لا يمتلك كافة الأطفال رغبة وفضولا تلقائيا، وبعضهم يظهر إقبالا محدودا من أجل التعلم ، ومع ذلك توجد ثمة طرق قصد تعبئة مجموع التلاميذ .
إن مسألة التحفيز، بل وحتى استعمال هذا المفهوم في الخطاب البيداغوجي، هما معا حديثان نسبيا . صحيح، يمكن لنا أن نجد في كتاب ج.ج.روسوEmile وضعيات تثير تلك الإشكالية،وهكذا يتعلق الأمرب" تمرين طفل لا مبالٍ وتعسٍ على العدو/السباق"، والقائد-المعلم يوزع قطع بسكويت على الأطفال خلال مرورهم في السباق، والذين يتعاطون لذلك النشاط.
إلى غاية اليوم "الذي يضجر من المشاهدة الدائمة لتناول البسكويت أمام عينيه ،والذي يخلق لديه رغبة (التلميذ اللاَّمُبالي)ومنتبها إلى أنه، وأخيرا، يمكن للجري أن يصير جيدا مفيدا لشيء ما ،وملاحظا أن لديه أيضا ساقان،فيبدأ في المحاولة سرّا" وبعد فترة وجيزة ،نفس القائد التربوي المرافق يصبح فاشلا في تدريس الفلك لEmile فلا يتردد في التخلي عنه ويتركه تائها وسط غابةMontmorency لحظة وجبة الغداء،بغاية جعله يكتشف استعمال نقط الإحداثيات :"هيا بنا للغداء،هيا بنا للعشاء،لنجري بسرعة: الفلك جيد لأمر مّا " !
طبعا،ولكي نمتلك مغزى تلك الأمثلة،من المناسب إعادة تسجيلها ضمن مقاربة روسو:استعمال كافة الحِيل الممكنة قصد إثارة الاستعدادات الطبيعية لدى الطفل،وجعله يتعلم ذاتيا وبشكل حرٍّ بفضل وضعية محدّدة قصدًا(عمدا) تفرض إكراها معيَّنا، غير أنه في الحقيقة،فإن روسو،والذين يحيلون عليه يظلون جدّ محدودين ومنعزلين .
بالنسبة للغالبية الكبيرة من"المربين" وحتى بداية القرن العشرين،فإن مسألة تجنيدmobilisation الأطفال والمراهقين حول المعارف لم تكن تطرح،سواء لأنهم يعتبرون بأن الأطفال هم خاضعون لأجل تعلم ما يفرضه عليهم الراشدون، أو لأنهم يتصورون بأن الأطفال يرغبون في التعلم بشكل طبيعي، وأن الفضول ينبثق ويبزغ تلقائيا .
يتعلق، إذن، الأمر بالنسبة للبعض بانتقاء الأكثر مرونة، وبالنسبة للآخرين ينبغي الانتظار حتى تتصاعد الرغبة في التعلم من تلقاء نفسها ،ولأن هذين الموقفين سيتم تفكيكهما /هدمهما الواحد تلو الآخر، فإن التحفيز سيظهر باعتباره سؤالا بيداغوجيا أساسيا، والذي سيكشف،وسيغدو تدريجيا سؤالا محدّدا من أجل بناء مؤسسة مدرسية ديمقراطية .
الطفل" ذو الفضول التلقائي"
منذ بداية القرن العشرين، مهّدJ .Korczak لأول "إعلان لحقوق الطفل". بالنسبة له، الطفل هو في ذات الآن كائن مكتملٌ ولا منتهٍ، ولأنه كذلك ينبغي أن يكون محمياً ،ولكن ،ولأنه أيضا كائن تام ينبغي أن يكون "محترما".
رغبات الأطفال لا يمكن إلغاؤها بمرسوم(قرار)،يجب،إذن، وعلى الأقل، "القيام بالفعل معهfaire avec"أثناء نفس المرحلة ،ومع ذلك، يبرز التحليل النفسي أهمية التجارب الطفولية، والحركات الغريزية التي تهيكل مبكرا الخاصيات النفسانية للطفل، وهي التي لا يمكن لأي أحد نفيها أو اعتبارها غير دالة .
ضمن هذه الشروط، أيّ كان يعتبر الطفل صفحة بيضاء، وعليها ستُسجَّلُ المعارف التي نُملي عليه تحت دعوى الذات الراغبة، والتي وحدها يمكنها الانخراط في تعلم، وتحويل métaboliser معارف كي تصير بمثابة مناسبات نمو، وهذا ما لن تتوقف عن تكراره حركة التربية الجديدة التي عقدت أول مؤتمر لها في Calais سنة 1921 .
الطفل هو ذاتٌ ،ولا أحد يمكنه أن يتعلم بدلا عنه،ومن هنا الحاجة لتوقف البيداغوجي عن القول بأنه لا توجد سوى خطوة واحدة. يَعتبِرA .Neill مؤلف كتاب "الأطفال الأحرارفي Summerhill أنه لا مجال لإكراه طفل وإرغامه، فمثلا إذا رفض أن يتعلم القراءة يجب الانتظار، ولأطول مدة ضرورية حتى يطلب هو ذلك .
هكذا إذن، وبتعارض مع الطفل اللاّمبالي والطيع والخاضع لأوامر الرّاشد سيظهر "الطفل الذي ينبغي احترام رغباته" ولكن ، ألسنا ،هنا إذن، نستبدل وَهْمًاillusion بآخر ؟
يؤاخذ المحلل النفساني B.Bettelheim والذي أمضى عدة أشهر في مدرسة Summerhill،ويعتبر أن A.Neill بإمكانه السماح لنفسه بالتصرف وفق اختياره، لأنه يمتلك كارزيما رائعة: بغاية الحصول على حبه ينتهي الأطفال دائما بالتعلم !ويستعيد Neill بالتالي بالإثارة/الإغواء ما تخلى عنه بالإكراه، تاركا على حافة الطريق اللاّئي أو أولئك الذين لم يحضوا بفرصة اللقاء بشخصية أكثر" استثنائية" ! .
إن هذا التصور، اليوم، حول طفل "طفل له فضول عفوي" لا يزال قادرا على الاستمرارية هنا أو هناك، ولكنه لا يستطيع مقاومة الاختبار.
بالفعل إنه يخلط بين الرغبة في المعرفة والرغبة في التعلم ،وفي الواقع فإن الأطفال يريدون غالبا أن يعرفوا ولكنهم يفضلون –ومن بعيد-أن يعرفوا دون أن يتعلموا، وبشكل مختزل مناسب وأفضل عبر الذهاب بسرعة دون المرور بتردد طويل وبأبحاث صعبة ،ويمنحهم في ذلك، من جانب آخر، كل التقدم التقني صواب ذلك ، مادام الأمر يتعلق ،تدقيقا، بالسماح لنا لمعرفة الفعل دون أن نتعلم .
يحدث هذا الصدّى ضد كل مساس بالاعتقادات الخفية الأولية-الفطرية- التي تسمح لنا،هي،بالمعرفة دون الفهم. هكذا يجد الرغبة في التعلم مستبعدة من خلال تحالف التقليدانية قبل –علمية والعصرنة التكنولوجية ،ولأنها سلكت هذا السبيل المتخلى عنه والخاضع للتفنيد ،فإن التصورات حول "التعلم تحت الطلب" و"التعلم التلقائي" قد افضت بالبيداغوجيا إلى تشييد إشكالية التحفيز .
إننا مدينون لC.Freinet في صياغتها بأقوى طريقة، حينما يفسر، بأنه، وفي خضم عمله، كانت هناك مسألة تأسيسية:" كيف يمكن جعل حصان لا عطش فيه يشرب؟" إلا أن الصيغة لم تظل أقل التباسا: فعلا، حينما يتعلق الأمر بشرب حصان غير عطش، يمكننا أن نكتفي بالانتظار: سينتهي دوما الحصان بالحاجة إلى الماء، ولكن، حينما لا تكون لدى تلميذ أية رغبة وتوق للرياضيات فإنه لا يكفي حرمانه منها كي يطالب بمبرهنة فيتاغورس"
تعبئة/تجنيدٌ أكثر من تحفيز
إن مسألة التحفيز، لأجل ذلك، لا يمكن أن تُختزل في طلب الاستنجاد السحري ب"مصلحة التلميذ": بالطبع، حينما نتحدث عن المصلحة" لا نعرف أبدا إن كان الأمر يتعلق بما يهم التلميذ أو بما هو في مصلحته، وتدقيقا ،فلأن ما يهمه ليس دائما في مصلحته- والعكس بالعكس-يُطرح سؤال التحفيز.
للتقدم حول هذا السؤال، ينبغي، أولا، استبعاد فكرة أن التحفيز يجب أن يستبق النقل .
أن نجعل التحفيز مٌقدَّماً على وضعية تعلم-تعليمية، يعني إرجاع نجاح هذه الأخيرة إلى نوع من المصادفة ذات الصلة بالتواريخ المُفردة، وهو أيضا تخيُّل التلميذ وكأن بإمكانه أن يرغب فيما يجهله، إنه ،إذن، وفي نفس الآن، الإعراض عن الاستناد إلى القوة المُولِّدة لتحريك/تجنيد المعارف، والخضوع لمبدأ يفيد بأن اللاّئي والذين استكشفوا قبلا- أو استشعروا-الرضى والمتعة التي يمكن بلوغها من تعلمٍ به "تحفيزٌ" بقصد الانخراط فيه ولهذا، وبغاية إبعاد، وبشكل نهائي، هذه المحاولة القدريّة، ينبغي في الشأن البيداغوجي تعويض مفهوم "تحفيز" ب" تجنيدmobilisation لأجل التمييز بوضوح أن دور البيداغوجي ليس هو انتظار انبثاق الرغبة- أو حتى البحث عبثا عن تطعيم/إدخال وتحويل معارف جديدة عبر تحفيزات قبلية- بل ، أفضل من ذلك، خلق الشروط التي تسمح لكافة التلاميذ بالتعبئة قصد اكتساب المعارف التي تعتبر ضرورية لنموهم وكذا لنجاحهم الدراسي والمهني والمواطناتي .
أربع طرق بيداغوجية
استكشف البيداغوجيون، لأجل ابتكار تلك الشروط، أربعة مسالك: استعمال المعارف المدرسية خارج المدرسة، ومقاربة المشروع، ثم الوضعيات المشكلة، واللقاء مع إنتاجات وأعمال الثقافة.
- الاستعمال الاجتماعي للمعارف المدرسية فيما وراء وضعية التعلم هي طريق يفضلها بشكل مشروع، وفي درجة أولى، مدرسو المواد التكنولوجية والتعلم المهني: إنها تسمح للمتعلم بالتموضع في موقف لتوظيف مستقبلي لما تعلمه ،وهو ما نسميه "التحفيز التوقعي" ، ثم الرجوع إلى القسم ،مجنّدا، من أجل تطوير ذلك الاستعمال، وبالتالي، اكتساب مزيد من الكفايات الاجتماعية والاستقلالية .إلا أنه توجد حدود بمجرد أن نغادر ونبتعد عن سجلِّ معارف-الفعل ونلامس المعارف التي تُقدّرها المدرسة ضرورية، في حين أن المجتمع يعتبرها وكأنها "غير ذات فائدة".
- مقاربة المشروع، بعد أن وعدت بها التربية الجديدة، وبشكل واسع من خلال إنجاز مجلة مدرسية أو بستنة، تعمل على تعبئة التلاميذ حول تنفيذ إنجاز هو مصدر تثمين، ويسمح، وخلال المرور به، باكتساب يصير معناه مدركا. غير أن تلك المقاربة تظل مهددة ب"الانحراف الإنتاجي"، فنجاح المهمة الجماعية يبقى، بالفعل، خاضعا لخطر تقسيم التلاميذ إلى مبدعين مصممين، ومخططين، ومنفذين وعاطلين، وهؤلاء، بحكم ابتعادهم منهجيا عن أي تعلم بدعوى اللاّكفاءة،هم من يجب، على العكس من ذلك، السماح لهم وتمكينهم من تحقيق التجاوز.
- وضعيات مشكلة، ويتم، تدقيقا، تصورها من أجل تجنب هذا الحاجز: كل واحد يجب أن يصادف، ويتجاوز عوائقا-تركيب عناصر، البحث عبر تمثل أو صيغة/ معادلة ملائمة، التحقق من حل تقني وصلاحيته- والتي (العوائق)هي مناسبات للاكتساب . يوضع العائق في قلب العُدّة، ويتم تعديله حتى يكون في نفس الآن صعبا وقابلا للتجاوز بفضل مجموعة من الإكراهات والموارد المُهيّأة بعناية . هكذا تتفادى الوضعيات المشكلة التبئير/والتركيز المفرط حول المهمة في ذاتها، وتسمح بتوجيه أفضل نوح نحو أهداف التعلم، ولكن على الرغم من الجهود المبذولة حتى تكون الوضعيات المشكلة ألغازا غامضة ومثيرة للفعل فإنها قد تميل أحيانا نحو نوع من الشكلانية.
- اللقاء بإنتاج وعمل ثقافي يمكنه أن يظهر باعتباره الطريقة الأكثر صعوبة لإثارة الرغبة في التعلم، وعلى الرغم من ذلك، فإن الثقافة -قبل أن تُجزّأ إلى عناصر في المقرر الدراسي- هي خلق نماذج –فنية أو علمية- والتي تجيب على أسئلة أساسية تطرحها الإنسانية .
الأعمال الفنية تجيب، بالتالي، على انشغالاتنا الأكثر تأسيسا: ماهي مكانتنا ضمن هذا الكون ؟إلى أي حدّ يمتد اللاّنهائي؟ هل سنكون يوما مّا تحت هيمنة الآلات ؟ كيف يمكن أن نكون محبوبين دون أن يبتلعنا ذاك العملاق الأسطوري ogre ؟ أسئلة كثيرة تعطي المعنى لإبداعات طاليس وأرخميدس وأفلاطون وجاليليو ومركاتور ودافنشي وشارل بيرو ونيوتون...،وهكذا تربط ،بتواضع، الثقافة بين ما هو حميمي لدى كل واحد مع ما هو كوني، لأن المعلمين يمنحون لتلاميذهم أعمالا فنية بفضلها يشعرون بأنهم أقل وحدةً، ويستطيعون بواسطتها الرؤية بوضوح أكثر.
إنها تَهبُ لذكاء أولئك القادمين نحو العالم متعة استثنائية لفهم العالم، وسنكون غير صائبين حين نمنع عن أنفسنا سلطتها الجاذبة الرائعة .
صحيح، لا يتأتى اللقاء بالأعمال الثقافية في كل لحظة وآن، مع ذلك فإنه في خضم تجنيد الذات، ليس هناك فورية آلية .
لأجل هذا، فإن التحفيز ينبغي أن يظل سؤالا مفتوحا .
إن مدرسة مّا، أو مجتمعا، يتحكّم (عن بعد) في التحفيز بمنطق اليقين ستكون أقرب إلى حالة "الأفضل في العالم" منه إلى المدينة الفاضلة للبيداغوجيين ، فبالنسبة لهؤلاء، بالفعل، يجب،ودون توقف، مضاعفة، الفرص، وعدم الإذعان والركون إلى الفشل والإقصاء، والتأكيد دون تعب على لذة التعلم والفهم ،ولكن، لا ينبغي مطلقا معاملة أي كان ك"موضوع" ضمن "آلية عارفة" حيث تختفي نهائيا أقل رغبة واقل حرية .
مؤكد أن البيدغوجيا ليست علما ، من حسن الحظ .
F.Meirieu ,"peut-on susciter le désir d’apprendre ?" SciencesHumaines,N.268,2015