" كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس ” أفلاطون .
مقدمة:
هو أفلاطون (427- 347) عنوان الفلسفة المثالية وملهمها، وهو من أكثر عقول الإنسانية في العصر القديم نبوغاً وإبداعاً وإشراقاً وعبقرية، ولا ريب أن نظريته تشكل منعطفا تاريخيا في الفلسفة الإنسانية، ولا غضاضة إذ يشار إليه إجماعاً بأنه المؤسس الأول للخط المثالي في الفلسفة، وقد قدّر للمثالية أن ترتفع على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، فطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية الممثلة بخط ديمقريطس وطاليس وهيرقليطس. وقد عرفت مدرسته الفلسفية التي أطلق عليها "الأكاديمية" بأنها أهم جامعة تنويرية في العصور القديمة، وهي التي استمرت تومض وتشعّ بأنوارها فلسفة وعلماً وعطاءً فكرياً في أثينا مدة تسعة قرون، وكانت لتبقى لو لم يصدر الإمبراطور جستنيان الروماني قرارا بإغلاقها وطرد فلاسفتها. وقد قيل في أفلاطون "إن الفلسفة نبتت على يديه واكتملت في حياته"([1]).
يتحدّر أفلاطون من أسرة أثينية عريقة في المجد، ولد في أثينا عام 427 ق. م وعاش حتى بلغ الثمانين من العمر، إذ توفي سنة 347 ([2]). كان أبوه يدعى أرستون وأمه فريقونية. ويقال بأن الاسم الأصلي لأفلاطون هو أرستوقلس، ولقب أفلاطون لسعة في جبهته واتساع في منكبيه، كان رجلاً وسيماً وشجاعاً فاز في حلقات السباق وفي حلبات والمصارعة. تتلمذ مدة ثماني سنوات على يد أستاذه سقراط، وكان يقول حباً فيه: "أحمد الله الذي خلقني يونانياً لا بربرياً، وحراً لا عبداً، ورجلاً لا امرأة، ولكن فوق ذلك كله أنني ولدت في عهد سقراط"([3]). وكان لعبقرية ذلك الرجل أن تتألق في كل العصور التاريخية، حتى قيل فيه "إن أفلاطون هو الفلسفة وإن الفلسفة أفلاطون".
كان أفلاطون واعظاً وكاهناً وفيلسوفاً ، أسس "الأكاديمية" في 388 ق.م، وسميت هكذا لأنها أقيمت بالقرب من ضريح أكاديموس البطل الأسطوري اليوناني، وكتب على بوابتها "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا".
كان عصر أفلاطون عصر حروب ومؤامرات ودسائس سياسية، الحرب بين الفرس والإغريق، الحرب بين أثينا وإسبرطة، المؤامرات بين الأحزاب والأرستقراطية والديمقراطية. وتحت تأثير تلك الظروف وعلى أثر مقتل سقراط قرر أفلاطون الترحّل في بلدان واسعة كإيطاليا ومصر وصقلية، وكات للأنظمة السياسية في تلك البلدان تأثير واضح على نمط تفكيره السياسي. وكان لإعدام أستاذه سقراط أثر كبير في توجهه نحو العمل السياسي في عصره، إذ كان حاقداً على الديمقراطية الأثينية التي أدت إلى مقتل العقل.
وقد نهل أفلاطون من ينابيع متعددة في الفكر والثقافة، وأهم مصادره الفكرية:
1 ـ السوفسطائيون ولاسيما مبدأهم: الإنسان مقياس الأشياء.
2 ـ نظرية هيرقليطس في التغير الدائم.
3 ـ الفلسفة الفيثاغورثية أو فلسفة العدد ومفهوم التناسخ.
4 ـ الفلسفات الشرقية المصرية والهندية: حيث قضى ردحاً من الزمن في مصر ينهل من معينها الفكري.
5 ـ أستاذه سقراط في منهجه وتهكمه وفضيلته([4]).
واستطاع عبر هذه المصادر أن يرسم واحدة من أعظم النظريات التربوية والفلسفية.
2- المحاورة الأفلاطونية
ترك لنا أفلاطون تراثاً ثرّاً من الكتب والمصنفات التي سطرها على صورة محاورات مستلهماً المنهج السقراطي في الحوار والمناقشة. ويتميز أسلوب المحاورة الأفلاطونية بالرشاقة والجمال كما يتميز بالتكامل والانسجام. زكان أسلوبه مزيجاً ساحراً من الفلسفة والشعر والأدب والفن. إن ما يتميز به أسلوبه من حب المداعبة والتهكم والخرافة والأسطورة يترك القارئ في حيرة دائمة من أمره. فالمحاورات الأفلاطونية- كما يقول ديورانت- ستبقى أحد الكنوز الثمينة في العالم، وأفضلها كتاب الجمهورية([5]).
ويقال إن أعمال أفلاطون في محاوراته تشهد على أنه من أبرز كتاب الأدب العالمي، حيث يعتمد أفلاطون المنهج الفلسفي النقدي وهو منهج جدلي تهكمي توليدي. كما يستخدم في كتابة محاوراته أساليب عديدة من الدراما والتهكم والسخرية والحوار. ويقال في ذلك إن المحاورات الأفلاطونية لا تعين منهجاً للبحث من أجل اهتمامها بل تجعل الفكر أكثر قدرة على التفكير في الموضوعات وحلها، وتجعله أكثر إبداعا، والمحاورة لا ترمي إلى تقديم معلومات بل إلى إعداد الفكر وتنمية العقل النقدي.
كانت المحاورات التي تركها أفلاطون مرآة لعصره، فالشخصيات التي تمثلها هي شخصيات سياسية معروفة في العصر وأبرزها: سقراط، بركليس، بارمنيدس، أقريطون أو في الواجب، لاخس، أو في الشجاعة، لوسيوس، أو في الصداقة، جورجياس، أو في الخطابة، مينون، أو في الفضيلة، المأدبة، أو في الحب، فيدون، أو في النفس([6])، السياسة أو في العدل، قريطياس، برمنيدس، قفيلابوس، فدرس، السياسي، أقريطون، يوتيفرون أو في التقوى، خرميدس، هيبياس، وبروتوغاروس([7]) وتصنف هذه المحاورات إلى:محاورات الشباب، ومحاورات الكهولة، ثم محاورات الشيخوخة. وقد ذكر أنه ألف 35 محاورة من أبرزها: السوفسطائي، فينون، الجمهورية، النواميس، وأهمها إطلاقاً محاورتا الجمهورية والنواميس، وهما أكثر كتبه نضجاً وتألقا.
3- المسألة الوجودية عند أفلاطون
تتحدد المسألة الوجودية بطبيعة العلاقة بين الوعي والمادة أو بين الذات والعالم كما تتعلق بمسألة أسبقية الوجود: أيهما وجد أولاً المادة أم الروح؟ الوعي أم المادة؟
يميز أفلاطون في المستوى الوجودي بين عالمين: عالم المثل والعالم المادي، ويرى بأولوية الأول على الثاني، أي بأولوية عالم المثل على العالم المادي.
فعالم المثل بالنسبة لأفلاطون هو الوجود السرمدي الخالد الذي لا يعتريه تغير أو تبديل، هو الوجود المعنوي والروحي، و هو الوجود الأول. ويصور لنا أن عالم المثل هو عالم الحقيقة والخلود، وهو هرم من المثل يتربع على رأسها مثال الخير أرفع المثل الذي يتربع على عرش عالم الماهيات
أما العالم المادي: فهو عالمنا الذي يتصف بالتغير والتبدل والفناء، وهو انعكاس ظلالي شبحي للعالم الأول. الأشياء المحسوسة -كما يرى أفلاطون- هي في تغير أبدي دائم تنشأ وتفسد وتتلاشى، ولا تحتوي على أي شيء يقيني ثابت، والمثل هي علة المحسوسات، والمحسوسات حادثة توجد وتتلاشى، أما العالم الأول فهو عالم يتصف بالأزلية والخلود والأصل. فالمثل ليست من المحسوسات بل هي ماهيات منفصلة عن الأشياء. وبعبارة أخرى المثل هي صور في عقل الإنسان بل هي أفكار في عقل الله، لأنها ماهيات مفارقة للمادة.
ويحدد أفلاطون العلاقة بين العالمين بالعلاقة الانعكاسية، إذ يرى بأن العالم المادي انعكاس لعالم المثل أو عالم المعقولات، وكل شيء في عالم الحس يقابله ما يماثله في عالم المثل. فالمثال هو الشيء بعينه بذاته، أما الشيء فهو صورة وانعكاس للمثال. فهناك إذن وجود مزيف هو العادة، ووجود حقيقي هو المثال. ويبرهن على ذلك بفكرة أن الشيء الذي له بداية له نهاية. وعلى خلاف ذلك فإن الشيء الذي ليس له نهاية ليس له بداية. وما هو ذو نهاية محدث، أما الذي ما لانهاية له فهو قديم.
فالمادة زائلة متغيرة لا بد لها من علة لوجودها، وعلة وجودها هو المثال: التفاحة المزيفة لها أصل ومبدأ هو التفاح الحقيقي، العلاقة بين الجسم وظله، نسيب الظل هو الجسم. الروح في الإنسان تنتمي إلى عالم المثل، والجسد إلى عالم المادة. إن الماهية الخفية للأشياء تكمن في عالم المثل، وهو عالم غير محسوس ويدرك بالعقل فقط.
مقارنة بين عالم المثل وعالم المادة عند أفلاطون |
|
عالم المثل |
العالم المادي |
عالم غيبي لا تدركه حواس الإنسان |
عالم يقبل الإدراك الحسي |
يدرك بالعقل وحده |
يدرك بالحواس والعقل |
عالم لا يقبل الفساد والتغير |
دائم التغير والفساد |
كائنات بسيطة لا تقبل الانقسام والتجزئة |
عالم مركب قابل للانحلال والتفكك |
عالم ثابت أزلي أبدي ليس له بداية أو نهاية |
عالم محدث زائل له بداية وله نهاية |
طبيعته فكر خالص وعقل محض |
طبيعته حسية له أشكال وألوان |
4 - أسطورة الكهف
يحاول أفلاطون عبر أسطورة الكهف أن يحدد طبيعة العلاقة بين عالم المثل وعالم المادة، ويحاول أيضاً أن يوضح نظرية المعرفة. يتحدث أفلاطون عن كهف مظلم فيه أسارى مصفدون بأغلالهم ينظرون إلى غور الكهف، حيث ترتسم ظلال وأشباح تلقيها نار مشبوبة، تنيرها تماثيل صغيرة، يحملها أناس لا يظهرون يمرون خلسة أمام باب الكهف.
وتبين القراءة الرمزية لهذه القصة الخيالية ما يلي:
1- هناك عالمان: الكهف المظلم وهو العالم المادي الذي نعيش فيه، أما العالم الخارجي فهو عالم المثل والحقائق.
2- الأسرى: هم الناس الذين يعيشون في العالم المحسوس.
3- الأغلال: تمثل الرغبات والميول التي تمنع الأسارى من المعرفة والنظر إلى الخلف.
4 - الظلال والأخيلة والأشباح هي الظنون والرؤى والأوهام للنار المشبوبة في الخارج التي هي شمسنا المنيرة.
حين يتاح لأحد الأسرى (وهو الفيلسوف) أن يخرج خلسة من الكهف ليرى الشمس، ويرى عجبا؛ لأنه للمرة الأولى يرى عالم الحقيقة، وتبهر عيناه في البداية، ثم يعتاد النظر إلى الحقيقة المشرقة، ثم يعود ليخبر من كان في الكهف ويساعدهم على الحرية من أجل الحقيقة. ولكن أفراد الكهف يستسلمون لما هم فيه ويرفضون الخروج من أجل الحقيقة. وهنا يريد أن يقول لنا إن الناس محكومون بأهوائهم وعاداتهم ورغباتهم التي تنسيهم جمال الحقيقة والنظر في ضوء الشمس.
5- نظرية المعرفة عند أفلاطون
نعني بنظرية المعرفة العلاقة بين الذات والموضوع، بين الوجود الواعي والوجود المادي. ويمكن تعريفها عبر صيغ التساؤل عن مصادر المعرفة وأدواتها وكيفياتها. ونظرية المعرفة عنده تتصل بالمسألة الوجودية الأنطولوجية، التي تعطي عالم المثل أولوية الوجود، فهو يؤمن بوجودين، ويعطي للعقل مبدأ الأولوية في الوجود. وإذا كان العالم المادي متغيراً متبدلاً فاسداً تعتريه الصيرورة، فإن معرفته معرفة متبدلة ومتغيرة وفاسدة. وهناك معرفتان:
1- معرفة حسية: وتعبر عن العالم المحسوس، والوصول إليها يكون عن طريق الحواس.
2- معرفة عقلية: وتعبر عن العالم المعقول، والوصول إليها يكون عن طريق العقل والتأمل العقلي.
يبدأ ديالكتيك المعرفة من عند أفلاطون من منهج سقراط في التوليد والتهكم، وهو الأسلوب الذي استخدمه في الهجوم على السوفسطائيين، وديالكتيك المعرفة، عند أفلاطون يأخذ صورتين فهناك: الديالكتيك الصاعد وهناك الديالكتيك النازل. فالجدل الصاعد هو المنهج الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المجرد دون أن يستخدم شيئاً حسياً بل بالانتقال من فكرة إلى أخرى. أما الجدل النازل فهو منهجية الفكر في الانتقال من المعقول إلى المحسوس. ويشير إلى أربعة مستويات لمنطق المعرفة هي:
1- الإحساس: وهو إدراك عوارض الأجسام.
2- الظن: وهو الحكم على المحسوسات بما هي.
3- الاستدلال: وهو علم الماهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات.
4- التعقل: وهو إدراك الماهيات المجردة.
6- الآراء الاجتماعية عند أفلاطون
يودع أفلاطون أفكاره التربوية في كتابه الجمهورية. وفي هذا الكتاب يقدم أفلاطون تصوراً لمجتمع مثالي تحكمه العدالة والمساواة بين الناس وتسوده الفضيلة. يصف جان جاك روسو كتاب الجمهورية لأفلاطون بأنه أجمل رسالة وضعت عن التربية، ويقول "إذا أردتم أن تعرفوا ما التربية العامة عليكم أن تقرؤوا جمهورية أفلاطون، فهي ليست كتباً في السياسة على الإطلاق، بل هي أجمل رسالة وضعت في التربية"([8]).
في هذه المدينة يمنع على الفلاسفة والحكام التملك؛ لأن الملكية هي أصل الشرور والآثام. وعلى طبقة الحكام والحراس الانصراف إلى العمل الفكري والذهني. وفي هذه المدينة أيضاً لا يحق للحكام من الفلاسفة الزواج بالطريقة التقليدية. فالحكام يتزوجون في طقوس عامة، حيث يعقد لهم على حكيمات النساء. أما الأطفال فيؤخذون لتتم تربيتهم تحت إشراف الدولة، وهؤلاء الأطفال لا ينسبون لآبائهم بل إلى الدولة بشكل عام حيث تقوم مرضعات غير الأمهات بإرضاع هؤلاء الأطفال وتنشئتهم كما يقوم مربون بتربيتهم وفق المعايير التربوية للدولة.
لقد تطلع أفلاطون إلى تكوين مجتمع من الأحرار بكل ما يعنيه مفهوم الإنسان الحر من نبل وسمو وقدرة على التعبير والإبداع، لذلك فإنه وقف ضد مختلف أشكال القسر والتسلط والظلم الذي يقع على الإنسان، ورفض في نظريته التربوية الأساليب التربوية القائمة على القسر والإكراه، فهو يرفض أن تكون التربية طريقاً إلى العبودية، فالتربية يجب أن تكون من أجل بناء الإنسان الحر المتكامل جسداً وروحاً وعقلاً.
يبسط أفلاطون أفكاره الاجتماعية في كتابيه السياسة والجمهورية. ويمكن الإشارة إلى أهم الأفكار التي يطرحها في كتابيه:
1- شيوعية النساء: إذ يحظر أن يكون للحراس (هذه لطبقة الجند والحكام) أسر ويكون الزواج بالقرعة. فالجميع للجميع عبر طقوس واحتفالات دينية يجتمع فيها الحراس من الجنسين، ويكون الزواج بالقرعة تفادياً للحسد والتخاصم. ويعقد زواج رسمي لكنه مؤقت، والغرض منه التناسل لتحقيق حاجة الدولة من السكان. ثم يوضع الأطفال في مكان مشترك يعنى بهم متخصصون، وتأتي الأمهات لإرضاعهن دون أن يعرفن أطفالهن. وعندما يولد للحراس أطفال خارج هذه الطقوس يعدمون، كما يعدم الأطفال ناقصو التركيب.
2- تحسين النسل وتحديده: وهنا يستفيد أفلاطون من مسألة تحسين النسل عند الماشية. لا يكفي أن تعلم الطفل تعلماً حسناً دائما، بل يجب توليده توليداً حسناً عن أبوين قويين صحيحين، وبطلب من كل عريس وعروس تقديم شهادة تبين صحتهما، والرجال ينجبون بعد سن الثلاثين ودون سن الخمسين. ويجب إعدام الأطفال المشوهين، ويباح للرجل الاتصال الجنسي بعد المرحلة المحددة للزواج بشرط ألا يؤدي ذلك للإنجاب. لا ينسل رجل أو امرأة ما لم يكونا صحيحي الجسم والنفس.
3- زواج الأقارب: ينهي عن زواج الأقارب لأنه يضعف النسل، وبزواج أفضل النساء مع أفضل الرجال يمكن بناء المدينة. إذ يباح لأشجع شبابنا الاتصال بعدد أكبر من النساء لأن هؤلاء الآباء ينبغي أن ينجبوا عدداً أكبر من الأولاد.
4- المساواة بين الجنسين في التعليم وممارسة الوظائف والمهن.
7- الطبقة عند أفلاطون
لا تقوم الطبقة عند أفلاطون على معيار الثروة وإنما على مبدأ الاستعدادات والكفاءات العقلية. ويؤكد في رؤيته الطبقية هذه أهمية المساواة بين الرجل والمرأة. ويتحدث عن ثلاث طبقات أساسية:
1- طبقة الحكام الفلاسفة، وهي القوة العاقلة وفضيلتها الحكمة.
2- طبقة الحراس الجند، وتماثل القوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة.
3- طبقة الصناع، ويقابلها القوة الشهوانية وفضيلتها العفة.
وكما أنه يماثل بين الطبقات والقوى الطبيعية في الجسد، فإنه أيضاً يقابل بين هذه الطبقات والمعادن، فطبقة الحكام الفلاسفة تقابل معدن الذهب، والطبقة العسكرية طبقة الجند يقابلها معدن الفضة، أما طبقة الصناع فيقابلها معدن النحاس. والعدالة تكون بتحقيق الانسجام وهيمنة الفلاسفة في المدينة. وهيمنة العقل على الجسد في سائر الأحوال.
8- الطبيعة الإنسانية
أخذ أفلاطون تفسير حقيقة النفس من النظرية الأورفية التي كانت تنص على أن النفوس كانت توجد في مكان مقدس قبل أن تحل في الأجسام. و كانت في مكانها هذا تنعم بالسعادة الأبدية. ثم ارتكبت جريرة ما فعوقبت على ذلك وأهبطت إلى الأرض واتحدت بالجسد. وهذا يعني أن اتحادها مع الجسد يرمز إلى عقاب أنزله الله عليها. وهي - أي الروح - تعود إلى عالم المثل بعد الموت.
ومن هذا المنطلق يرى أفلاطون أن الروح هي نقطة الالتقاء بين عالم المثل وعالم الجسد. وأن النفس جوهر روحي وليس مادياً كما يعتقد الفلاسفة. ومن أجل أن تتحرر النفس من سجنها الأبدي لا بد أن تعمل على تطهير نفسها بالعمل الصالح الذي يختص بالمعرفة. ويرى أن عدد النفوس لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وأن النفس تحل في أكثر من جسد حتى تكفر عن الذنوب التي ارتكبتها.
يجري السلوك عند أفلاطون من ثلاثة منابع: الجسد والعاطفة والعقل، وهو في رؤيته هذه يبدو متأثراً بفكرة العقيدة الإبراهيمية.
1- فالجسد والرغبة والشهوة والجسد والباعث أمر واحد.
2- والعاطفة والروح والطموح والشجاعة أمر واحد.
3- والعقل والمعرفة والفكر والذكاء شيء واحد.
وهناك ثلاث قوى محركة للطاقة الحيوية عند الإنسان وهي:
1- القوى الشهوانية: وتتمثل في الرغبة وفضيلتها العفة.
2- القوى الغضبية: تتمثل في الشجاعة وفضيلتها الشجاعة.
3- النفس العاقلة: تتمثل في الحكمة وفضيلتها المعرفة([9]).
9- النظرية التربوية
يودع أفلاطون كتابه الجمهورية جلّ أفكاره التربوية، ويؤكد على الدور الاصلاحي للتربية كما يؤكد قدرتها على تحويل المجتمع إلى مجتمع عادل فاضل تسوده الحكمة والخير والفضيلة. ومن أجل هذه الغاية يطرح أفلاطون منظومة من الأفكار التربوي المهمة نوجزها بما يلي:
1- عزل الأطفال عن المجتمع: إذ لا يمكن بناء مدينة مثالية بأولاد صغار أفسدهم كبارهم، إذ يجب أن نخرج جميع الأطفال الذين بلغوا السابعة من العمر ونضعهم في معسكرات تشرف عليها الدولة لتربيتهم وتأهيلهم كمواطنين أحرار.
2- ديمقراطية التعليم: لا أحد يعرف من أين تتوهج نار العبقرية. ويجب أن نمنح كل طفل فرص تعليم متساوية، لا أحد يعرف من أين تتوهج نار العبقرية، ويجب أن نبحث عن هذا التوهج العبقري في كل مكان وفي كل نوع وجنس.
3- التربية الاصطفائية: حيث يجب اصطفاء الأفضل والأقوى لمتابعة التعليم والوصول إلى قمة الهرم المعرفي والسياسي: طبقة الحكام الفلاسفة.
4- المساواة بين الجنسين: في التعليم دون تمييز بين المرأة والرجل.
5- تحقيق التوازن التربوي: تربية الجسد والنفس والعقل.
10 - المنهج التربوي لدى أفلاطون:
يرى أفلاطون أن التربية يجب أن تتم وفق منهجية محددة، حيث يتم إعداد الجسد بالرياضة، والقلب بالموسيقى، والعقل بالرياضيات. ويجب تحقيق التكامل بين هذه الجوانب أي بين التربية الروحية والنفسية والعقلية من أجل بناء الإنسان الكامل عقلاً وجسداً وروحا. ومن أجل تحقيق هذه الغاية يقترح نظاماً تربوياً متكاملاً يستند إلى الخطوات التالية:
1- الرياضة: في السنوات العشر الأولى، يجب أن ينصب التعليم على التربية البدنية، لتكوين مواطنين أصحاء شجعان ومعافين. ولم تكن الرياضة من أجل بناء أجساد قوية خشنة فحسب بل كانت من أجل تحقيق الرشاقة والقوة والجمال في الجسد والنفس.
2 - الموسيقى: ولكن مجرد الرياضة البدنية لا تكفي إذ تجعل من الشخص عنيفاً شديد الخشونة، وهو لا يريد مجرد شعب من المصارعين وحملة الأثقال، بل أناساً أقوياء البنية أصحاء العقل والروح والجسد. لذا يؤكد على أهمية صقل الروح الإنسانية وتهذيبها بالفن والموسيقى، فالموسيقى تهذب الروح وتجد طريقها إلى خفايا النفس فتجعلها رشيقة لطيفة، وهي قادرة بطاقتها الكونية على تهدئة المنابع غير الواعية في العقل البشري. ومع الأهمية الكبيرة التي يوليها أفلاطون إلى الموسيقى فإنه يدعو إلى التعقل وعدم الإسراف، لأن الإفراط فيها خطير كالإفراط في الرياضة. وإذا كان الاقتصار على الرياضة يدفع الإنسان إلى التوحش، فإن الاقتصار على الموسيقى يضعف الإنسان ويجعله ضعيفاً رقيقا، لا بد إذا للإنسان من تهذيب الروح بالموسيقى وفي الوقت نفسه صقل الجسد بالرياضة.
3- الرياضيات: كتب أفلاطون على مدخل الأكاديمية عبارته المشهورة: "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا"، وهذه إشارة كبيرة إلى أهمية الرياضيات في النظام التعليمي عند أفلاطون. فإذا كان الجسد ينمى ويصقل ويؤهل بالرياضة، وإذا كانت النفس تصقل بالفن والموسيقى فإن العقل يرتقي ويصل إلى غايته عن طريق الرياضيات. لأن الرياضيات هي رياضة العقل ووسيلته في بلوغ الكمال. وكان أفلاطون متأثراً بنظريات فيثاغورث في الرياضيات حيث كان فيثاغورث يرفع من شأن الرياضيات إلى مرتبة القدسية. وكان يرى أن الكون عدد ونغم ([10]).
11- مراحل التعليم عند أفلاطون
1- في المرحلة الأولى يتم انتزاع الأطفال الذين بلغوا السادسة من العمر ليوضعوا في مدارس عامة تشرف عليها الدولة. ويحصل هؤلاء الأطفال على تعليم عام حتى الثامنة عشرة من العمر. ويبدأ التعليم بالتربية الجسدية، وتقترن هذه التربية بالموسيقى والأناشيد؛ لأن وجود الموسيقى إلى جانب التربية البدنية يخلق حالة من التوازن الإنساني عند الطفل. وفي نهاية هذه المرحلة يخضع الأطفال لامتحان شامل للنواحي النفسية والعقلية والجسدية، ومن يخفق يكن مآله إلى الطبقة العاملة، وهي أدنى طبقات المجتمع.
2- في المرحلة الثانية: من الثامنة عشرة حتى العشرين ينقطع الحراس عن الدرس ويزاولون الرياضة البدنية والتمرينات العسكرية.
3- في المرحلة الثالثة: من العشرين حتى الثلاثين ينصرفون لدراسة الحساب والفلك والموسيقى من أجل الوصول إلى مرتبة الحراس.
4- في المرحلة الرابعة: من الثلاثين حتى الخامسة والثلاثين: في الثلاثين يتم اختيار أهل الكفاية والجدارة الذين تتوفر فيهم محبة الحق وشرف الفلسفة وضعف الشهوة، وهم أقلية بطبيعة الحال. ويقضي هؤلاء الصفوة خمس سنوات أخرى في دراسة الفلسفة.
5- في المرحلة الخامسة: من الخامسة والثلاثين حتى الخمسين: يزج بهم في معترك الحياة السياسية والحربية حتى سن الخمسين، والذين يتميزون يصلون إلى مرتبة الحكام ويدعون الحراس الكاملين، ويتناوبون الحكم كل بدوره. وهذه الدورة تسمى الدورة الكبرى، دورة الحكام، حيث يصل الفرد إلى غاية التربية ومنتهاها إنساناً يتصف بالكمال ويمتلك القدرة على حماية العدالة في المدينة والسهر عليها.
فالهدف التربوي العام عند أفلاطون هو تكوين تناسق بين روح تحس الجمال وتعشق الأدب، وجسم رشيق قوي، وعقل يمور بالعطاء والحكمة والمعرفة.
12- خلاصة :
لا يمكن لأحد من المفكرين أن يتجاهل الطابع الطوباوي والخيالي للنظرية الأفلاطونية في التربية والسياسية. إذ غالباً ماً يوجه النقد الشديد لرؤى أفلاطون التي تتسم بالطابع الأيتوبي الخيالي الذي يحاول فيه أن يصلح مجتمعاً فاسداً عبر التربية وبأدواتها. ولكن يجب علينا أيضاً أن نأخذ بكثير من الأفكار المهمة التي طرحها أفلاطون في مشروعه التربوي والسياسي.
- استطاع أفلاطون أن يربط بعمق وأصالة منهجية بين التربية والحياة الاجتماعية والسياسية، وهو أول من نفذ ببصيرته إلى عمق العلاقة بين التربية والمجتمع، وأول من أدرك منهجياً إمكانية توظيف الفعل التربوي في إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية.
- يعد أفلاطون أول من نادى بديمقراطية التعليم بين المرأة والرجل وبين أفراد الطبقات الاجتماعية من جهة أخرى. لقد نادى بحق المرأة في التعليم وفي قيادة المجتمع على قدم المساواة دون تمييز بينها وبين الرجل. كما نادى بحق كل طالب علم بأن يتعلم وأن يصل إلى الغاية التي ينشدها إن استطاع إلى ذلك سبيلا, فالتربية يمكنها -وفقا لتلك الرؤية- أن تكون أداة للحراك الطبقي. ومصير الإنسان مرهون بقدرته على التعلم والسير في دروب المعرفة.
- استطاع أفلاطون أن يرسم المثل الأعلى للتربية وأن يصقل الغاية الأسمى للعملية التربوية في بناء الإنسان المتكامل جسداً وعقلاً ونفساً، واستطاع أن يحدد جدل العلاقة بين هذه الجوانب، وأن يبرز أهمية الرياضيات والرياضة والموسيقى في إيصال الإنسان إلى جوهر إنسانيته.
- تعد نظريته في مقدمة النظريات النقدية للتربية والمجتمع. وبهذا يكون أفلاطون مؤسساً للنزعة النقدية في الفلسفة والتربية والمجتمع. وقد جعل من النظرية الفلسفية أداة فعالة في النقد الاجتماعي والسياسي. ولم يكن ذلك مألوفاً في عصره أو فيما سبقه([11]).
مراجع المقالة وهوامشها:
[1]- أحمد فؤاد الأهواني، أفلاطون، دار المعارف، القاهرة 1991، ص 7.
[2]- هناك خلاف كبير حول مولده، فبعض المؤرخين يشيرون إلى عام 427 وبعضهم إلى 428 وبعضهم الآخر يرجح 429.
[3]- ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985.ص 19.
[4]- عبد الله عبد الرحمن، تطور الفكر الاجتماعي، دار المعرفة الجامعة، الإسكندرية، 1999، ص 16.
[5]- انظر: أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، 1980.
[6]- انظر: أفلاطون، فيدون (في خلود النفس) ترجمة عزت قرني، دار قباء، القاهرة، 2001.
[7]- انظر: أفلاطون، في السوفسطائيين والتربية، محاورة بروتاغوراس، ترجمة عزت قرني، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 2001.
[8]- جان جاك روسو، إميل، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956، ص34.
[9]- فؤاد بسيوني، من أعلام الفكر التربوي، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، 2000، ص 34.
[10]- فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مطبعة خالد بن الوليد، جامعة دمشق، دمشق، 1982، ص 17.
[11]- محمود عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980. ص 48.