الانتخابات في المجتمعات المتشبعة بالديمقراطية هي مجرد عمليات اجرائية لإشراك المواطنين عبر ممثليهم في رسم السياسات العمومية سواء المركزية او المحلية . فالديمقراطية مفهوم اوسع واعقد من مجرد اغلبية عددية انطلاقا من صندوق انتخابي ، فهي ثقافة وسلوك وقيم ، نواتها الاساسية هي " حق الفرد المواطن في امتلاك مصيره واختيار حاكميه وواجبه في قبول الآخر المختلف "، مما يتطلب وجود بنيات تحتية ثقافية وسياسية لبروز الفرد المواطن المتمتع بحرياته الفردية وحقوقه الكفيلة بجعل اختياره حرا دون وصاية او قهر .والاختيار بدون تقييمه يصبح بلا معنى ، فالاختيار يرتبط ارتباطا وجوديا بالمحاسبة والمسؤولية والتي يحددها عقد الاتفاق الذي على اساسه تم هذا الاختيار. كما أن الديمقراطية بدون ثقافة الاختلاف و قبول ال"آخر" المختلف تتحول إلى أداة لقهر الاقليات وعدم إعطائهم فرصة لتحويلهم إلى اغلبية.
الديمقراطية في مجتمعات التخلف والاستبداد ومن ضمنها المغرب، هي مزيفة وشكلية تختزل في شكل اصوات عددية موسمية فلكلورية لاقيم لها ولاروح .فالسلطات في هذه المجتمعات فنانة في افراغ الاشياء من مضامينها وتحويلها الى هياكل عظمية بئيسة .الديمقراطية لاتجد لها أساس ثقافي في البنية الاجتماعية نتيجة شبه غياب لبروز الفرد المواطن نتيجة إبتلاعه من طرف السلطة و الجماعة ،وسيادة ثقافة معادية للحريات والحقوق الفردية، والتربية على رفض الآخر المختلف نتيجة رؤية فكرية مهيمنة تنميطية للبشر تجد الدين كأساس ايديولوجي لها " الآخر الكافر المرفوض " ،وغياب رمزي ونفسي لما يمكن تسميته القدرة على التقمص العاطفي للآخر فأسرنا ومدارسنا و مختلف أجهزة التنشئة الاجتماعية تصنع فردا مأزوما في وجوده يجد صعوبة في التصالح مع الذات الذي يعتبر أساسا لقبول الآخر.
النظام السياسي المغربي ذو طابع إستبدادي فردي وراثي مركزي، مما يناقض عمق الديمقراطية بإعتبارها "تفتيت وفصل للسلط ومساهمة المواطنين في الحكم"، مما يحولها إلى أداة لتجديد النخب المخزنية و بناء مؤسسات مزيفة لاتساهم في بناء السياسات العمومية ،ووسيلة واجهاتية لتسويق الاوهام في الداخل والخارج. فيتم إختزال الديمقراطية في مواسم فلكلورية لإنتخابات تتنافس فيها نخب مشوهة حول الريع السياسي الذي يسمح لها بالاستفادة منه ضمن شروط لعبة معروف مسبقا ووفق منطق التجارة بالبؤس والتخلف ، كل حسب راسماله : الاعيان ، الموقع في القبيلة، الاتجار بالدين، المال والنفوذ والقرب من القرار....
إن كانت الديمقراطية بهذا الوضع البئيس ، فهل هذا مبرر لمقاطعة الانتخابات ،كما تدعو بعض القوى السياسية؟ وهنا لابد من الإشارة الى نقطتين مهمتين :
أولا: نقصد بعض القوى اليسارية ، لان العدل والاحسان التي تحمل مشروعا إستبداديا اكثر استبدادا و تخلفا من المخزن ، يصبح خطابها عن الديمقراطية وبناء المؤسسات مجرد خطاب فارغ ؛
ثانيا :الملاحظ ان هذه القوى قد دعت إلى المشاركة في الانتخابات المهنية وهي استحقاقات وقعت في نفس الشروط و تخضع لنفس منطق " الديمقراطية المغربية "مما يضعف الموقف النظري المعتمد للمقاطعة .
إن الجواب على سؤال المقاطعة او المشاركة ليس بالخطي المباشر بل هو سؤال إشكالي معقد مرتبط بعدة معايير : كيفية ممارسة المقاطعة او المشاركة ، الشرط الزمكاني لإنتاج هذا الموقف، الهدف منه ، كيفية ممارسة المعارضة الحقيقية في المؤسسات المعاقة والمزيفية مثل التي لدينا.....
الجواب وفق المنطق الرياضي الذي يفرض إنسجام المدخلات مع المخرجات ، يكون مع المقاطعة . لكن العلاقات الانسانية و خاصة في المجال السياسي و خاصة في المغرب لاتخضع لهذا المنطق ( المشهد السياسي المغربي كفيل بإعطاء نماذج صارخة في هذا المجال). فطبيعة المشاركة او المقاطعة هي التي تعطي معنى لهما، فيمكن ان تكون سلبية او إيجابية . المشاركة الإيجابية هي التي تستغل الحملة لفضح تجار التخلف والبؤس ، و شرح بيداغوجي للمواطنين حدود الصلاحيات الممنوحة للمؤسسات المنتخبة وعوائق الديمقراطية في المغرب و إعطاء البديل عبر القطع مع مختلف الممارسات المتخلفة في العملية الانتخابية : استعمال المال ، القبيلة ، الولائم ، الدين ، الاعيان ... ونشر تقافة التعاقد مع المواطنين في إطار الوضوح والشفافية . وإن تم الحصول على المقاعد ، يجب فضح الممارسات الفاسدة و اللاحكامة في التدبير و فتح لقاءات دورية مع المواطنين لإطلاعهم على احوال المؤسسة المنتخبة و فضح كل الخطوات التي تمسه و تضر بمصالحه . نوع هذه المشاركة تخدم المواطنين اكثر من المقاطعة السلبية التي تمارس لحد الآن بالإكتفاء بتوزيع مناشير للمقاطعة وفي اغلب الاحيان لا توضح بما فيه الكفاية للمواطنين الاسباب والعوامل لمثل هذا الموقف.
إن النضال المؤسساتي ضروري لدمقرطة المغرب ولكن بشرط ان يقطع مع ممارسات النخب المشوهة المسيطرة على هذه المؤسسات ، عبر يناء بديل نضالي يحترم المواطنين ويبدع اشكال نضالية جريئة تطرح الإشكاليات الحقيقية في البلاد ويستغل التواجد في المؤسسات للقرب من الملفات و فضح الزيف السياسي و الاستبداد و الفساد.