بعد اندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010 و طوال هذه السنوات الخمس أصبح مشكل التسمية ذا راهن خاصة أمام ما تشهده البلاد الآن من احتجاجات بدأت في القصرين منذ يوم 16 جانفي 2016.إن هذه الاحتجاجات الشبابية للمعطلين عن العمل خاصة بولايات مهمشة و مقصية كالقصرين و سيدي بوزيد و الكاف و غيرها بحاجة لأن نفكر فيها محاولين فهم أسبابها و ضمنياتها مفكرين في مسألة التسمية هذه التي أصبحت موضوعا علينا الخوض فيه.تعالت الأصوات طوال هذه السنوات الخمس حول توصيف ما حدث في تونس منذ 17 ديسمبر فهل هي ثورة؟ هل هي انتفاضة؟ هل هو مسار و حراك ثوري؟ هل هو انقلاب؟ أم مؤامرة خارجية؟ و انطلاقا من كون جميع هذه التوصيفات نابعة عن تصور ما أو أجندا سياسية فإنّ بعض المثقفين اختاروا عدم التوصيف بحجة أنّ ما حدث و ما يحدث الآن لا يمكن توصيفه أو تسميته في اللحظة الراهنة.قبل أن نتوسع أكثر في مشكل التسمية و التوصيف علينا ان نطرح سؤال أساسي لماذا يشكل اليوم مأزق التسمية مشكلا و عائقا أمام ما يحدث؟
أولا،لأنّ الرسالة الضمنية التي بعثت بها الأحزاب و الحكومات و خطاب الدولة و الإعلام بعد الثورة هي رسالة مفادها أنّ زمن الثورة انتهى و أنّ الثورة ليست إلاّ حدثا ستاتيكيا يجب أن نتجاوزه للمرور إلى فترة ما بعد الثورة و قد تجلّى هذا في مقولات من قبيل: "الانتقال الديمقراطي" و ما فيه من دلالة على النقلة و التغيير و المجاوزة و مقولة "الجمهورية الثانية " و غيرها من المقولات التي تكررت كثيرا بشكل ضمني أو مباشر و التي لا تدلّ إلاّ على كون الثورة ذلك الحدث الذي حصل و انتهى و علينا الآن أن نقف جميعا لبناء دولة جديدة كأنّما هذه الثورة قد دمرت دولة ما بعد الاستقلال او أنها حدث قد انتهى من تحقيق كل مطالبه.إن هذا الخطاب الذي استبطنه التونسيون من خلال وسائل الإعلام و خطابات السياسيين قد وصفّ الثورة لا من قبل من قاموا بها بل من قبل من استفادوا منها طارحين على أنفسهم مهمة الحديث عن شيء يجهلونه..
ثانيا،إنّ مأزق التسمية يصبح ذا راهن خاصة في هذا الوضع الحالي حيث أصبحت بلاتوات التلفاز و الصفحات المشبوهة على الفايسبوك و خطاب الدولة توّصف الاحتجاجات الاجتماعية ضد البطالة و التهميش بكونها لا مبرّرة و لا شرعية.فالثورة انتهت و الانتقال الديمقراطي الذي أصبح فاعلا مع كتابة الدستور هو بصدد الإنجاز وفي المقابل خطر الانهيار الاقتصادي يواجه الدولة و لهذا على الشعب أن يسكت و يلزم الهدوء تاركا أهل السلطة يعملون. هذا ما يثير الحيرة و الاستغراب! ألم ينتفض هذا الشعب ضدّ هذه المسافة الشاسعة و هذه العلاقة العمودية بين السلطة و الشعب؟ أليس ما حدث منذ 17 ديسمبر هو تأكيد على وجود شعب يريد أن يكون فاعلا في الشأن العام؟ أليس هذا الانتقال الديمقراطي هو تشريك المواطن لا بسماع مشاكله فقط بل إيجاد سياسات جديدة تمكنّه من الفعل و من المشاركة في وضع تصورات للدولة؟ إن عدم توصيف ما حدث منذ 17 ديسمبر لا يمكن أن يشكل الآن إلاّ عائقا.فكيف يمكننا أن نفهم ما حدث؟
المشكل الأساسي هو مشكل التصنيف هذا فكأننا مطالبون بأن نقول بأنها ثورة أو انتفاضة أو مؤامرة أو تغيير بينما توصيف ما يحدث لا ينتج عنه إلاّ قتل و تعطيل هذا الحراك.إنّ ما جعل البوعزيزي يحرق نفسه هو لحظة تكثّف فيها الإحساس بالظلم و القهر و التهميش و انعدام الإحساس بالذات و الكرامة لدرجة قصوى حوّلت هذا الإحساس إلى مجال الفعل.لقد ثار هذا الشعب لأنه لم يعد يستطيع احتمال الإستبلاه و الدور الشرفي الذي يمارسه في نظام دكتاتوري.إنه حراك شعبي منذ ثورة الخبز و إلى الآن و في كل حراك هناك مراحل و أسباب مباشرة و غير مباشرة غير أنّ الهاجس الأساسي لهذا الحراك منذ عهد بورڨيبة هو التحرر لا من الاستبداد السياسي فحسب بل من انعدام السيادة الوطنية تلك التي خيّل لنا أننا قمنا باسترجاعها منذ الاستقلال.إنه حراك وطني شامل يقّر في مضمونه بأننا لم نستطع فعلا التغيير في كلّ المجالات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و التعليمية و الثقافية كأنّما على هذه الأجيال و الأجيال القادمة أن تدفع ثمن أخطاء الدولة منذ الاستقلال و أن تعتبر أنّه لا مجال إلاّ للإصلاح و الترميم داخل بنيان هو بالفعل هشّ.مأزق التسمية لا يمكن أن نتجاوزه إلاّ إذا فهمنا بأن ترك هذا الحراك في المجال العفوي الرومانسي الحماسي قد أدّى إلى تشويهه و تهميشه كأنّ شيئا لم يحصل كمّا أنّ توصيفه على انه حدث ارتبط بمدة زمنية محددة و انتهى الآن هو إفراغ لهذا الحراك من محتواه. إذا بما أنّ التوصيف و التسمية يعطلان الحركة بشكل ما فلنجعل من الحركة بما هي حركة رفض مستمرة أو استعداد دائم للرفض مجالا للتفكير في ما يحدث.فهذا الشعب الذي ثار و يثور و سيثور قد اكتسب الآن استعداد قول لا كلما كانت سياسات الدولة ضدّه و كلما تنكرت السلطة له و عاملته بمنطق الرعية هذا ما يجب أن نعاينه منذ بداية هذا المسار الثوري و هذا ما يجب أن ندافع عنه دائما : قدرة الشعب على الرفض و على إعلان هذا الرفض من خلال مختلف أشكال الفعل و الاحتجاج. إن المسار الثوري هو مسار أي مجموعة أحداث مترابطة لها نفس الشاغل و تواجه نفس العوائق و على هذا المسار أن يفهم عوائق الفعل أمامه.
. إذا تحدثنا عن عوائق للفعل يجب أن نعي أولا أن هناك دائما أنواع من العوائق التي تعترض أي حركة رفض و أن هذه العوائق تتغير و تتجدد بمقتضى الواقع.فحركة الرفض هذه تواجهها صعوبات حقيقية لعلّ أهمها غياب نخبة حقيقية تواجه الخطاب الإعلامي و خطاب الدولة بخطاب ثالث يعبرّ حقّا عن تطلعات الشعب و يساهم من خلال حركة فكر في فهم هذا الحراك و تأطيره و بناء وعيه.إن قولنا غياب نخبة لا يعني عدم وجودها بل إنها توجد و هؤلاء المعطلين أصحاب الشهادات ليسوا أناسا تحتج فحسب بل هم كفاءات قادرة على بلورة تصورات جديدة كما انّ التلاميذ و الطلبة يمثلون طاقة لا محدودة لا يجب أن يتم حصرها داخل أسوار المدرسة أو الأنشطة الثقافية فحسب.لما يمثل هذا عائقا أساسيا؟ لأنّ الإعلام لا يمرر إلاّ المعلومة تلك المعلومة التي يعرّفها جيل دولوز في حديثه عن مجتمعات المراقبة بكونها مجموعة من الكلمات الآمرة أو الناهية أي أنّ الإعلام في نهاية الأمر لا يقدم لك إلاّ ما يجب أن تعلمه و ما يجب أن تصدقه و تستبطنه داخلك.فالإعلام في تونس إمّا هو يستبله الشعب بمنوعات غبية فارغة من المحتوى ولا تمت بأي صلة لفنّ السخرية و إمّا هو يستضيف السياسيين اللذين يناقشون الوضع العام "بكل حياد" أو خبراء تم صنعهم و برمجتهم لتضليل الرأي العام و الزج به في مناقشات و مشاكل فارغة بعيدة كل البعد عن مشاغله و استحقاقاته.إنّ الحراك الثوري اليومي يقف في مواجهة هذه الماكينة الإعلامية التي تسيطر على العقول و توّجه الرأي العام و تخدم طبعا أجندات واضحة.الحراك الثوري يجب أن يضع مهمة الفضح و التشهير بهذه الممارسات الإعلامية ضمن خطة فعله.إنّ كل خطوة يقوم بها هذا الحراك إلى الأمام تقابلها ردّة فعل إلى الوراء من قبل هذه الأبواق الإعلامية و لهذا يجب أن نفضح هذه الممارسات و أن نبرز فشلها المتواصل و تواطئها الواضح مع خطاب الدولة.نحن اليوم في دولة يدفع شعبها أداءات الإذاعة و التلفزة كي تمارس عليه كل أشكال التشويه و العهر و الكذب.
تتأزم هذه العوائق أكثر مع تحوّل الإرهاب إلى فزّاعة عالمية و لن يتحوّل قولنا هذا إلى تحليل لظاهرة الإرهاب و لكننا سنتحدث عن أثرها في حركة الرفض هذه.إنّ ارتباط واقعنا بمسألة الإرهاب أمر واقعي و حقيقي و لكن الخطر يكمن في تحوّل مقاومة الإرهاب إلى كل من أشكال قمع السلطة للتحركات الاحتجاجية.لم يعد الإرهاب مشكلا فعليا يتم التعامل معه سياسيا و ثقافيا بل أصبح غطاء و خطر تهددنا به الدولة كلما طالبنا بحقوقنا.أصبحنا نسمع تهديدات الدولة بالإرهاب أكثر من تهديدات الإرهابيين نفسهم! إن المسار الثوري يعي وجود خطر الإرهاب و لا يقاومه بالصمت و الاستكانة كما تطلب منه الدولة بل إنه يعلن في احتجاجاته أنّ تونس ليست أمام مأزق قد تحلّه دولة الخلافة بل إنها أمام مأزق لن تحلّه إلاّ دولة العدالة الاجتماعية و التنمية و الديمقراطية الفعلية بما هي جعل المواطن محور العملية السياسية لا مجرّد ناخب أو رقم في سجلاّت وزارة الداخلية.يجب أن نقاوم فزّاعة الإرهاب بما هي وسيلة قمع و علينا أن نتعامل مع هذه المسألة تعاملا عقلانيا فكريا لا يجعل منها تلك المسألة التي تذيب جميع التناقضات في المجتمع التونسي.واضح إذا أنّ المسار الثوري بحاجة لأن يأخذ على عاتقه مهمة تغيير شكل التعامل و شكل قراءة الواقع من قراءة دغمائية سلطوية تستبله الشعب لقراءة عقلانية فكرية تحلل الواقع و تعطي لكل مسألة قيمتها الحقيقية.لا يمكن أن نسى كذلك العائق السياسي فالأحزاب السياسية أثبتت فشلها طيلة خمسة سنوات و بينّت أنها تنتهج نفس سياسات التعامل مع المواطن.لقد عجزت هذه الأحزاب على تقديم البديل لعدم تمكنّها من بلورة تصور يغّير من هذا الواقع و لدخولهم جميعا في إطار التغيير الشكلي فكيف نقول بالفشل و تونس كتبت دستورا و أقامت انتخابات نزيهة و شفافة و مجلس تأسيسي ….تغير الشكل لا يعني تغير المضمون و بناء ناطحة سحاب في حي التضامن لن ينهي توصيم هؤلاء بالمجرمين و الخارجين عن القانون.المشكل هو أننا لا نذهب للمشاكل الفعلية لنفهمها و نحللها بل نقبل حلولا تقنية جاهزة فإذا كنّا في دولة استبداد و أصبح لنا دستور و ممثلين و انتخابات فهذا لا يعني أننا أصبحنا دولة ديمقراطية.لقد تمّ إستبلاهنا طويلا بهذه الديمقراطية الشكلية و بتحويل كل تناقضات المجتمع لمشكل سياسي فحسب.تقف حركة الرفض اليوم أمام عوائق عديدة يجب أن نفكر فيها فهي مهددة دائما بالتشويه و بوضع كل إشكالاتها العميقة و المختلفة في مجال السياسة فقط كمجال لا أفق فيه سوى تغيير الأشخاص و لأنّ على تاريخنا و تاريخ أخطائنا أن يشكّل وعينا فإنه علينا الانتباه لكون تغيير الأشخاص ليس إلاّ غطاء آخر يحجب القدرة على نقد السياسات و البرامج فهذا الشعب لا يريد من يصنفه بكونه إسلاميا أو علمانيا أو يمينيا أو يساريا بقدر ما يريد أن يبني وطنا يستطيع العيش فيه بكرامة.إنّ المسار الثوري هو مسار قدرة شعب على الوقوف ضدّ جلاّديه و ضد سياسات الخوصصة و المركزية السلطاوية و تهميش المعطلين عن العمل و الفساد الإداري و المالي.فما حدث و يحدث و سيظلّ يحدث هو قدرة تتبلور شيئا فشيئا راسمة معالم مشروعها ضمن أفق التحرر و مطلب السيادة الوطنية و تلك الصعوبات التي تواجهها هي من تفرض عليها معادلات وهمية من قبيل معادلة الأمن و الحرية و مقولات نحن بصدد العمل و بصدد الاشتغال و جميع هذه العوائق تضرب إيماننا بالقدرة على التغيير.ليست احتجاجات القصرين و تونس هي من تشوه و تقمع بل إيمان شعب بضرورة التغيير.أمام كل هذه الصعوبات و العوائق يتجلّى لنا ان المسار الثوري هذا بحاجة لقوة فكرية و أنّ النخبة الغائبة يجب أن تظهر لتعمل نظريا و عمليا على فهم الواقع و مواجهة الدولة بخطاب مضّاد يؤسس للوعي و الذكاء مقابل الإستبلاه و الغباء.لقد صرنا قادرين على قول لا و صرنا متفقين على أن لا شيء تغيّر فعلا و لهذا فإنّ الثورة ليست حدثا نحن نعيش بعده بل هي مسار و حركة و صيرورة ستحقق أهدافها مرحليا لأنها كانت و ستظل ضدّ نظام بأكمله.لن نهزم هذه العوائق أمام حركة رفضنا دون حركة نقد علينا جميعا أن نضطلع بها إذا أردنا أنّ نغير الواقع فعلا