التعريف بالكاتب:
بيونغ تشول هانغ من مواليد 1959، فيلسوف ألماني مولود في كوريا الجنوبية، منظر ثقافي وأستاذ جامعي في جامعة برلين للآداب. تظهر أعماله تأثرا كبيرا بتراث مدرسة فرانكفورت. من أهمها : " طوبولوجيا العنف " و " ماهية السلطة " و"مجتمع الشفافية.".التعريف بالكتاب:
يعد كتاب " مجتمع الشفافية " من أهم الكتب التي ألفها بيونغ تشول هان ، وهو كتاب صادر سنة 2012 وقد ترجم إلى اللغة العربية من طرف الأستاذ بدر الدين مصطفى أستاذ الفلسفة المعاصرة والجماليات في كلية الآداب بالقهارة، وراجعه الأستاذ جواد رضواني الباحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة ( المغرب ). وقد نشر بمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث سنة 2019، يقع هذا الكتاب في 104 صفحات ، يتضمن بالإافة للتوطئة والفهرس تسعة محاور معنونة كالآتي :
- مجتمع الإيجابية
- مجتمع العرض
- مجتمع شاهد كي تصدق
- مجتمع البورنوغرافيا
- مجتمع التسارع
- مجتمع الحميمية
- مجتمع المعلوماتية
- مجتمع اللا- تحجب
- مجتمع التحكم
قراءة مفاهيمية لبعض مفاهيم الكتاب:
لكي نفهم محتوى الكتاب الذي نحن بصدد إجراء قراءة فيه، لابد أولًا من تقديم قراءة لبعض المفاهيم المركزية التي يؤسس عليها بيونغ تشول هان موضوعاته في الكتاب، وهي كالتالي:
أولًا: مفهوم الشفافية : وهو مفهوم مركزي ضمن هذا الكتاب حيث يعتبرها بيونغ تشول هان " نظاما نيوليبراليا أصبح مع مرور الوقت مترسخا في وقتنا الراهن وهو يفرض على كل شيء داخله ضغطا لتحويله إلى معلومات¹، فالشفافية ايديولوجيا مثل الايديولوجيا كلها تشترك معها في صفاتها الأساسية كالشمولية والخداع، ومن حيث هي كذلك تشكل خطورة حيث يمكن أن تفضي إلى الإرهاب في حالة وتعميمها².
ثانيا: مفهوم بانوبتيكون: يعد هذا المفهوم مستمدا من الفيلسوف الإنجليزي والمنظر الاجتماعي جيريمي بنتام ويعني به نظام لمراقبة الكل، وهو نوع من السجون قام بتصميمه بنتام عام 1785، وتقوم فكرة التصميم على السماح بمراقبة جميع السجناء دون أن يكون للمسجونين فكرة عن ذلك. لهذا فتشول هان يشبه الوسائط الاجتماعية بنظام المراقبة الرقمية أو البانوبتيكون والذي يؤدي وظيفة التأديب والتوجيه الاجتماعي.
ثالثًا: مفهوم إيجابية ³: هو مفهوم يستخدمه ومقابله السلبية بطريقة مختلفة مرتبطة بمفهوم السلب غي فلسفة هيغل ، وارتباطاتها بإرث مدرسة فرانكفورت، خصوصا التمييز الذي وضعه ماركيوز في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد " بين التفكير الإيجابي والتفكير السلبي. حيث أن النظام الرأسمالي خلق نوعا من التفكير أطلق عليه اسم التفكير الإيجابي كمقابل للتفكير السلبي " الناقد " ، فيكون بالتالي التفكير الايجابي هو تفكير يرى في الوضع الراهن أفضل العوالم وأكملها، وهذا النوع من التفكير يؤسس لعقل بدون ذاكرة وخيال ونقد.
في توطئة الكتاب:
قبل أن نتحدث حول محتوى الكتاب، لابد في البداية من الوقوف عند التوطئة التي وضعها المؤلف، بحكم أنها تعد الإطار العام الذي يقدم فيه تشول هان تصوره لمجتمع الشفافية، حيث ينطلق من خلالها بعرض مجموعة من الأفكار حول مفهوم الشفافية الذي أضحى من المفاهيم المهيمنة في كل مجالات الحياة، وليس فقط داخل عوالم السياسة بل حتى في مجال الاقتصاد، والغاية حسب مروجي هذا النوع من الخطاب هو تحقيق المزيد من الديمقراطية والمزيد من حرية تدفق المعلومات .
دعاة شعار الشفافية يعتبرون أنها تعمل على خلق الثقة، غير أن تكريس الشفافية في نظر " هان " يحول النظام الاجتماعي من الثقة إلى السيطرة، ففي نظره أن مجتمع الشفافية ليس مجتمع ثقة بل مجتمع سيطرة وتحكم. فإن كل شيء شائعا وعاما أو مألوفا فإن السياسة ستصبح بدون جدوى.
مجتمع الشفافية هذا معناه، أن الإنسان سيتحول في ظل نظام التواصل الشفاف إلى كائن نمطي، خاضع لنوع من المطابقة القهرية بينه وبين الآخرين، سيقضي مجتمع الشفافية - القاىم على الاتصالات والشبكات الشاملة – على الآخرية وعلى الاختلاف كهوية مميزة للذوات.
إن الشفافية نظام نيوليبرالي متجذر في وقتنا الحالي وهو يفرض علينا قهرا من أجل تحويلنا إلى معلومات وكائنات رقمية. فهذه الشفافية تسعى للقضاء علىمفاهيم السرية والانعزال والآخرية لأنها لا تخدم التواصل وبالتالي يجب تفكيكها. إن الغرض هو تحويل الإنسان مثل الزجاج، شفافا . وهذا مكمن القهر في الشفافية؛ إذ أن الحرية والانفتاح التواصلي الذي تنادي بهما هما في نفس الآن أداة للسيطرة والمراقبة.
إن تحقيق التحكم ضمن مجتمع الشفافية رهين بانخراط المواطنين في تحقيق التواصل، وبالضبط حينما يجد المواطن نفسه في الحاجة إلى التخلي عن خصوصيته والانفتاح على الآخرين، ووضع نفسه على طاولة العرض دون خجل او خوف .
المحور الأول مجتمع الإيجابية :
لقد جاء المحور الأول لكتاب بيونغ تشول هان بعنوان " مجتمع الإيجابية " ليضع مفهوم الشفافية تحت المجهر، هذه الكلمة التي أصبحت لها هيمنة كبرى على الخطاب العام المعاصر، حيث يتم التوسل بها خصيصا في حقل تداول المعلومات. فالجميع يطالب بالشفافية ويعتبرها قيمة مطلقة. هذا راجع إلى كون المجتمع السلبي بلغة ماركيوز أضحى أداة طيعة في يد المجتمع وقابلا للتفكيك لصالح قيم الإيجابية؛ فمجتمع الشفافية يتجلى بكونه مجتمعا ايجابيا⁴.
كل الأشياء والموضوعات تكون شفافة حينما تتخلص من السلبيات كافة، حينما لا تقاوم لا تقاوم الاندماج داخل تيارات رأس المال وعمليات التواصل وتبادل المعلومات. إن الشفافية لا يمكن حصرها في الأمور المرتبطة بالفساد وحرية تداول المعلومات، بل هي في نظر تشول هان نظاما قهريا يجتاح جميع العمليات الاجتماعية ويخضعها لتحول كبير، إنها مطلب للقضاء على " السلبية " و" الغرابة " و " الاختلاف "، ووجود الشفافاية رهين بالحسم مع فكرة الآخرية والتمايز الاجتماعي لصالح تسريع عمليات التواصل وجعل الجميع منخرطا شفافا.
يعتبر هان أن الشفافية تجعل من الإنسان كائنا طيعا، هشا، مما يحوله لمجرد عنصر وظيفي داخل النظام، إنها تمارس عنفا وهيمنة ضد المجال الخاص. فهي لا تعترف بالفجوات والمسافات الموجودة بين الأفراد، وبالتالي فهي لا تعطي قيمة للتفكير والالهام والتأويل والابداع.
المجتمع الإيجابي المتسم بالشفافية، لا يعطي أهمية للجدل والتأويل، فالجدل يستند على السلب، وهكذا وفقا لهيغل يغذو السلب جزءا من الروح ويعمل على الحفاظ عليها، فهو يوفر الغذاء الضروري للعقل⁵. في المقابل، كلما كانت المظاهر متعلقة بما هو إيجابي فإنها تفتقد للعقل، فنظام الشفافية يعمل على إقصاء السلبية ويفسح المجال للنظام الايجابي وجموحه.
إن هذا المجتمع المدعو بالايجابي يفقد الشخص القدرة على التعامل مع الألم والمعاناة، ويعمل على إعادة تنظيم للنفس الإنسانية في الحب كما في الألم، كل المشاعر تخضع للتدجين ويتم موضعتها باعتبارها شكلا من أشكال الراحة والاستهلاك.
تعمل الشفافية القهرية على استقرار النظام الحالي بشكل كبير، إنها إيجابية أو بمعنى ما محافظة؛ فهي لا تحمل أي سلبية تشكك في النظام السياسي أو الاقتصادي السائد، إنها تؤيد ما هو موجود بالفعل ولا ترى خارج النظام.
يمكن تلخيص التوافق العام لمجتمع الإيجابية في الضغط على أعجبني/ like/j’aime. ومن المعلوم أن الفيس بوك قط رفض باستمرار إتاحة إمكانية التعبير عن لم يعجبني ، فالمجتمع الايجابي – ووسائط الاتصال أهم ممثله- يتجنب السلبية في جميع أشكالها، السلبية تجعل التواصل في مأزق، تضعف التواصل ، وبالتالي لا يمكن استغلالها اقتصاديا.
يعتبر هان أن الشفافية لا تتطابق مع الحقيقة، فالحقيقة قوة سلبية بقدر ما تقدم نفسها وتثبت صدقها وتنفي الأشياء الأخرى التي تتعارض معها. إن المزيد من المعلومات وتراكمها لا يساهم في إنتاج الحقيقة ، وهو شاهد على أننا نعيش في عالم يفتقر للحقيقة كما يفتقرللوجود⁶.
المحور الثاني مجتمع العرض :
تحت عنوان " مجتمع العرض " يفتتح بيونغ تشول هان مفهوما آخر من المفاهيم من المفاهيم التي طالها نقده للمجتمع المعاصر، وفي هذا المحور الثاني من الكتاب، ويهدف " هان " إلى تقديم نقد للأشياء المعروضة، للأشياء وقد حولها مجتمع الإيجابية إلى سلع لتكتسب صفة الوجود. فالشيء أيا كان لا يتضمن قيمته إلا إذا تم عرضه.
يستشهد هان بتصور والتر بنيامين الذي يرى أن قيمة العرض تبدأ في الحلول محل التقديس على طول الخط في الفوتوغرافيا. منذ زمن بعيد اختفى الملمح الإنساني من التصوير الفوتوغرافي واختفت معه القيمة المقدسة التي كان يحتفظ بها. فعصر الفيس بوك والفوتوشوب يؤكد أن الوجه البشري أصبح مساويا لقيمة العرض، فالوجه مجرد عرض على الشاشة منزوع من هالته حسب بودريار⁷.
إن التصوير الرقمي يمحو السلبية بأكملها، حيث لا يتطلب أي غرفة مظلمة، ولا يتعرض لعملية التعريض الضوئي، إنه عملية إيجابية خالصة، حيث يتم تسوية كل شيء: الشيخوخة والموت. التصوير الرقمي فوتوغرافيا شفافة يتحقق أساسا من خلال العرض، فيقدم زمنا مختلفا من قبل الحاضر الذي يفتقر للسلبية.
في مجتمع العرض، يغدو كل موضوع هو أيضا موضوعا لإعلانه الخاص⁸، كل شيء يتم قياس قيمته من خلال عرضه. وبهذا فمجتمع العرض مجتمع بورنوغرافي كل شيء يتم إخراجه وإظهاره، تجريده من ملابسه، كشفه وتعريته، ووضعه للعرض. وكل إفراط في العرض يحول الشيء إلى سلعة.
إن النظام الرأسمالي حول كل شيء إلى سلعة وأخضعها لقانون العرض القهري، فمن يولد قيمة الأشياء غير عرضها ؟ النظام الرأسمالي هذا يتخلى عن الطبيعة المتأصلة في الأشياء بأكملها، إنها تختفي عبر العرض المفرط، تتلاشى حينما تكون مرئية بصورة مفرطة على حد تعبير بودريار.
البورنوغرافيا لا تدمر الإيروس (اللذة) فحسب؛ ولكنها تقضي على الجنس أيضا. لأن عروض البورنو تقضي على الرغبة الجنسية، فالمتعة على الشاشة في العرض ليست متعة على الإطلاق، فالعرض هو استغلال بشع للجسد وليس احتفاء به، إن العرض يقضي على كل فكرة ليكون الجسد مأوى للرغبة . إن الرؤية المفرطة فاحشة ، إنها تفتقر إلى سلبية ما هو مخفي، ما يمكن الوصول إليه، ما هو سري.
المحور الثالث مجتمع شاهد كي تصدق :
خصص بيونغ تشول هان المحول الثالث من كتابه للحديث عن " مجتمع الإغواء " حيث ينطلق في هذا المحور من فرضية أساسية هي أن مجتمع الشفافية يناصب العداء للمتعة . وفي المقابل سلبية السر، والاحتجاب، والإخفاء، تعمل على إثارة الرغبة ومضاعفة المتعة، وأن هذا هو ما يجعل الاغواء يستعمل الأقنعة والإيحاء والمظاهر. في حين أن الشفافية القهرية تقضي على مجال اللعب الخاص بالمتعة والرغبة.
فاللعب عن طريق المراوغة والغموض والأغاز يزيد من التوتر الجنسي، أما الشفافية أو الصراحة الكاملة هما نهاية للإيروس، أي للبورنوغرافيا، ولا عجب أن يكون مجتمعنا المعاصر مجتمعا بورنوغرافيا، فالدعوات التي يطلقها مجتمع الشفافية هذا من قبيل ما بعد الخصوصية، والاي تطلب كشفا متبادلا ومتحررا من القيود ترسخ آثارها السلبية على الرغبة والمتعة.
إن الشفافية تنزع الاغراء عن الاشياء وتمنع الخيال من العمل وفق امكاناته، فإذا كان الغموض والتخفي يؤجج الرغبة، فإن استهلاك المتعة في وقتها الحقيقي يقضي عليها.
المحور الرابع مجتمع البورنوغرافيا :
ينطلق تشول هان في المحور الرابع من قول والتر بنيامين : وبما أن الجمال الخارجي المعلن لا شيء فيه يمكن أن يكون جوهريا، فإن الأساس الإلهي للجمال يكمن في كونه جمالا سريا.
لهذا فنحن لا يمكننا إدراك الجمال المطلق، لكونه مرتبط، على نحو أصيل بالغطاء والتخفي، لأن ما هو متحجب يبقى متطابقا مع ذاته ما دام ماكثا خلف غطائه، وكشف الغطاء يجعله يختفي. بالمقابل فالجمال العاري لا يحتفظ ببقائه، أو كما يقول جورجيو أغامبين : في عريه يتجرد من دوام بقائه، أما في العري غير الكامل للإنسان فيوجد جمال يتجاوز كل ضروب الجمال، إنه جمال سام ، إنه جمال الخالق.
إن العري المبتدل لا يثبت شيئا غير البورنوغرافيا، فالتعري يشير إلى فقدان النعمة مثل آدم وحواء قبل السقوط ، فهما لم يكونا عاريين بل تلبسا بلباس النعمة التي ستسقط بعد أكلهم للتفاحة.
ينتقد تشول هان الجسد العاري الذي يكون موضوعا للعرض البورنوغرافي، إنه في نظره جسد بائس ومفتقد للسمو، وما يسمو به الجسد يتم انتزاعه منه عن طريق قيمة العرض، هذا العرض الذي يظمر السمو الخلاق. فإذا كان جورجيو أغامبين يدافع عن العري لأنه يحول الفرد شفافا، فإن تشول هان يعتبر أن أغامبين قد فشل في إدراك أن العرض في حد ذاته هو نوع من البورنوغرافيا.
كما أخفق أيضا أغامبين في إدراك الاختلاف الأساسي بين الإثارة الجنسية والبورنوغرافيا. فالعرض المباشر للعري ليس أمرا مثيرا، بل إن التوثر الجنسي من منظور هان ينتج عن التراوح بين الظهور والإخفاء بتعبير رولان بارت.
فالبورنوغرافيا تبدأ حينما يتلاشى السر لصالح العرض والعري، إنها تحول كل شيء إلى الخارج وتعرضه، لا تحتفظ بنوع من الخصوصية أو الخفاء أو الغموض، وهنا نستحضر تشبيه رولان بارت للبورنوغرافيا بالصور الفوتوغرافية المصقولة والشفافة. لهذا ينبني رفض تشول هان للشفافية لأنها لا تحتفظ بشيء مغطى أو مخفي وإنما تسلمه للعرض.
المحور الخامس مجتمع التسارع :
في هذا المحور الموسوم ب" مجتمع التسارع " ينطلق بيونغ تشول هان من تصور جون بول سارتر للفحش، حيث يعتبر هذا الأخير أن الجسم يغدو فاحشا حينما يتم اختزاله في مادته اللحمية...وفائض الحركات الجسدية أمر فاحش أيضا، وينطبق تصور سارتر للفحش أيضا على الجسد الاجتماعي في عملياته وحركاته، فيكون فاحشا عندما يتم تجريده من السرد والمعنى .
إن فرط النشاط، وفرط الإنتاج، وفرط التواصل، كلها صور عن الفحش، فعملية تسريع كل شيء تتجاوز الغرض منها. زيادة التسارع هو نوع من الشفافية، هذه الأخيرة تلغي كل شيء ضد السرعة والتسارع حتى الشعائر والطقوس الدينية إذا كانوا يفلتون من التسارع.
التعاقب المتسارع للأحداث أو المثيرات لا يشكل جمالا ، لأن الشفافية القهرية تقضي على كل بريق، على رائحة الأشياء، رائحة الوقت، الشفافية ليست لها رائحة، التواصل الشفاف فاحش، ورد الفعل اللحظي مع إطلاق سراح المشاعر هو أيضا فاحش.
لا يمكن رد أزمة هذا العصر من منظور هان إلى كونه عصرا متسارعا، بل تكمن الأزمة في أنه عصر يقوم بتشتيت الزمانية وتفكيكها، ويحول الوقت إلى ضجيج بدون وجهة . ولأن التسارع، في حد ذاته، لا يمثل المشكلة الفعلية فإن الحل لا يتمثل في التباطؤ، فهذا الأخير وحده لا ينتج عنه إبداع، وليس ثمة فيه رائحة ولا إيقاع.
المحور السادس مجتمع الحميمية :
يقارن هان مجتمعنا المعاصر بالعالم إبان القرن الثامن عشر، إذ كان المجتمع في تلك الفترة ممسرحا، بمعنى أن المجال العام يشبه خشلة المسرح، والتواصل فيه يتم من خلال أشكال وعلامات طقسية. عالم اليوم لا يوجد به مسرح، حيث يتم تشخيص الأعمال والمشاعر وتفسيرها؛ بل هو سوق لعرض العلاقات الحميمية، وبيعها، واستهلاكها، السوق موقع للعرض، والتمثيل المسرحي اليوم يؤدي عروضا مبورنوغرافية.
تعمل وسائل الإعلام الاجتماعية، ومحركات البحث المخصصة داخل شبكة الأنترنيت، على إنشاء مساحات من القرب المطلق؛ حيث يتم القضاء على المجال الخارجي. هذا المجال الرقمي يوجه المستخدمين للقطاعات التي تغريهم، وبهذا فهي تساعد على تفكيك الوعي والحس النقديين، وتفكيك المجال العام. ويتحول الأنترنيت إلى مجال حميم ومجال " للقرب "، الذي بتم من خلاله محو كل المسافات، وهذا ما نسميه بالشفافية.
إن مجتمع الشفافية يعمل ضد جميع أنواع الأقنعة، فهو يحدد لنفسه مهمة أساسية هي الكشف والتعرية. فالحميمية التي ينادي بها مجتمع الشفافية تعمل على تدمير المسافة التي تكون بين الأفراد، إنها مناهضة لكل نفسي وطقوسي؛ وتنادي فقط بالاعتراف والتعرية وتدمير كل ما هو رمزي.
المحور السابع مجتمع المعلوماتية :
إن مجتمع الشفافية شفاف بلا ضوء، لا يضيء من مصدر ضوئي منير، وإن كانت كذلك فهي بالمقابل إشعاع بلا ضوء. فبدلا من أن تلقي الضوء على الأشياء فهي تستخدم كل شيء لجعله شفافا، إنها تتدخل فيىطبيعة الأشياء.
مجتمع الشفافية هو مجتمع المعلومات. وتظهر المعلومات فيه على نحور عار؛ لأنه يفتقر إلى أي قدر من السلبية، فالمعلومات ترقى لأن تكون لغة عملية للممارسة، لغة التأطير كما يسميها هايدجر.
تشول هان يعتبر أن مجتمع الشفافية لا تنقصه الحقيقة فحسب؛ بل إنه يفتقر أيضا إلى المظهرالرمزي. لا الحقيقة ولا المظهرالرمزي يمكن أن ينسجما مع الشفافية، فالمزيد من كتل المعلومات والاتصالات لا تعمل على إضاءة العالم، والشفافية لا ينتج عنها استبصار أو رؤية، فالمعلومات وفق هان لا تسفر عن حقيقة ما. وفرط المعلومات والتواصل لا يجلبان الضوء داخل الظلمة الحالكة.
المحور الثامن مجتمع اللا-تحجب :
عصرنا الحالي، مثله مثل القرن الثامن عشر. فهذا الأخير عرف بالفعل مسارات العرض والشفافية. ويقول ستاروبنكي في دراسته لاعترافات جون جاك روسو : أن هذه المظاهر ( يقصد الحميمية والعرض ..الخ ) لم تكن موضوعا جديدا عام 1748. ففي المسرح والكنيسة، وفي الروايات والصحف، كانت تستخدم ألفاظ، كالنفاق والزيف والتقنع للتعبير عن الشجب والادانة عبر مجموعة من الطرق.
اعترافات جون جاك روسو تفصح عن نيته في إظهار الوجود الإنساني بوصفه الحقيقة الكاملة للطبيعة، مشروع الخالق الذي لا مثيل له، فروسو يدعو إلى فتح القلب ومشاركة المشاعر والأفكار كافة، وذلك ليشعر الجميع بأنهم يظهرون قلوبهم للآخرين كما هي؛ بهذا يناشد روسو إخوانه من بني البشر للكشف عن قلوبهم بالصدق والإخلاص.
هذا النداء الذي أطلقه روسو من أجل سيادة الشفافية يفصح عن نقلة نوعية، إذ أن القرن الثامن عشر كان مليئا بالأقنعة والمظاهر الخادعة، حيث سادت ثقافة الاستعراض إذ لم يكن هناك اختلاف بين ثياب الشارع والمسرح، وشاع ارتداء الأقنعة.
يتبين أن مجتمع القرن الثامن عشر، جعل الجسد موقعا للتمثيل المسرحي واحتفالا به، كان الجسد أشبه بدمية بلا روح، يتم تلبيسها وتزيينها واستثمارها بعلامات ومعان. روسو في تقديمه لخطاب ااقلب والحقيقة والحميمية، كان ينتقد المسرح بوصفه موقعا للتقنع والادعاء والاغواء ويفتقر للشفافية.
يجوز لنا أن نعتبر نداء روسو تشريعا لنوع من العنف، عنف مجتمع الشفافية الذي يسعى إلى جلب كل شيء للضوء وقهر الظلام، إنه نوع من القهر الذي يقضي على كل خصوصية وكل تحجب. لهذا نجد روسو كان يفضل المدن الصغيرة لأن الأفراد يكونون دائما تحت مراقبة الجمهور دائما، حيث يولدون رقابة متبادلة حول بعضهم البعض. وعليه فمجتمع الشفافية الذي نادى به روسو أيضا هو مجتمع للسيطرة الكاملة والمراقبة.
وهكذا في المجتمع المعاصر تخترق رياح الاتصالات الرقمية كل شيء لتجعله مرئيا، تهب عليه تلك الرياح من مختلف اتجاهات مجتمع الشفافية. ومع ذلك فالشبكة الرقمية بوصفها وسيطا للشفافية لا تخضع لأي حتمية أخلاقية، الشفافية الرقمية ليست تصويرا للقلب لكنها بورنوغرافيا⁹.
المحور التاسع مجتمع التحكم :
يعتبر هان أننا مع الشبكات الرقمية وتطورها، نكون إزاء بداية نظام منظوري للمراقبة الكاملة، نظام جديد على نحو تام؛ نظام مراقبة رقمية قادم من القرن الواحد والعشرين. فإذا كان سجن جريمي بنتام ظاهرة من ظواهر المجتمع التأذيبي واقترح من أجل التقويم، من خلال عزل الأشخاص بعضهم عن بعض، دون أن تكون لأي منهم امكانية رؤية الآخر، فإن قاطنو نظام المراقبة الرقمي الجديد يعتقدون أنهم أحرار.
إن مجتمع المراقبة اليوم يمتلك بنية متميزة للمراقبة الشاملة، فعلى النقيض من سجناء سجن بنتام المعزولون، فقاطني شبكة المراقبة اليوم يتواصلون مع بعضهم البعض بشكل مكثف، فالتواصل المكثف هو من يضمن الشفافية ويحققها.
أهمية نظام المراقبة الجديد، تكمن في أن قاطنيه يتعاونون بنشاط من أجل بنائه وحمايته، وذلك من خلال وضع أنفسهم على الشاشة وعرض ذواتهم بشكل مستمر، إنهم يعرضون ذواتهم داخل نظام سوق المراقبة. ويكمل كل واحد منهم الآخر عبر تقديم أنفسهم للعرض البورنوغرافي تحت وطأة نظام المراقبة. ويتحقق الكمال لهذا النظام حينما يقدم الأفراد أنفسهم طواعية للعرض لا عبر الالزام الخارجي، ولكن عبر الحاجة الملحة ذاتيا.
إن مثل هذه المراقبة الشاملة تهوي بالمجتمع الشفاف ليغذو مجتمعا لا إنسانيا يسيطر عليه الجميع؛ الجميع يسيطر على الجميع. فالشفافية تشترط إزالة كل عائق أمام المعرفة. وبالتالي حيثما تسود الشفافية لا يوجد ثمة ثقة، وعوض القول أن الشفافية تفضي إلى خلق الثقة يتوجب عليه القول أن الشفافية تفضي إلى تفكيك الثقة، وكلما غابت الثقة كلما زاد الصوت علوا مطالبا بالشفافية. فالمجتمع القائم على الثقة لن يبدي الحاحا بتدخل الشفافية.
الشفافية القهرية هي مرادف للاستغلال، ومن يجعل من نفسه ميدانا شفافا هو يستسلم يطريقة أوتوماتيكية للاستغلال البشع باسم الشفافية. فالعميل الشفاف هو السجين الجديد في الواقع، المسجون المقيد داخل سجن المراقبة الرقمي. حتى المستهلك يسلم نفسه لنظام المراقبة الرقمي الذي يوجه احتياجاته ويفي بها، بحيث تغدو حرية المستهلك وهما فرضه استئناسه داخل نظام المراقبة.
إن العالم بأكمله، أضحى اليوم في قبضة المراقبة، لم يعد هناك خارج، فمحركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي التي تقدم نفسها بوصفها مساحات مفتوحة للحرية هم جزء من هذا النظام. فالافراد إذن يستسلمون طواعية لنظام المراقبة ويتعاونون عن قصد عبر تعرية أنفسهم وعرضها، فالسجين ضمن نظام المراقبة الرقمي هو الجاني والضحية في الوقت نفسه.
وعليه ليس هناك حرية، بل إن الحرية هي شكل من أشكال السيطرة والهيمنة.
الإحالات :
- بيونغ تشول هان، مجتمع الشفافية،ترجمة بدر الدين مصطفى،مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2019، ص 7
- نفس المصدر ص 10
- نفس المصدر ص 13-14
- نفس المصدر ص 13
- نفس المصدر ص 21
- نفس المصدر ص 27
- نفس المصدر ص 31
- نغس المصدر ص 33
- نفس المصدر ص 90