في عالم تتسابق فيه معطيات ثورات المعلومات والاتصالات والانترنيت والبث الفضائي، يكون ذكر كلمة رقابة فيه أمرا مضحكا، حيث اصبح الحصول على "الممنوعات" أيسر مما يتصور المرء أو يصرف وقتا بالتفكير بها. ولكن السلطات العربية الحاكمة بتنوع جهاتها ووسائلها مازالت تؤمن بقدرتها على أو برغبتها في استمرار الرقابة والمنع والمصادرة، والرقابة المعنية التي تقوم بها هذه الجهات بلا شك وسائل تصب في تهميش المعرفة وتبهيت مكانة الوعي وغلق نوافذ الفرح المؤجل وإعداد ولائم لأعشاب استمرار التخلف والمحاكمات والتفتيش والسجون ووأد الرأي الحر الجريء والصوت الثائر الذي يحرض إلى تغيير كوارث الواقع ويدعو إلى مستقبل افضل باجتهاد فردي معبر عن انتماء وصدق وابداع، وتعكس أيضا صورا متعددة عن تخلف الوعي وسذاجة الصراع الفكري ومستوى أدراك المهمات والتحديات التاريخية المنوط بها القيام بأعبائها والتصدي لمخاطرها الفعلية.
ولعل في مرويات الرقابة التي حدثت إبان العهد العثماني ما يخجل من ذكره أو تكراره بعد هذه العقود الطويلة التي تغيرت فيها عوالم ودول. يروى انه جرت أيام الدولة العثمانية مصادرة كتب ومطبوعات ضمن سياسة القمع الفكري وتقييد حرية الرأي والتعبير، ولأسباب غير منطقية أحيانا كما حصل في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، عندما قرر الرقيب العثماني منع تداول كتاب مدرسي منهجي لمادة الكيمياء لاحتوائه على شفرة سرية ضد السلطان، وهي الرمز الكيميائي للماء H2O حيث فسره عقل الرقيب سياسيا وحلله بالشكل التالي: H يعني السلطان حميد و2 الثاني و O صفر فيعني بعد ذلك أن السلطان عبد الحميد الثاني يساوي صفرا، وهذه جريمة سياسية ضد السلطان الكبير وعليه حظر الكتاب ومنع تداوله في المدارس. وبمثل هذه العقلية المعبرة عن الحالة السياسية والثقافية لتلك الفترة تجري عملية الرقابة للأسف لحد الآن، وهناك مرويات مماثلة عن أمثال ذلك بأشكال اخرى، مثلما فسرت جنسيا قبل سنوات ليست بعيدة إحدى العاملات في جهاز الرقابة الحكومي بيت الشعر العربي المعروف:
كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
ومنعت المطبوع الذي نشره.
وللأسف مرة أخرى دخل عالمنا العربي الألفية الثالثة بإعادة إنتاج إجراءات المنع والحظر وكيل الاتهامات والإدانات لكتب ومنشورات لا تختلف كثيرا عن قصة الشفرة السياسية في كتاب الكيمياء، بعد اكثر من قرن، وتنوعت وسائط الرقابة والمصادرة و "حرق الكتب" من أجهزة الدولة القمعية إلى أجهزة أحزاب سياسية أو مؤسسات وتيارات دينية أو شخصيات تدافع عنها.
وكل عام يشغل الرأي العام بقضايا كثيرة في عالمنا العربي، في اكثر من قطر، واكثر من موضوع، كلها استمرار لنفس الحالة من القراءات المغلوطة للشفرة.. إياها سياسيا أو جنسيا أو دينيا أو غير ذلك، فقد شغلت مثلا رواية الكاتب حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" الفضاء الثقافي زمنا تعرض خلالها الوعي العربي لصدمات مستوى الحوار الفكري وقيم التسامح الديني والسياسي. كما انتقلت الأجواء نفسها إلى فضاء اخر، عبر محاكمة المغني المعروف مارسيل خليفة، ومحاكمة الكاتبتين ليلى العثمان وزميلتها شعيب والأستاذ الجامعي في الكويت، وغيرها من الحالات التي تبقى مقارنة بالتصفيات الجسدية ارحم حالا واقل انسيابا إنسانيا، رغم وجوه الشبه بالنتائج العملية أو المقاصد المنشودة.
في تقرير اللجنة العلمية المصرية عن رواية وليمة لأعشاب البحر بأنها رواية عربية معاصرة لا تقرأ بغير النقد الفني لها، وان تحميلها ما لا تعنيه أو تقصده إبداعيا عمل لا يدخل في صلب العمل الثقافي وإنما له أهداف أخرى لا تتعلق بفن الرواية. "ومن هنا فان ما نسب إلى الرواية من بعض العبارات التي يبدو في الظاهر أنها يمكن أن تمس شعور القارئ غير المدرب لما يظن انه مساس بالدين أو طعن في القرآن الكريم أو تعريض بحياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو من قبيل سوء فهم الفن الروائي وتحريف عباراته، وانتزاعها من سياقها وتجاهل ما يرد في النص ذاته من رد عليها من شخصيات مخالفة.." وشهادة هذه اللجنة المكونة من خبراء ونقاد أدب معروفين بدورهم ومكانتهم الثقافية تعفي من التعليق على ما جرى بحق الرواية وحصل بأثرها من إجراءات سفكت حولها دماء بريئة وصراعات كسر عظم بين قوى سياسية ألبست الرواية "قميص عثمان" وتذرعت كل جهة بأحقيتها به. ولم تكن هذه القضية جديدة، أو كأنها تعيد نفسها بشكل آخر، فكما هو معروف تداخل فيها شعراء ونقاد عرب مسلمون قدامى، وصارت جزءا من التراث الأدبي، إذ ذهب القاضي الجرجاني مثلا إلى حد الإلحاح على "أن الدين بمعزل عن الشعر". وقال: "فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لتوجب أن يمحى اسم أبي نؤاس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى واضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكما خرسا، وبكاء مفحمين، ولكن الأمرين متباينين، والدين بمعزل عن الشعر".
وقضية المغني التقدمي مارسيل خليفة لا تبتعد كثيرا عن المعاني التي حملتها تلك القضية في صراعاتها وتذرعاتها. ومثلما اعتبر إعادة نشر رواية منشورة من اكثر من عقد من الزمان ولم تثر آنئذ أي كلام حولها مثلما حصل بعد إعادة طبعها، جرى كذلك بحق أغنية للفنان مارسيل خليفة. غنى قصيدة الشاعر العربي محمود درويش "أنا يوسف يا أبي" عام 1995، وتغنت بها الجماهير العربية المسحوقة، المرمية في البئر العربي العميق، المطوقة بقواعد الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين، ومحطات إنذارهم المبكر وطائراتهم التي تحرس الأجواء وتدعم احتلال القلب من هذا الوطن المرسوم بين مياه المحيطات والبحار. خلال رده على استجواب (القاضية) أسف الفنان المبدع للمثول أمام محكمة يدخلها تجار المخدرات واللصوص، وهو الشخص الذي لم ينتم إلى أي طائفة من الطوائف اللبنانية، ودافع عن حقوق الإنسان المعذب تحت الأرزة اللبنانية، وانتصر للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال. قال في مرافعته: "إن الإنسان الذي قدم كل ما قدمه لخدمة قضايا الإنسانية لا يمكن أن يقدم على تحقير أي من الشعائر الدينية وان يمس أي طائفة من الطوائف التسع عشرة في لبنان". أطلق الفنان مارسيل أغنية أنا يوسف يا أبي بعد الفضيحة المستورة، مجزرة قانا، والجرح العربي المفتوح أفقا، وجاءت أغنيته شدا لعزيمة يوسف العربي المظلوم على ظالميه، وضد التخلي عن الدم العربي المباح، وضد الصمت الخبيث، والألم الصامت. ولأنه غنى للفرح والثورة تحولت الأنظار اليه، وتحركت المحاكم والبنادق الصدئة والعقول المتحجرة لتقفل أبواب الأنين وصرخات الشهداء والضحايا والمحرومين. فهل يمكن أن يقتنع إنسان بمثل هذه الدعاوى البالية والانشغال بها في زمن فقدان الوزن والوعي السليم.
بلا شك ومن خلال مجريات الأحداث أن قضية الأغنية والفنان لم تكن تلحين آية قرآنية. وشرعية تحليل أو تحريم الأغنية واللحن، وإنما لها مثل قضية الرواية أبعادها الأخرى البعيدة عن الفن والإبداع وقضايا الإنسان الأساسية.
وإذا ودعنا إشكالات الرقابة والمنع والالتفاف على المواضيع الرئيسة بانتهاء صامت لتلك الضجة المفتعلة، وإشغال الأمة بما لا يصب في خدمة قضاياها الحقيقية والعادلة، وحرفها عن مشاركتها الصادقة في تحقيق أهدافها وتطلعاتها المشروعة. دخلنا إلى الفرعيات بما يشبه الماضي القريب، بالرغم من زمن الانتفاضة الفلسطينية وتحرك الشارع العربي والأمل بتصحيح الأوضاع والاختلالات التي تمكنت من الدخول إلى هذا الوطن المحاصر بحروب المياه واليورانيوم المنضب وقمع الاحتلال وقصف الطائرات شبه اليومي. وصار اعتياديا أن تحمل أخبار الثقافة بين فترة وأخرى تعقيدات جديدة بتكفير شاعر ومنع تداول مجموعته الشعرية، أو زوبعة مصادرة وإلغاء توزيع روايات مطبوعة وتشهير بكتابها أو بأدباء عرفوا بمواقفهم الإنسانية وإبداعاتهم التقدمية التي تحرص على خدمة الشعب والوطن قبل كل شيء، وإصدار بيانات وتصريحات متصارعة في حلبة لا تمت لحرية الإبداع والفكر والتعبير ولا تخدم قضايا الدين والأعراف والأخلاق العامة ولا الثقافة ومبدعيها ومنتجيها الساهرين عليها والناشدين لتطويرها وإسهامها في المجتمع والحياة.. أين المنطق في هذه الحالات والأمور الحساسة بالتأكيد، وأين هي الأولويات في الهموم الإنسانية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية؟. لا يختلف كثيرون في هذه الأيام، وفي زمن العولمة الزاحفة، على أهمية الدفاع عن الهوية الثقافية، واكثر المبدعين العرب هم القائمون بهذه المهمات والتصدي لها بإبداعهم وإنتاجهم وتمسكهم بهويتهم الحضارية وانتمائهم الوطني القومي، ولا خلاف كبير بهذا الشأن، إلا أن هناك من يحاول المشاغلة والبحث وراء السطور لما لا يخدم هذه المعارك الحقيقية ولا يصب في خدمة الأهداف التي يعلنها البعض ذريعة لفتاوى التكفير والتشهير وقرارات المصادرة والمنع والقمع وتفتيش السرائر وما في الصدور، وفي نفس الوقت الابتعاد عن المسائل الأكثر أهمية وخطورة في الساحة، ومحاولة التهرب من تحشيد كل الطاقات لها، وكل الجهود لتحقيق ما تصبو له الأمة وتسعى إليه.. فهل يعقل أن استخدام شاعر لآية من آيات القرآن الكريم بنص شعري له أو بعنوان ديوان أو قصيدة يسيء إلى القرآن الكريم وقدسيته؟، وهل يصدق أن استلهام نص قرآني في عمل إبداعي متكامل يشوه مقصوده ويحرف معناه؟. هل إذا كتب روائي قصة واقعية من حياة الناس الغلابة وسجل فيها معاناتهم اليومية وقساوة البحث عن لقمة الخبز وهجعة الليل وما يسد رمق الأفواه الجائعة لكل شيء من حول أبطال القصة، يخدش حياء المجتمع ويمس الدين السمح، الذي نزل هدى للناس ورحمة؟.. لا أظن هذه الأمور الحساسة فعلا غائبة عن وعي منتجي الثقافة العربية ومبدعي الكلمة والأغنية واللون الجميل، ولا بعيدة عن اهتمامهم وهمومهم اليومية ومشاركتهم العضوية في بناء المجتمع وقيمه الإنسانية ومثله الكبيرة.
إن احترام ذلك جزء من عملية المشاركة الفاعلة في الإنتاج الثقافي وتطوير الوعي الجمعي ودفع الرأي العام للمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع المدني واحترام أسسه الصحيحة في توفير العدالة الاجتماعية والشورى السياسية والاشتراك في ثروات الأمة والأوطان. إن استمرار هذه الحالة المؤسفة لا يبشر بفاتحة خير للإبداع والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان العربي، ولا يتواكب مع روح الانتفاضات الشعبية التي اندلعت رفضا للقمع واحتلال الأرض والعقل ونشداناً للخلاص والحرية والكرامة. وكي لا نربط بينها قسرا ونستسهل ما يجري لا بد من الإشارة إلى ثوابت الهوية ومقدسات الأمة التي لا يجوز المساس بها سياسيا واستخدامها لأغراض نفعية جزئية والاستهانة بقدراتها التحريضية والمعنوية الكبيرة لإمداد الرأي العام الشعبي بها والتأثير على دوره المهم وتقديم خدمات مجانية للعدو المتربص لمثل ذلك، وهذا يتطلب في نفس الوقت عدم تحميل النصوص الإبداعية المعاني الأبعد من محتواها الفني وقراءتها بعمق المختص والقارئ الجاد المتحمس للإبداع المثمر والمعبر عن أوجاع الواقع وهموم الإنسان العربي وجروح الأمة الكثيرة والكبيرة.
للأسف تعيد هذه الأخبار ما حصل مع قصة الكاتب البريطاني سلمان رشدي وفتوى الإمام الراحل آية الله الخميني، التي قدمت للقصة والكاتب ما لم يحلم به في حياته رغم ما تعرض له جراءها، مع اختلاف المعاني والتوجهات وربما المرامي. وتربيع الدائرة لا يمكن أن يخدم أبدا الأهداف العادلة والتطلعات المشروعة ولا المشاريع السياسية ذات الأبعاد النهضوية البناءة.
إن صيانة الثروة الروحية للأمة مهمة رئيسية مطلوبة مع الكفاح سوية في سبيل الدفاع عن ثروات الأمة المستباحة والمحتلة والمنتهكة كل يوم دون تسابق مصلحي آني قد يضيع الخيط والعصفور سوية ويعرقل الخطط السليمة لحاضر ومستقبل المجتمع. إن اتهامات تنطلق من تفسير جملة في كتاب كامل بأنها كفر ، واتهام عنوان مجموعة شعرية بالمس بالدين مثلا، ودعوة المبدع لتفسير ما قاله وعناه إقحام غير مبرر، مقارنة بما يحصل من حملات لأقلام ومطبوعات ضد المقدسات الحقيقية ولم تلق نفس هذه "المساعي" من أصحابها، الأمر الذي يشك في مصداقية هذه "الاتهامات" وبواعثها. حيث لا يمكن تصور صمت غريب إزاء انتهاكات صارخة وواضحة واستلاب يومي واستهتار مفضوح بقيم ومثل الأمة ويفاجأ المرء بمثل هذه "الحملات الموقوتة". ولعل ما حدث بأمريكا في أيلول/ سبتمبر الماضي من كوارث وما فرخته من كوارث أخرى بحق الثقافة العربية الإسلامية يوجب على جميع القوى الحية في المجتمع العربي العمل الجاد لتجديد الخطاب الثقافي والسياسي وتعميق روح المراجعة الجدية للتجارب الماضية وتطوير الاستفادة من دروس وعبر الأيام كي لا نفسر الشفرة الكيمياوية سياسيا فقط ونقرأ بيت الشعر حسب الرغبات والهواجس ونعمق من محنة الأمة ونشفق على أحداث السنين.
إن إلغاء ما تسميه السلطات العربية وأولو وحيهم في هذا الشأن بالرقابة وفسح أوسع فضاءات الإبداع حرية للمثقفين الحقيقيين الساهرين فعلا لخدمة أمتهم ومقدساتها مهمة جليلة وقضية لا ينبغي التردد فيها أو تأجيلها. وليأخذ المثقف العربي دوره الفاعل في المجتمع حاضرا ومستقبلا .