لا مندوحة عن التأكيد على مصاحبة الأديب الجزائري وظيفيا للثورة التحريرية في خمسينيات القرن الماضي، وإسهامه في قتال المعنى برصاص الكلمة الذي لا يدنو في شيء قيمة عن قتال رصاص النار التي كانت تحرق الوجود الوطني في بعده المادي، واقتضت طبيعة الانبلاج القطري المستقل العسيرة، عقب اندحار الإرادة الاستعمارية على الأرض أن يتواصل هذا التلازم الوظيفي ويستمر في شتى قلاع وصنوف الابداع، وينخرط في سجالات المشروع الوطني وأسئلته الاستشكالية الكبرى، اللغة، الهوية والأحادية، وهنا ارتسم الشرخ مسار الأفق المنشود بين الأديب والسلطة خطابا وممارسة، وحاول كل منهما توظيف الثاني في غير ما محطة من محطات التفاعل الوطني سياسيا وأمنيا، وإذا كانت طبيعة الصدام بين الأديب والسلطة قد تجلت ملامحها عبر كامل مسار التجربة القطرية الاستقلالية مذ لاحت علامات الدخول في مشروع المجتمع "التلفيقي" للسلطة، الذي استثار كل المشارب والمذاهب الفكرية والفلسفية عبرت عنها كتابات وإبداعات صارخة بالسخرية من الواقع المبهم والقادم القاتم الذي تنبأت بفشله وانفجاره، وخير ما جسدته بهذا الخصوص رواية الزلزال للراحل الطاهر وطار لتعرف فترة الانهيار الكبير للمشروع الوطني "التلفيقي" فيما عُرف بالعشرية السوداء والذي أوشك أن ينهار معه البلد بكليته، ومعها برز ما عُرف بأدب الاستعجال، إسهال غير مسبوق للخيال الفني لجيل مصدوم من الواقع الدم استهوى غواية الكتابة من موقع الهواية، فوسمت إنتاجه رداءة فظيعة ومهولة على صعيد قيمة المنتج الإبداعي في ساحق غالبيته، لكنه شذ في تجربة الدم تلك كلية عن مسار اليسار الأول بحيث اصطف مع السلطة في مواجهة الإعصار الظلامي كما سماه الناقد المغربي نجيب العوفي.
يمكن القول أنه طغوى الخطاب الإيديولوجي المنتج الإبداعي لنخب الأدب الجزائري في فترة الستينات والسبعينات إلى غاية منتصف الثمانينات كان طافحا ومتجليا لأبسط القراء فضلا عن النقاد، و نبعه في ذلك ظاهرة الالتزام بخلفيتها الغرامشاوية، المنظرة للمثقف العضوي ودوره المجتمعي والاجتماعي، التي كانت تطبع واقع الثقافة والمثقف خطابا وميدانا وتجسد موضة الخطاب الفلسفي حينها، ولأن اليسار ظل المحتكر لحقول المعرفة الفوقية بكل قراءاتها التفكيكية والتحليلية للتاريخ وتقلباته، على حساب العمل النضالي الميداني الذي صار يتقلص شيئا فشيئا في مختلف مواقع التدافع النضالي السياسي من نقابات، جمعيات، اتحادات وجامعات، لصالح التيار الإسلامي الدعوي الخيري الذي ظل في مقابل ذلك دون قراءة معرفية عميقة وتحليلية وتفكيكية للتاريخ وهو ما حشره وحسره في نطاق الشعبوية المطلقة خطابا وممارسة، فكلفته الخسارة السياسية الكبرى على نطقيه المتناقضين المتصارعين المغالب للسلطة و والمشارك فيها.
وإذن هكذا شكل النقد الأيديولوجي للسلطة عبر الخطاب الروائي بلسانيه العربي والفرانكفوني، القلعة المعرفية الأولى الرافضة لبنى الدولة الاستقلالية ومشروعها التلفيقي الماتح من كل الأنساق و القائم على المزج بين متناقضات التاريخ، فبالإضافة إلى الروايات والمجامع القصصية والشعرية الفرانكفونية التي لم تنفك يوما وتائر نقدها اللاذع لهكذا مشروع تتعالى وتتوالى بتوالي السنين، فقد صارت على منوالها الأعمال المعربة التي برزت في بداية السبعينيات مع أول دفعات اليسار المعرب في الجزائر، فريح الجنوب والزلزال للراحلين عبد الحميد بن هدوقة وطاهر وطار فتحتا المجال واسعا ليلامس الخطاب الروائي والأدبي عموما، كي يلامس مساحات جديدة في النسيج المعرفي المسيس بجرأتهما الانتقادية والاستشرافية لمنقلب السلطة والمجتمع لا سيما في رواية الزلزال، كما أشرنا لطاهر وطار، فخلف من بعدهما خلف ازداد حدة وجرأة في نقده لسلطة التقليد التي تخضع لها سلطة الدولة لضمان بقائها والحفاظ على ديمومتها، نصوص قصصية وروائية بالعربية للراحل بلحسن، زاوي وسيني وغيرهم، ولحق بهم رشيد بوجدرة قادما من الرواية الفرانكفونية، اشتغلت في معظمها على نقد المجتمع بثقل مواريثه الرمزية بوصفها سلطة على السلطة، ونقد هاته الأخيرة بوصفها سلطة على المجتمع بمشروعها التلفيقي السياسوي على حساب ما يرونه هم، منطقا للتاريخ في التحضر والتمدن.
لكن سوء تدبير السلطة للمشروع التربوي على غرار كل مشاريعها التنموية، ما تسبب في تردي فعل القراءة وانحسار الفعل الثقافي، أسهم بشكل دراماتيكي في انسداد أفق المعنى للمجتمع، فاقمت من وضعه انتكاسة المشروع الاقتصادي للدولة الاشتراكية والمجتمع الضائع، وهنا برز التيار الاسلامي كبديل لحالة الانسداد تلك الناجمة عن سقوط مشروع الدولة على مستويي المعنى والمادة وبقاء اليسار بوصفه نخبة الثقافة القراءة العميقة للتاريخ مستأنسا في برجه العاجي منفصلا عن مجتمع ضائع بفعل تصارع السلط الكبرى على كل المستويات المعنوية السياسية والرمزية وفي شتى حقولها المؤسسية.
ومن سوء حظ الجزائري مع مواعيد التاريخ، أن تزامن ذلك كله مع الدخول غير الموفق وغير المحسوب للتعددية، كنتاج لصراع سلطوي داخلي، أستعمل فيه المجتمع بدلا من أن يُستعلم، ألقى بالبلد في أتون حرب أهلية دامت قرابة العشرية، تمّ خلف غبراها خلط كل الأوراق وإعادة ترتيب كل الصفوف والاصطفافات والإخلال بالبُنى المعنوية المادي والمؤسسية بالبلاد، ومع تلاشي ذلك الغبار اكتشفت الجميع شبح بورجوازية جديدة لا تاريخية، قائما، ردة لغوية كبيرة وخطاب إعلامي مرتكس للوراء.
هنا تحول القلم الأيسر للثقافة الجزائرية من نقد سلطة المجتمع ومجتمع السلطة إلى نقض الذات ومسار تشكلاتها التاريخية، فيما عرف بأدب الاستعجال الذي حاول أصحابه، في رداءة فنية فظيعة وصادمة، تصيد حالة التسيب والفلاتان الذي ذبح المجتمع الجزائري لجعل مرجعيته التاريخية محل اتهام وبالتالي جعل حقيقة الذات الوطنية مجرد أساطير أسست للوهم الذي أستند عليه في المشروع التلفيقي الوطني.
لقد أُدلج العنف التسعيني بصورة ممنهجة، وأعطي الصبغة والقراء التاريخية في أدب الاستعجال، الذي سُهلت له كل سبل الانتشار، وفتحت لطبعه ونشره كل الصناديق العمومية، في الوقت الذي تؤكد الحقائق الموضوعية أن القدح المعلى في أسباب نشأته وتطوره وتوسعه تكمن بخاصة في الجانب السياسي، دونما إنكار لبعده التاريخي طبعا.
والغريب في خطب الأديب الجزائري الذي عايش الأزمتين معا، أزمة الوطن السياسية والدامية في التسعينيات وأزمة الدولة السياسية والمالية اليوم، أنه في الثانية لزم صمتا غريبا ولجم قلمه بغطاء رمادي قاتم، طرح به العديد من الأسئلة، فلم هذا الاستعجام وبعد استعجال العشرية الماضية؟
فالصوت الأدبي الأوضح لا يزال ذلك الفرانكفوني الساعي خلف الجوائز الدولية المكافئة لتعرية المجتمعات الشرقية أو المناهضة لقيم الغرب وادعاءاته العولمية والديمقراطية، فيقدر ما تشتم وتطعن في ذاتك المجتمعية تدنوا من رضا لجان المسابقات هناك وتفوز بجوائزها ومكافئاتها، وإلا فما تفسير قلة إلى حد مشارفة الانعدام، تتويج عقول العرب في صنوف الإبداع المعرفي والتقني هناك في الغرب في مقابل كثرته لمن شاقوا مجتمعاتهم رمزيا وعادوها قيميا؟ فما يكتبه صلصال و كمال داود ومن لف لفهما، لا يختلف في سمته الخطابية وشاكلة تناوله لواقع المجتمع، عما ينتجه اليمين المتطرف في أوروبا الذي يبرر فشل مشروعه التنموي ويدايريه بتحويل رأي العام الأوروبي إلى مشاكل الهجرة وتغير ملامح الثقافة الحداثية في معقلها الغربي، وهو ما يرصده باقتدار اليسار الاوروبي ويواجهه بذكاء وحكمة، فماذا لو أن صلصال وكما دواد وزاوي وغيرهم واجهوا أزمة بُنى الدولة باعتبارها المسئول الأول عن تنمية المجتمع معنى ومادة، لا سيما في ظل المسخرة الافسادية الكبرى التي تعصف بمؤسسة الدولة الاقتصادية والسيادية السياسية؟ أم أن هكذا توجه لا يجلب شهرة وشهوة الجوائز الغربية؟
أما الأدب الموجه للقارئ الجزائري على قلته فسكت عما يجري من امتهان للدولة ومؤسساتها، والسكوت المريب للمجتمع حيال ما يحدث على مستوى الاحتراب المؤسسي الحاصل في أعلى هرم السلطة، وكذا على الفضائح المالية وأخبار الفساد التي تنخر كل مفاصل الدولة تكاد تأتي على أساسات الوطن.
فإذا كنا نتفهم غياب ردة فعل من الجانب الإسلامي لانفصال هذا التيار عضويا عن مجال الأدب والمعرفة الحديثة في تصوره ومشاريعه وهو اعتوار بنيوي في فكر وتاريخه ما سبب له السقوط السياسي والاجتماعي المدوي بعد انتصارات ظرفية آنية حازها إبان تفجر الربيع العربي، فماذا نقول عن اليسار الذي يناهض بطبعه الهيمنة البورجوازية في نطاق سيرورتها الطبيعية في المجتمع والدولة فما بلك حين تغدو غير طبيعية، وتتحول إلى أداة فساد ونهب وسلب لخيرات البلاد عبر تحالف شللي مع قوى غربية وشركات متعددة الجنسيات؟
هي الأسئلة التي تؤكد فعلا أن حالة الفوضى التي خلقها التحول المجتمعي بشكل قسري فوقي، كانت من تداعياته أن كسر أدوات الرصد السليم للمسير العام للمجتمع ما أشاع فيه حالة من الغربة والاغتراب العام والشامل، جسده ذلك الصمت الغريب المريب للأديب الجزائري في رسم المشهد الحاصل كما يتفاعل في أعماقه ، واستشراف الأفاق على غرار "زلزال" الراحل وطار.
بشير عمري
كاتب صحفي جزائري