تتنازعنا المخاوف و تلتحفنا الهواجس ، و نرابط مكاننا علنا نجد السلوى و الأمان ، و ترمح في دواخلنا المزيد من أنواع الرهاب ، و تتراءى لنا مقولة الأمن شطحة من شطحات الخيال ، و لعلها في أحسن الأحوال صنعة يعتاش بها النظام السياسي و الاجتماعي ، و لا يأبه بارتداداتها المتعلقة بالاقتصاد النفسي الذي يحفز الذات على إنتاج السلبية و العدمية و الاستقالة ، تتحول بموجبها الوطنية إلى إحساس عابر تغيب فيه القدرة على التضحية ، و تزف فيه ساعة الموت الحضاري .
تستمد السلط النامية كينونتها من الطاعة و الإذعان ، و من اقتصاد الخوف على الشرعية و المشروعية سواء بسواء ، و تبرر القول و اللجاج بالخوف من الفتنة لدرجة تحولت معه السلطة إلى فتنة ، تسور ذاتها بالسيف و تستقوي على الاختلاف بالآرية و الشرف و نبالة الدم ، و تغد السير قدما نحو إنتاج و إعادة إنتاج الإدماج بمفهوم الصهر و التذويب ، و إحلال الفزاعات البشرية محل الذوات و الكائنات النوعية .
الأرجح أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاستبداد نفسه ، بقدر ما يتمثل في مناورات إخفائه لتمييع مواجهته و التسليم بخيرته ، و تأجيل لحظات الانتقال ، فلا السلطة تملك ناصية إنتاج ذاتها ( تنميتها ) ، و لا المجتمع قادر على تجاوز أزماته ، لتنحل المسألة تدبيرا للأزمة ، و تعميقا للعطل الحضاري الشامل ، لترتد العملية في محصلتها النهائية العجز عن التفرقة بين ضرورة الاستبداد سواء كان مستنيرا أو طاغيا ، و مضاعفاته الخطيرة .
قد يتحول الإيمان بهذا البراديغم الأمن ـ الفتنة إلى عسكرة مفرطة لا تستطيع الفكاك من أزمتها الشكلية ( التعريف ) ، أو البنيوية و هي القدرة على تنمية المجتمع وفق أدبيات إنتاج الثروة بالمفهوم المعاصر ، لعل جوهرها الأساس هو الإنسان ، الذي يظل الغائب الأكبر في معادلة الأمن ـ القمع ، و ليس غريبا أن تسدل العمومية على هذا الفهم بشكل لا يتقيد فيه بإطار معرفي أو شرعي ، ليغدو مفهوما غامضا و غير محدد ، لذا يبدو أن مقولة الأمن المطلق لا تكتسي مصداقية ، لأنها مرهونة بتركيبة نفسية مهزوزة ، تقبر موضوعيا مقولة نسبية الأمن و المخاطر التي تحتملها .
عادة ما يتم الربط بين مفهوم الأمن القومي و المصلحة الوطنية ، بما يعني ذلك من حماية الدولة و وحدة أراضيها و سيادتها و استقلالها و استقرارها ، هذا المفهوم و الفهم يركز على النطاق الجغرافي و ليس المفهوم ؛ إذ هو نقطة التقاء و تفاعل بين السياسة الداخلية و الخارجية ، و في الوقت ذاته الربط بينهما ، بغاية إحداث التوازن بين متطلبات الأمن الداخلي و الخارجي ؛ فالأمن القومي الذي يقحم الجانب العسكري قسرا في الدلالة الخطية و الوحيدة ، يضع من نفسه بفضل قوله ، لأنه يلغي ضمنا موقع و موضع الدولة و جغرافيتها السياسية ، و مدى قدرتها على تعبئة مواردها الاقتصادية و الاجتماعية ، و تحويلها من قوة إلى فعل ، و في الوقت نفسه قدرتها على توجيه الإدارة و السياسة فيها التوجيه الأمثل ، و الذي يخدم مصالحها القريبة و البعيدة ، و ذلك اتقاء ردود الأفعال " التنموية " و الإملاءات الاستعمارية ، إلى دولة لها كراديسها و كتائبها الموجهة نحو الزحف لبسط نموذجها الحضاري ، بما يكفل لها صناعة الثروة و القوة بالمعنى النوعي و القيم الصراعية المرتبطة بها ، و إلا ستتحول إلى إشكال يبين سوء النفس و المناعة الداخلية الكابحة لمسعى التغير و التغيير ، لذلك حصر الأمن القومي في الجانب العسكري منه ، يشي بفهم تقليدي ـ عصبوي و قبلي ـ و أفق ضيق يفتقر إلى الموضوعية في التفسير ، إذ أنه هو نفسه ليس إلا أحد أبعاد الأمن القومي الذي يستند على قاعدة أمنية تنموية قوية على كافة المستويات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الحضارية ؛ بمعنى إنتاج الخيرات المادية و الرمزية المرتبطة بشعب معين ، و نقل هذا الرصيد الحضاري إلى مشترك إنساني يعلو على كل القيم السلبية المتعلقة بالجغرافيا الفردية و الأصول الاجتماعية الدافعة لتسريع وثيرة الصراع ( الحربي أكثر تحديدا )، و توفير المناخ الذي يؤصل العدائية و ينفخ في طبول حربها ؛ فالأمن القومي الذي يغيب الفاعلية المنتجة لصالح طبقية ما أو مركزية محددة ، يغدو أمنا فارغ الهوية لأنه يقوم ضدها ما دام يرى فيها وسيلة لاستعباد الآخر و المختلف حضاريا ؛ فحين أشعر بالأمن و السكينة لا ألغي الصراع و التباين بقدر ما أرى فيه سنة كونية فيها التدافع و الاختلاف و ليس الحرب الضروس ، بشكل قد يجعل هذا الفهم نزوعا نحو تجاوز سلبيات الحضارة الإنسانية ، حين تفاعلت بالندية القائمة على الإقصاء و تكثير الثخوم و الهوامش ، و توسيع مداها الدال على صنع القفر و الفقر و الحرمان الذي يطال غالبية ساكنة المعمور ، و بلغة أكثر تعبيرا صناعة الجوع و التخلف ، و التي تفتقد الحدود الدنيا للأمن بمعناه العلمي و الثقافي و الفكري ، وذلك أن التفوق باسم الحداثة أو نشر الدين أو التوسع الحيوي ، أو تحضير الشعوب ، هو أداة و غاية لتركيع الاختلاف والاستحواذ على أنواع الأمن باسم العصا و الدم و المجنزرة ، و إخواء مفردة الأمن من محتواها الدال على إنسانية الإنسان وليس سلطته و دمه و لونه و أصوله .
إن أحد أهم أسباب ضعف التنمية في مجالنا الحضاري ـ النامي منه و الإسلامي ، مردها طبيعة الدولة و مشروعها السياسي ، و الذي لم يكن إلا ذاتا تتعالى على الإنسان بالسنة و الجماعة ، أو بالقرب من البيت النبوي ، من أجل تحويل استخلافه في الأرض إلى طاعة و إذعان لعروش ترتوي من حياض الدم ، و تهدم كل المؤسسات الاجتماعية المستقلة ، من خلال تفتيتها و غزوها من الداخل دون محاولة الاستفادة منها في إطار أهداف التنمية و التجديد ، فما الأمن الذي يرجى من حرق الكتب ؟ و ما الغاية من إسكات المعارضة و الزج بها في غياهب السجون ؟ و هل في هذه الإجراءات ما يوحي بأن السلطة أنتجت تنمية و أرست قيما ؟ .
لقد قبضت الدولة في العالم الإسلامي على المجتمع و طلقته في آن واحد ، و اختلفت شرعيات " القبض " ، غير أنها توحدت في المضمون و الشكل ، فاحتكار مصادر السلطة و القوة يعبر عن اختراق للمجتمع و مصادرة أشكاله التمثيلية الأولية ، فأصبحنا بصدد " دولة المجتمع " ، و تدهور المجتمع بعد " تسييس المقدس " ، لأن الدولة قامت ب " تقديس السياسي " و كانت المحصلة اتساع الهوة الفاصلة بين الدولة و المجتمع ، و تشدد سلطوية الدولة في آن واحد .
شرط الأمن بمفهومه العلمي ضامن للتجدد و الإنتاجية الحضارية ، و كفيل بتجنب الإخفاقات المتوالية ، و محصن للنفس البشرية من نوازع التسلط و السلطوية ، لا لشيء سوى أنه يتيح للعوالم البشرية و الطاقات الكامنة فيها ، و من ثم المجتمع ، بإدارة التنوع و الاختلاف تماشيا مع الحقوق التنموية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية و الحقوقية و البيئية ، بلغة الأمن المستدام و بثقافة البناء المستمد من روح السلم التي يتم تقعيد أسسها مؤسساتيا ، و صياغة مقوماتها وجوده تربويا .