عندما يتعلق الأمر بسياسات الدول الخارجية لا موجب للحديث عن دولة فاضلة وأخرى شريرة، أو عن دولة "الملائكة" في مقابل دولة "الشياطين". الرابط بين جميع الدول حول العالم هو وجود مصالح معينة، مع السعي الحثيث لتحقيقها بكافة السبل الممكنة، بما في ذلك الأساليب القذرة وغير الشريفة. وهذا مسلك تستوي فيه جميع دول العالم بلا استثناء الصغيرة منها والكبيرة، المسلمة وغير المسلمة، الديمقراطية وغير الديمقراطية. كما تتلاقى هذه السياسات في كون معظمها، وليس كلها طبعا، تتم في السر وتديرها شبكات متداخلة.
للتدليل على خطأ نظرة بعضنا لسياسة الدول، وسعي الكثيرين نحو المفاضلة الأخلاقوية المثالية بين مواقف وتصرفات الدول، وبناء مواقف ثابتة إزاء مسلكيات هي متحولة بشكل متواصل. للتدليل على ما قلنا يكفينا تقديم مثالين من عالمنا الاسلامي. يتعلق الأمر بتركيا والعربية السعودية. وهنا تبدو صورة السعودية في وعي أغلبيتنا على أساس أنها تمثل الشر كل الشر، بينما تظهر تركيا مدثرة بثوب الفضيلة والعفة. سنرى كيف أنه توجد مصالح وحسب. ولا وجود البتة لأشرار وأخيار في مجال سياسات الدول.
بالنسبة لتركيا تكاد تحوز مكانة مثالية في وعي نسبة مهمة من المسلمين حول العالم. فهي في نظرهم المنافحة عن حقوق العرب والمسلمين، المؤيدة للقضية الفلسطينية، المدافعة عن القدس. ينسى بعضنا أن تركيا ليست سوى دولة مثل باقي الدول، تسعى نحو تحقيق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية والاستراتيجية تماما مثل باقي الدول. ولكنها نجحت، دون غيرها، في تشكيل وتسويق واجهة أكثر لمعانا بالمقارنة مع غيرها من دول المنطقة. واجهة كافية لإحداث رجة في وعي الكثيرين بما يعميهم عن رؤية ما خلف الواجهة، وحتى ما أمامها من حقائق دامغة.
لا ننسى أن تركيا الشريفة العفيفة تعتبر جزءا من حلف شمال الأطلسي. ولا ينبغي أن يغيب عنا ما يعنيه هذا الاصطفاف العسكري. وعلى كل فهو يتناقض مع فكرة كون تركيا هي مخلصة فلسطين لأنها تنتمي الى حلف مهمته الأساس هي الحفاظ على الوضع الحالي في فلسطين التاريخية. الأمر الثاني هو أن تركيا التي تسوق نفسها كمدافع وحيد وأوحد عن حقوق الفلسطينيين(في سياق الدعاية طبعا) تقيم علاقات طبيعية ودافئة جدا مع دولة العسف التي تحتل أراضي الفلسطينيين. إنها ليست علاقات عادية للتمثيل الدبلوماسي وحسب، لا بل هي علاقات متكاملة، تشمل تبادلا اقتصاديا مهما للغاية، وتبادل البعثات الاقتصادية والثقافية. والأكثر أهمية من كل هذا هو الشق العسكري في هذه العلاقات الملتبسة، والتي تشمل تبادل الخبرات العسكرية والقيام بالمناورات والتدريبات العسكرية المنتظمة التي لم تتوقف إلا لماما وبما يستدعيه الغضب التركي المصطنع خلال أوقات الأزمات لأجل عدم خدش الواجهة والدعاية التركية التي أشرنا الى بعض جوانبها أعلاه.
فأين سيوظف الجنود الاسرائيليون مثلا الخبرات المشتركة التي يراكمونها عاما بعد آخر من خلال تدريباتهم مع أشقائهم الأتراك! وأين سوف تصوب الاسلحة الاسرائيلية، والحال تركيا هي حامي عرين الفلسطينيين. لنتأمل في هذا الدور المزدوج والماكر الذي تلعبه تركيا. فهي تأخذ العرب والمسلمين بالعاطفة، مثلما هم غارقون فيها، وتتعامل بمنتهى الواقعية مع أعدائهم المباشرين. لنكتف باختيار بعض المناطق حيث تلعب تركيا ادوارا مهمة. لنركز عمدا على الشرق الأوسط والخليج وإفريقيا.
تركيا لها أطماع لا يختلف حولها اثنان، ولسنا في وارد التفصيل في حنين الأتراك الى مجدهم العثماني الغابر الذي تترتب عن نزعات هيمنية واضحة في سلوكات الأتراك. لقد لاحظنا كيف ثارت ثائرة الأتراك في الأزمة السورية، وكيف أنهم كانوا معنيين بتطورات الأزمة أكثر من الشعب السوري نفسه، فدعموا الجماعات الدينية السورية، وسمحوا بتدفق السلاح الخليجي إلى شمال سوريا. وبعد أن جنحت الجماعات الدينية السنية نحو التطرف تنكروا لها، واتجهوا الى الصف الروسي، وعادوا إلى ربط صلات خفية مع النظام السوري.
لتركيا مصلحة دائمة في العراق. شمال العراق يكاد يتحول الى منطقة تدريب للطيارين الاتراك المبتدئين للتدرب على إصابة الأهداف. لتركيا مسامير كثيرة في العراق من العرب السنة والتركمان، ومن كل القوميات العراقية، تحافظ بواسطتهم على مصالحها في العراق. المصالح نعم هي من دفعت تركيا الى بناء سد ضخم على أحد الأنهر التي تصب في العراق لتحرم العراقيين بذلك من مصدر مهم للتزود بالماء.
تركيا حاضرة في الساحة اللبنانية تناوش السعودية هناك. وهي موجودة في الأردن عبر ممثليها الرسميين هناك: حركة الإخوان المسلمين. وتحضر في مصر بنفس الطريقة، وعبر نفس الوكلاء المحليين المؤمنين بما وراء القطرية. ويشتد وطيس المواجهة على الساحة المصرية بعدما انتزعت مصر انتزاعا من تركيا بتدخل خليجي هدفه إنهاء اي تمكين للاخوان المسلمين هناك من شأنه التأسيس لكيان يحاكي النموذج التركي الأردوغاني.
لم تكن تركيا لتغفل منطقة الخليج الغنية مع يقينها بكون أنظمتها تمثل منذ زمان النقيض الواضح للتجربة الاخوانية التركية. ولكن الأتراك رغم ذلك لم يعدموا الحيلة. ظل السعي حثيثا لتدبير انقلابات تطيح بالأسر الخليجية حتى والبلاد تسير على هدي العلمانية. ومع الازمة الخليجية ظهر ثقب واسع في الجدار الخليجي لم يمكن لتركيا من التدخل السياسي والاقتصادي وحسب، بل مكنت ولأول مرة بعد نهاية الحكم العثماني من تأسيس إحدى أكبر قواعدها العسكرية بالخارج هناك. حديثنا عن القاعدة التركية بقطر. هل جاء تأسيس القاعدة بسبب الخلافات الخليجية؟ لا، أبدا. الاتفاق كان قائما منذ مدة بين قطر والاتراك لبناء هذه المنشأة العسكرية بتشاور وبمباركة أمريكية. تركيا في عهدها الأردوغاني تدرك أن أكبر أعدائها على الإطلاق يوجدون في منطقة الخليج العربي.
تركيا لم تتوقف هنا، بل اتجهت نحو السودان، وحصلت من السودان على جزيرة كان يقيم فيها الجيش العثماني خلال القرن الماضي. وتحت يافطة المشاريع يتم تفويت هذا الجزء من البلاد من إخوان السودان لاشقائهم إخوان تركيا. وبعد السودان تتجه تركيا تحت غطاء اقتصادي نحو شرق إفريقيا، وبخاصة القرن الإفريقي. ليس ثمة من معنى لإنشاء استثمارات في بلدان شحت ثرواتها وأنهك الجوع أهلها. ولكن الأتراك يعرفون أنها منطقة للقضم لغاية في نفس يعقوب ويتنافسون في ذلك مع دول أخرى مثل الإمارات العربية. ومن القرن الإفريقي تحول الأتراك باتجاه باقي أنحاء القارة الإفريقية لأخذ نصيبهم من الكعكة الافريقية، حيث نلحظ مجهودا ضخما يتم بذله هناك من قبل الاتراك لا يوازيه سوى ما تقوم به الصين بالمنطقة.
بالنسبة للعربية السعودية، يجب أن نفهم أنها دولة تهمها مصالحها وحسب، تماما مثل سائر الدول. هذه الدولة التي تبدو للعيان ككيان ديني محافظ، وكزعيمة للمسلمين، وراعية لقضاياهم، ربطت وجودها وأمنها منذ البداية بالبريطانيين، ثم الأمريكيين في وقت لاحق. وهي تتمتع بهذه المكانة الدينية المثالية، فهذه المملكة كانت دائما في صف الغرب، وكانت في كل الأحوال خير من ينفذ أجندته بطرق ترك الغرب لها صلاحية إخراجها للناس بما يحفظ هيبة الحكام، وبما يتساوق مع فكرة كونهم حماة الملة والدين الاسلامي.
سلكت هذه المملكة سياسات في الاقليم كانت تهدف من ورائها الى حماية مصالحها الخاصة بتسخير الآخرين عبر سلطة المال لكي يكونوا أدوات لتنفيذ تلك المصالح. فقد دعم السعوديون العراق خلال فترة معينة ليس من أجل مصلحة العراق، وإنما اتقاء لشر إيران. ثم ما لبثوا أن دعموا غزو نفس البلد الذي طالما وقف أهله يدافعون عن أمن مملكة الحرمين. لا، بل كانت الضربة موجهة الى الفصيل الأكثر مساندة للسعودية من بين العراقيين. وبقيت تتفرج ودون حراك على مشهد إبادة وتهجير سنة العراق من طرف مليشيات شيعية ظلت تتدرب لعقود في ايران، وهي التي تدعي تمثيل سنة العالم الاسلامي.
وفي الإقليم ظلت مملكة آل سعود تراهن على التحكم في قرار المشيخات الخليجية المحيطة بها. وكان هناك جهد أمني متواصل لعقد تربيطات قبلية تضمن هيمنة آل سعود على القرار الخليجي. كان كل هم السعودية الحرص على عدم التمكين للاخوان المسلمين بالإمارات الخليجية التي تدور في فلكها. وظل يقلقها ميل أمراء مشيخة الدوحة نحو الفكر الاخواني، وتحول ميولاتها الاخونجية الى عمل مناهض لآل سعود خارج منطقة الخليج. وهو ما كان كافيا لدفع السعودية نحو التضحية بكل صلاتها بقطر، وفرض حصار خانق على الامارة الصغيرة والغنية التي تقع بخاصرة المملكة، لتأديبها وثنيها عن الارتماء في أحضان الإخوان.
يأتي الموقف السعودي من أم القضايا ليزيد من توضيح حقيقة أن مصالح الدول لا يمكن أن تبنى على دين أو خلق، حتى ولو كانت تبدو كذلك عبر وسائل البث والدعاية الاعلامية الموجهة للاستهلاك الداخلي أو القومي. نعم، الأخلاق تفضي بأن آل سعود ينبغي أن يظهروا أمام المسلمين وأمام العالم أجمع كأكبر نصير لقضية شعب فلسطين. وخلف الصورة توجد الحقيقة التي لا يقبل بها العاطفيون منا مثلما لا يقبل الموالون للأتراك أي خدش للواجهة التركية. إنهم يريدون العيش على نفس المواقف كما رسمتها وسائل الدعاية.
لم يكن تعاطي حماة الحرمين ليختلف عن باقي الدول العربية والاسلامية منذ أواسط القرن الماضي. فمن ناحية، نجد الشطحات الاعلامية الموجهة للرأي العام الداخلي والقومي(العربي والاسلامي) وكلها نخوة وتضامن وتعاطف... ومن ناحية ثانية يلاحظ أن يد السعوديين قد ظلت ممدودة الى الاحتلال والقوى الدولية الداعمة له، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء. ليس آل سعود أفضل من غيرهم في هذا المضمار. هم يعلمون تمام العلم بأن قضية الفلسطينيين ليست اكثر من مجرد قضية للاستغلال، وعقد الصفقات، وخدمة الاجندة الخاصة.
بعد سنوات من الدعاية، يبدو حكام السعودية أكثر ميلا لإعلان حقيقة موقفهم من القضية الفلسطينية، وأكثر إيمانا بأنها قضية خاسرة، ولا يمكن المراهنة عليها. وهم لا يتوانون اليوم عن التمترس بشكل واضح ضد القضية الفلسطينية عبر المشاركة في إبداع حل عالمي من شأنه الاجهاز على القضية الفلسطينية وهدر حقوق العرب الذين لازالوا متواجدين ببعض مناطق فلسطين التاريخية. وباتت القناعة راسخة لديهم بأنه من العبث الحديث عن دولة فلسطينية أو حق فلسطيني مادام واقع الحال يشي بأن معظم ذوي الحقوق إما مهجرين بدول الجوار، فضلا عن رسوخ أمر واقع فرضه اليهود بالمنطقة. ولم تتبق سوى منطقتين صغيرتين جدا هما الضفة والقطاع يمكن التفاهم حولهما لإنهاء القضية المسماة فلسطينية. ومن هنا يأتي دور السعوديين في التهييئ لصفقة تاريخية تضع نهاية لما يسمى بالقضية الفلسطينية، وتمكن السعوديين من تحويل القضية الفلسطينية من عبء ورزئ كبير الى مكسب يعيد لهم دورا بالمنطقة كتتويج للدور الذي يلعبونه في إتمام الصفقة المتوقعة. دور السعودية في هذا الظلم العالمي يتجسد في إقناع الأنظمة الرسمية في البلاد للعربية المؤثرة، ثم إقناع الفلسطينيين بقبول العيش الآمن في رقعة يتم الاتفاق حولها، وتوديع حلم إنشاء الدولة الى الأبد. ولا ينحصر التدخل السعودي في البلاد التي ذكرنا وحسب، فهناك تدخلات مهلكة في أكثر من بلد.
في سوريا، وبمناسبة الأزمة السورية، تم شراء السلاح، وتم تزويد الفصائل الاسلامية بأنواع السلاح، لكن تلك المليشيات سرعان ما خذلت السعوديين لتذهب ملايين الدولارات التي أنفقت على السلاح هباء منثورا، ولتخرج السعودية-بعدما خسرت الملايين-خاوية الوفاض من المربع السوري بعد أحداث تداخلت فيها العوامل السورية البحتة مع عوامل مرتبطة بتدخل قوى إقليمية ودول كبرى، خاصة في الشمال السوري. وهي كلها قوى لا ترحب بأي دور سعودي بالمنطقة، وبخاصة الاتراك والروس. غير بعيد عن سوريا تتدخل السعودية باستمرار في لبنان بزعم دعم الأغلبية السنية هناك. التدخلات السعودية عادت بالويلات على سنة لبنان بعد أن اكتسحت إيران الساحة اللبنانية، وهيمنت عبر وكلائها على السلطة والسلاح في هذا البلد المتوسطي الصغير.
وفي الأردن، داوم السعوديون على ابتزاز البلاد في مواقفها عبر استغلال الضائقة الاقتصادية البنيوية التي تعاني منها البلاد، وجعل الدعم المالي مقرونا بابتزاز ومساومة الأردن في مواقفه. يحدث هذا والأردن اليوم يبدو كآخر طائر يحلق خارج سرب الصفقة المبشر بها. وفي مصر نزل السعوديون بكل ثقلهم المالي، ليس حبا في المصريين طبعا، وإنما لإفشال أية محاولة للتيار الإخواني للامساك بالسلطة في المحروسة، ومن أجل التحضير لصفقة القرن المرتقب أن تلعب فيها أرض الكنانة دورا مهما. وعلى الساحة المصرية ايضا تدور رحى مواجهة سعودية قطرية شرسة سلاحها المال وشراء ذمم الاطراف المتصارعة..
بالنتيجة، يمكن القول أنه في مجال العلاقات الدولية قلما توجد مبادىء موجهة دائمة، بقدرما توجد مصالح متغيرة. وبالتالي، فالتنميط الاخلاقي لمواقف الدول لا يوجد إلا في عواطف بعضنا. وبه وجب الاستنتاج بأنه لا محل للمقابلة بين دولة فاضلة ''عفيفة'' خيرة دائما وفي كل الحالات، ودول شريرة عميلة وخائنة. لا موجب لشيطنة الدول والانقياد وراء واجهة شكلية تخفي الوجه البشع لسياسات الدول. فجميع الدول تسعى لتحقيق مصالحها بكافة الوسائل، وأكثرها خسيسة وغير مشروعة. ولكن أكثر الناس لازالت تؤخذ بالمظاهر والدعايات التي تقدمها الدول، وهي بصدد تسويق مواقفها.