل أنواع المجتمعات.
ـ أما المجتمعات الوسطى: هي مجتمع كل أمة على حدة.
ـ أما المجتمعات الصغرى: هي الاجتماع البشري في مدينة معينة. فيعتبر بذلك أن المدينة هي نقطة بدء الاجتماع البشري. و يعبر الفارابي عن ذلك بقوله:(فالخير الأفضل و الكمال الأقصى إنما ينال أولا بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها). و يقصد بقوله:(الاجتماع الذي هو أنقص منها) التجمعات البشرية التي تتخذ صورة أنقص من المدينة و تشمل تجمعات القرى و السكك و البيوت.
و عموما فالفارابي يتطلع بتقسيماته السابقة إلى وجوب وجود الترابط و الانسجام بين المجتمعات بأنواعها لتحقيق الهدف المنشود، (السعادة).
و يصور لنا الفارابي هذا الترابط و الانسجام بين أجزاء مدينة الفاضلة بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه، كل عضو حسب وظيفته.
فالمدينة الفاضلة أشبه ما تكون بالهرم، في قمته رئيس المدينة و بين القمة و السفح توجد طبقات تتفاوت سموا و انحطاطا حسب (الفطرة الطبيعية التفاضلية) لذا نألف الفارابي في كتابه "فصول منتزعة"، يقسم البنيان الاجتماعي إلى أجزاء خمسة:
ـ الأفاضل: و هم الحكام و المتعقلون و ذوو الآراء في الأمور العظام، و من كان في عدادهم.
ـ ذوو الألسنة: من خطباء و بلغاء و الشعراء...و من جرى مجراهم.
ـ المقدرون: و هم الحُّساب و المهندسون و الاطباء...
ـ المجاهدون: الجند و العسكر...
ـ الماليون: و هم مكتسبوا الأموال من فلاحين و رعاة و باعة...
الركيزة الثانية: رئيس المدينة الفاضلة:
الركيزة الثانية التي تنبني عليها المدينة الفاضلة عند الفارابي هي:حسن اختيار الرئيس الذي يسوس و يسر شأن الوطن و المواطن.
و يمكن القول ابتداءً أنه عند تفتيشنا في كتب الفارابي نجده يولي عناية قصوى بالمؤهلات و الملكات التي يجب أن يتصف بها كل من سيسند له أمر الرياسة. ففي كتابه"أراء أهل المدينة الفاضلة" عَدَّدَّ الخصال التي يجب أن ينماز بها الرئيس، و قسمها إلى قسمين، أحدهما أن يكون الرئيس بالفطرة و الطبع معدا لذلك، و الثاني أن تتوافر لديه الملكة الإرادية.
-الخصال الجبلية:
1.أن يكون تام الأعضاء.
2.جيد الفهم و التصور.
3.جيد الحفظ.
4.حسن العبارة.
5.محبا للتعليم.
6.محبا للخصال الجميلة من صدق و عدل...
7.لا يكترث بالدنيا و المال...
-الخصال الإرادية:
1.أن يكون حكيما.
2.عالما بالشرائع و السير.
3.جيد الاستنباط و الرؤية.
4.أن يكون له صنعة حربية.
كل هذه الخصال و غيرها التي اشترطها الفارابي لا تخلو من ملاحظات:
ـ إن هذه الشروط/الخصال من العسر اجتماعها في رئيس واحد، لذا يقترح الفارابي أنه إذا توفرت هذه الشروط في شخصين(أحدهما حكيم و الثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة، و إذا تفرقت هذه في جماعة و كانت الحكمة في واحد و العِلمِية في واحد و الاستنباط في واحد...و كانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل).
ـ إن الفارابي خلط بين نظام الحكم الارستقراطي، حيث يكون الحكم للنخبة، و نظام الحكم الملكي، حيث يكون الحكم لفرد مطلق، فالملاحظ أن الفارابي تأثر بالفكر السياسي الأفلاطوني. فأفلاطون يعتبر أن النظام المثالي هو النظام السوفوقراطي الذي يكون فيه الحكم للفلاسفة و الحكماء، و قد يكون لهم رئيس واحد أو أكثر. و يدرج أفلاطون هذا النظام تحت النظام الملكي، بقوله:(أن الارتباط ليس حتميا بين النظام الملكي و حكم الفرد، إذ يمكن أن يكون الحكم في يد عدد محدود و مع ذلك يُعَدُّ ملكي). أصول الفكر السياسي، ثروت بدوي 1/197.
ـ الملاحظة الثالثة أن الفارابي ربط بين السياسة و المعرفة، و هذا ما ذهب إليه ـ أيضاـ أفلاطون:حيث يعتبر أن سياسة الدولة أمر صعب و لا يستطيع القيام بها سوى أهل العلم و المعرفة أي لمن توافرت لديه الفضيلة. و يظهر الارتباط بين السياسة و الفلسفة/الحكمة واضحا في قوله:(لا يمكن تعاسة الدول، و شقاء النوع البشري...ما لم تَتَّحِد القوتان، السياسية و الفلسفية في شخص واحد، و ما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين)جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز ص 193.
إذا فالصفات الرياسية التي اشترطها الفارابي وجودها في كل مسير لدولة ما، هي التي تؤهله بمعية أناس فاضلين و أخيار بـ "وضع النواميس"و القوانين التي تنال بها السعادة القصوى.
و بهذه الصفات ـ أيضاـ يكون الرئيس/الملك موزعا للعدل بين رعيته، ذاك (العدل التوزيعي)الذي يقسم الخيرات المشتركة في الدولة على المواطنين لا على أساس(المساواة المطلقة الحسابية) و إنما على أساس (مساواة نسبية وِفْقَ جَدَارَة المواطن و أهليته)و حسب مهاراته و مردوديته.