في عصر سيطرة التقنية، التي تتجلى إحدى مظاهرها في الحضور المكثف للأشياء الإلكترونية في حياتنا اليومية، وفي الميل إلى التعامل التدبيري، والوظيفي المحض مع الوجود، كما تتجلى في انشغالات علماء الفلك اليوم بإمكانية الحياة في فضاء الكون الواسع وربما بكيفية لا تشبه حياتنا على كوكب الأرض؛ في هذا العصر أضحى الالتباس واضحا في تقدير المسافة الممكنة بين الواقعي والمتخيل إلى درجة بات ممكنا اليوم الحديث عن متخيل واقعي أو عن ميتولوجيا الواقع.
في ظل هذا العصر وقوته التقنية الجارفة التي تتجلى في لغة الحساب الرياضي وفي النزعة نحو التحكم عن بعد في الموجود، كيف يمكن الحديث عن منزلة للخيال؟ وبأي معنى لا زال ممكنا اعتبار الخيال مصدرا للتوهم؟ ومتى كانت الحياة تستقيم بدون وهم؟ الحقيقة هي أن التوهم واحد البشر والعصور. وبما أن حقيقته هي كذلك، فإن التوهم كالضلال أو الخطأ ليس مسألة منهج بقدرما هو مسألة قدر، قدر الحيوان العاقل ومصيره. نقول ذلك لأنه الكائن الوحيد الذي يقيم داخل العالم. أما الأنعام فهي كائنات حية تشترك معنا في أمور، غير أنها لا تكابد مسألة السكن في العالم ولا مسألة التوهم والضلال أو المجاز. والفاصل بيننا وبينها هو اللغة. لكن اللغة هنا ليس كما هو متداول مفهومها لدى اللسانين أو لدى المشتغلين بعلم الدلالة، وإنما اللغة هنا في بعدها الأنطولوجي، اللغة باعتبارها مقطن الوجود. والعالم بالنسبة للإنسان كالماء بالنسبة للسمك.
بناء على ما تقدم نتساءل بأي معنى يتعين التفكير في مسألة الخيال في ارتباط بالعالم وبالإقامة والسكن والعصر عصر التقنية، العصر الذي أضحى فيه "المجاز الهندسي أعقد وأعمق وأدق من المجاز الشعري أو المجاز العلمي أو المجاز الأسطوري"(*)؟
I
التفكير في الخيال، مثله في ذلك مثل التفكير في الحواس والانفعال أو في الجسد وجنونه، يفرض حوارا ما مع الأفلاطونية، خاصة وأن نموذجها الأول -أفلاطون- قد اهتم بشكل كبير بهذه الأمور في الوقت الذي تحدث فيه عن تأثير المرايا والانعكاس، أو عن الحس المشترك، أو عن الأصل والنسخة، أو عن الحق والظاهر. وكان لذلك ارتباط بحديثه عن أنماط الصور، الصورة الأيقونة والصورة المحرفة وصورة الصور. في إطار هذا الحديث تم التشريع مع أفلاطون لما اعتدنا عليه من تمييز مانوي بين الحقيقي والواهم أو بين الموجود الحق والخيالي.
لقد شكل الخيال، دائما، بالنسبة للفلسفة، منذ نشأتها كميتافيزيقا إلى اليوم أمرا محيرا. وما تميز به في خطابها هو أنه "شيء" يتمنع عن كل تحديد صارم، مثله في ذلك مثل المسائل الجوهرية أو القضايا التي اعتبرت من قبيل العويص في الفلسفة.
ذلك أن الحديث عن الخيال، كان يأتي مرتبطا بالحديث عن الحواس والانفعال والشعر والفن وقضية المحاكاة. وقد صنف الحديث عن هذه الأمور ضمن الحديث عما هو مظنون وواهم. وكان معيار تقييم الأقاويل هو المنطق وشرائطه وموجهاته. وبهذا اعتبر الخيال مصدرا للتوهم مثله في ذلك مثل الأساس الذي قامت عليه "علوم الصور" جميعها.
غير أن مفارقة الفلسفة تكمن في كونها عملت على نبذ الخيال واعتبرته أساسا للتوهم، هذا في الوقت الذي نجدها قد شغلت الرمز ووظفت الأليغوري. وهو المؤشر الذي يدل على أن الخيال ولغته، ظلا يفعلان بشكل متوار في لغة الفلسفة وخطابها.
نعرف أن الفلسفة، على الرغم من حرصها على رصانة العقل وحصافة القول، قد شيدت مدنا قريبة إلى اليوتوبيا منها إلى الواقع الفعلي للبشر، كما تحدثت عن جزر لا يمكن إدراك أشيائها والأحداث التي عرفتها إلا على مستوى ما هو متخيل، كما شغلت الميثي في كلامها من أجل إغناء فقر المفهوم أمام الحقيقة. وكلنا يعرف رمز الكهف ورمز حي بن يقظان أو المدن الفاضلة. هذه في مجملها انزياحات صوب الشعري، إلا أن حضورها ظل يشكل الوجه الخجول للفلسفة. وبالجملة نقول لقد تم نبذ الخيال كما تم نبذ "السوفسطائي" و"علوم الصور"، هذا في الوقت الذي ظلت لغة الخيال والمجاز والرمز تاوية خلف لغة الفلسفة، إذ لا يخلو عمل فلسفي من "كلام الصورة" حين كانت تتحقق نقلة الفكر من الواقعي إلى المتخيل.
وجدير بالإشارة إلى أنه سيكون للتقليد الأفلاطوني مفعول طويل الأمد، ليس بالنسبة لمجال الفلسفة وحسب بل كذلك بالنسبة لما عرف بنظرية الأدب. ونشير هنا فقط إلى ما للصنافة التي وضعها أفلاطون لمراتب الحقيقة من مفعول على "نظرية الأجناس" كما تحددت في العصر الحديث، لذلك وجب مجاوزته.
II
غير أنه بالنسبة لتاريخ الفلسفة يعتبر كانط محطة بارزة في ما يتعلق بالمنزلة التي حظي بها الخيال من طرف عباقرة تاريخ الفلسفة الغربية. وذلك لأن كانط حاول البحث عن إمكانية إقامة الفكر على ذلك "الموقع" الذي تم نبذه من طرف الميتافيزيقا وأعني الخيال.
لقد حاول كانط اتخاذ الخيال أرضا تقيم عليها الذات نشاطها الفكري. وهو بهذه المحاولة، ومن منظور التأويل الهيدجري لتاريخ الفلسفة، قد تجرأ على مجاوزة بعد الفكر المنطقي الذي اتخذته الفلسفة، منذ نشأتها على مقولة الثيوريا، أساسا لقول الحق والحقيقة. وهذه المحاولة الجريئة هي ما جعلت من كانط قمة في تاريخ الميتافيزيقا بشكل عام، ولحظة حاسمة في التفلسف الحديث والمعاصر. واسم كانط معروف بالثورة الكوبرنيكية. وما منح كانط هذه المنزلة هو كونه انشغل "بالشيء" الذي ظلت الميتافيزيقا تتحدث عنه بشكل خجول، بمعنى أنه اهتم بالخيال باعتباره الأساس الذي يجعل مختلف أشكال التمثل ممكنة. وقد كان ذلك في الطبعة الأولى لكتابه نقد العقل الخالص الصادرة سنة 1781.
يعتبر الخيال مع هذه الطبعة قوة مؤسسة للتركيب، ونحن نعرف مع كانط أن فعل التفكير هو في عمقه فعل تركيبي. وبهذا يغدو الخيال ملكة مؤسسة وبشكل قبلي لفعل التركيب بشكل عام. بل إن الخيال هو الشكل التركيبي الخالص بامتياز. ويتحقق مفعول الخيال في مد الفكر بمجموعة من "التخطيطات الأولية المتعالية" التي تمكن من تمثل الصورة الخالصة، كما تشكل أساس الرؤية وكل علاقة ممكنة بأشياء المحيط المشتتة. ومن بين ما تمدنا به ملكة الخيال نذكر البعد الزماني للتفكير. وهكذا، فمع التخطيطات الأولية التي يعتبر الخيال منبعها، يتجلى الزمان كصورة خالصة فاعلة بامتياز بالنسبة لفعل المعرفة عامة. وبهذا، ولأول مرة في تاريخ الفلسفة الغربية، يصبح ما كان يعتبر أساسا للتوهم هو عينه ما يؤسس للأفق الذي تقوم عليه العلاقة بالموجود. ومن تم يصبح ذلك التمييز المانوي الذي كان معتادا بين الواقعي والخيالي لاغيا. وذلك لأنه بدلا من أن يظل الخيال هو المقابل الضدي للواقع، يغدو، مع كانط، هو ما يؤسس الواقعي والموضوعي. وبهذه المحاولة نقول مع هيدجر أن كانط قد عمل على مجاوزة الميتافيزيقا بصفتها فكرا أراد أن يقيم الحقيقي والواقعي والعلمي على أساس الراسيو. وقد اتخذ هذا الفكر من أجل ذلك المنطق معيارا للعلم وموجبا له.
III- الخيال والتمثل:
يقول كانط: "(…) الربط هو المتمثل الوحيد، من بين جميع التمثلات، الذي لا يمكن أن تحققه لنا الأشياء، بل يمكن للذات وحدها أن تقوم به باعتباره من أفعالها التلقائية(…) والربط تمثل لوحدة المتنوع التركيبية".
يرى كانط أن التمثل فعل ذهني يقوم على ملكتين رئيسيتين هما ملكة الحدس وملكة الفهم، وأن كلاهما يقوم على أساس واحد، إنه الرؤية La synopsis التي قد تكون مباشرة، وقد تبدو من خلال وظيفة قدرتنا على الربط والتركيب ورد المشتت إلى وحدة. أو نقول، يقوم التمثل بإبداع صورة منظمة تستحضرها الذات على شكل رؤية ماثلة في الأمام. أو قل التمثل مقطن إنارة الوجود حضورا ينكشف ليضحى مبصرا. ومن تم يتحدد الأفق الذي يمكن، في الآن ذاته، من إبصار الذات لنفسها، ومن استحضار الشيء موضوعا وتوليده في موضوعيته.
يذهب كانط إذن، وتبعا لقراءة هيدغر لعمله النقدي، إلى أن كلا من الحدس والفهم يرتد إلى جذر مشترك يمكن من الرؤية كما يمكن من القدرة على الربط وخلق النظام والتطابق والتركيب، إنه الخيال. وبهذا تصبح المخيلة، باعتبار ماهيتها الزمانية، هي الموقع الذي ينفتح معه الأفق لفعل التمثل قصد توليد الموضوعات. وبناء على ذلك، نقول مع هيدغر، إن الخيال، وليس المنطق هو الذي يمهد لذلك الانفتاح على الموجود من أجل جعله موضوعا يتراءى نورا أمام الذات. ويكون التمهيد لهذا الفعل عن طريق مد الفكر برسوم تخطيطية أولية خالصة des schèmes وبفعل الوحدة الأساسية للحدس الخالص، تلك التي تتجلى في الزمان بوصفه صورة خالصة للحدس الحسي، وحدة تساعد الفكر (Entendement التي تترجم أيضا بلفظ الفهم) على إبداع الصور الذهنية الخالصة. أو تمكن هذه الوحدة من قيام جميع التمثلات وتؤسسها بصفة عامة.
يقول هيدغر: "الخيال السامي هو إذن الأساس المكون لإمكان المعرفة الأنطولوجية وللميتافيزيقا في معناها العام(…) بهذا القول يكون كانط قد أدخل الخيال الخالص كوظيفة ضرورية للروح(…) إن الخيال ملكة أو قدرة تمكن من الحدس الخالص". وهو القول الذي يجعلنا نفهم ما ذهب إليه كانط، من أن الميتافيزيقا امتداد لطبيعة الحيوان العاقل الروحية. وعلى أساس هذا التأويل يبدو أن أهمية الخيال تكمن في القدرة على تشكيل الصور الذهنية وإبداعها بشكل تلقائي قبلي. أو نقول، الخيال قدرة على إنتاج رؤية الوجود، بمعنى موضعته. ويتحقق هذا التشكيل الأولي القبلي للرؤية الكاشفة لأفق الموضعة عبر شكل الزمان الخالص. وهو ما يعنيه كانط بالتشكيل التخطيطي الأولي الذي يتم بكيفية قبلية ليؤسس الرؤية الكاشفة لكل موضوعية.
وهكذا، فإن ماهية الخيال قبلية، وهي ما يؤسس ماهية التمثل، إذ بدون هذا الأساس القبلي الشارط لكل رؤية تكون المعرفة من المحال. ونوضح بنية الذات المتعالية، وأساس فعلها الخيالي في التصميم الوصفي الآتي:
الفكر (=ملكة الفهم) قدرتان أو ملكتان (الفكر/الحدس) تقومان بفعل التمثل. وإذا كان الحدس الحدس مجرد اتصال مباشر بالأشياء فإن الفكر قدرة تمكن من تركيب المشتت وإضفاء صورة القاعدة أو الجذر المشترك الزمان منظمة عليه.الذي يمنح الحدس والفكر القدرة على فعل التمثل. المخيلة أو هما القاعدة التي تمنح إمكانية الرؤية synopsis أو تشكيلا الصور.
وتجدر الإشارة إلى أن كانط يمنح الزمان، الذي من خلاله يتجلى مفعول المخيلة، قيمة متميزة إذا ما قورن بالمدن، إذ يعتبر الشرط القبلي الضروري لإمكان وجود مختلف الحدوس باطنية كانت أو خارجية أو لمختلف التمثلات. ومن خلال هذا التصميم يتبين كيف يتدخل الخيال من خلال ما يشكله من صور خالصة للحدس. والزمان بصفة خاصة هو من بين أهم هذه الصور الفاعلة. وهو بهذا التدخل يمد الفكر برسوم تخطيطية أولية تمكن من مجاوزة ما يبدو مشتتا، وتركيب الوحدة على شكل صورة ذهنية تصبح مرئية لدى الذات داخل "آن" من الآنات الممكنة. وقد يكون هذا الآن ويمضي أو ينتظر في المستقبل. هذا ما يجعل مفهوم الآن متداخلا مع مفهوم الحاضر، ومن تم يغدو الحاضر ديمومة الآن باعتبار حضوره الدائم. هذا الآن يمكن أن يمضي ويفقد خاصية الآنية، وهو الآن الذي يكون منتظرا فيأتي ويحضر كآن حاضر فيخرج، بموجب ذلك، من غيابه كآن منتظر.
بهذا تكون الزمانية، منذ أرسطو إلى كانط محكومة بمفهوم "الآن"، أو هي عبارة عن "آنات"، مرة تمثل الحاضر ومرة تمضي أو يكون أنا منتظرا. وعليه الآن دائما هارب.
نلاحظ إذن كيف أن هذا التدخل يجعل من الخيال السلطة القطبية داخل بنية الذات المتعالية أو داخل بنية التعالي التي ترتبط بما هو قبلي في الذات. كما نلاحظ كيف أنه يمكن من إبداع صورة موضوع ممكن بتلقائية وحرية.
أما ما يمكن من الكشف عن هذه البنية المنظمة للتعالي باعتباره ماهية للذات، وبوصفها البنية التي تقيم داخل الخيال، هو ما يصطلح عليه كانط "أنطولوجيا" أو "النقد". وتبرز معالم البحث عن هذه البنية من خلال البحث في "الحساسية السامية" بوصفها تمكنا من معرفة طبيعة ما يجعل مختلف أشكال التمثلات ممكنة. من هنا فالتمييز الذي كان معتادا بين الواقعي والخيالي يصبح لاغيا، وبدل من أن يكون الخيال هو المقابل الضدي للواقع، أصبح، مع كانط، هو ما يؤسس الأفق الذي تقوم عليه العلاقة بالموجود أو الانفتاح عليه أو هو ما يؤسس الواقع.
غير أنه مع إصدار الطبعة الثانية "لنقده" سنة 1887، ومع إصداره كتابه الشارح لما يعتزم القيام به لمجاوزة الميتافيزيقا في شكلها الدوغمائي، سيتراجع كانط عن محاولته التي رامت تأسيس الفكر أو الذاتية على بعد الخيال. وقد كان التراجع لصالح الراسيو أو للتطور الذي ينظر إلى الفكر بوصفه لوجيا Logie وإلى المعنى باعتباره مسألة ماهوية. وبهذا التراجع، فعوض الخيال، سيصبح المنطق هو الأساس الذي تقوم عليه بنية الذات المقولية، في توليد الموضوعات أو تمثل جميع المعارف الممكنة. وهو المنعطف الذي عاشته الميتافيزيقا في كلام كانط، المنعطف الذي سيجعل التمثل يقوم من جديد على المنطق، وهو الموضوع الذي يمكن أن نعود إليه لاحقا من أجل إكمال الصورة عن الفكر الكانطي .