قد يبدو للوهلة الأولى ان العبور من احد الكتابين الى الاخر امر مستحيل او أنه في غاية الصعوبة، إلا أنه في الاساس نجد أن السؤال الناظم لجسور التلاقي بين المتنين سؤال واحد.
يطرح الكتابان كلاهما سؤال الأصل واحد يطرحه بإعتباره الآل والآخر بإعتباره المآل، ان الكتابان رغم اهتمام كل منهما بسؤال الاصل في منحى معين واتجاه خاص إلا أنهما لم يغفلا الوجه الاخر، كما تكون العملة رمزا يقرأ من جهتين.
ينخرط الاستاذان في سؤال الحداثة ويجعلان من الاصل شيئا نعبر اليه باستمرار، هكذا يعلمنا التأمل في ماء النهر الذي لا يبقى محبوسا داخل آن مر وآن سيأتي، انما تكون هويته دائما مفتوحة على المعبور إليه فلا يطرح بذلك سؤال اللحظة السابقة أو اللاحقة انما "يعي" تمام "الوعي" حرية الاستقطاب واتساعه ورحابته، هذا الانفتاح على كل ممكن نتعلمه من الفائض في الدلالة المؤسسة للمدلول في لا نهائية الدلالة ومحدودية المدلول.
إن الرؤية التي تحاول العبور على الجسر الممدود بين الكتابين تتأسس على فكرة الساحة، ساحة الاغورا صاحبة الوجودين وساحة جامع الفناء صاحبة الدهرين والزمنين، الاغورا التي أسست لفرادة اليونان وجامع الفناء المؤسسة لتداخل الأزمنة والأمزجة. تكون هذه الرؤية اذن ابنة مزاج مراكشي توشيه الريح التي تمر على شرفات الرجال السبعة، التفكير في هذه المسألة وتداخل المعارف؛ التصوف والفلسفة في مزاج يكون ذوقه وهواءه مبني على فكرة الرجالات هو ما حدى بي الى محاولة العبور من متن الى متن وقد وجدت الطريقة سالكة فسلكتها.
نعقب على ما تم من أن الكتابين يلفهما ذاك النوع المحبوب من العتمة، وفي عبارتهما توار للمعنى، يتبين اذ ذاك ان سؤال المصير و الاصل المطروح هو استجابة لمناخ فكري عام وهو سؤال التحديث، فالأستاذ محمد البوغالي قبل الشروع في التفكير حول الباطنية ينبهنا الى آلياته المنهجية ومقارباته المتسلسلة لمسائل موضوعه، يحدث الاستاذ محمد البوغالي على مستوى المنهج الذي تمت به دراسة موضوع الباطنية وعلى مستوى النسق المتكامل الذي جاء به الكتاب في الاساس واضعا هدفا جليا و واضحا تؤسسه خاتمته وهدفه اذ « يشكو موضوع الباطنية اذن من التداخل والخلط بين خطابين ذوي طبيعتين مختلفتين بل متناقضتين، الخطاب العلمي التفسيري التحليلي، والخطاب الأخلاقي الدعائي» اذ تختلف مساعي كل خطاب فالأول كما يذكر الاستاذ يسعى الى فهم الظاهرة وتفسيرها، عكس الثاني الذي يسعى إلى حشد الناس للدفاع عن قضية لا يعونها تمام الوعي، الامر الذي ساهم كما يقول الأستاذ في « تغييب البحث التفسيري في الموضوع » وبعد الفحص والتمحيص في الآليات المنهجية والرؤى المختلفة التي تناولت موضوع الباطنية يضع الاستاذ الهدف الذي يرسم منهجه المتناسق والواعي بخصوصية الموضوع « هدف الكتاب اذن هو تحويل الباطنية من موضوع للتمثل والدراسة المغرضة والمتحاملة او الممجدة التقريضية الى موضوع للمعرفة والفهم » في هذه العبارة تحضر إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية وسؤال الموضوعية، يذهب الاستاذ اذن الى حدود القول بالتجريب الا انه يفضل الوقوف على حدود الفهم وهذا هو الحد الممكن من الموضوعية، ان التحديث على مستوى المنهج الذي تناول به موضوع الباطنية بخصوصيته المعرفية المتميزة هو انخراط في سؤال التحديث على مستوى إشكالية تقويم التراث وفي كل أسئلة النهضة والحداثة، اذا ما اخذنا بأن الاشكال إشكال منهج في الاساس.
نفكر مع الاستاذ محمد البوغالي في المدينة، اذ في اطارها او على هامشها ينشأ اي تفكير سريا كان او معلنا.
من فكرة الساحة نستحضر ساحة جامع الفنا ففي مراكش المدينة تعيش مدن عديدة تسير جنبا إلى جنب، كما للمدينة كغيرها من مثيلاتها سورا يحيط بها، هذا السور هو الذي يرسم حدود المتن وحدود الهامش، يرسم حدود الاختلافات الحاصلة بين كافة المدن التي تعيش في المدينة الواحدة، إن كل شيء قابل ليكون رمزا، ليكون دالا من الواجب البحث له عن دلالة. من العيساوي الى المرأة التي تحني للعابرين، ان الرسم الذي ترسمه المرأة الواشمة بالحناء يكون كلمة من متن لها ضرورتها وقيمتها داخل النسق الرمزي للمدينة، والبوهالي الذي يدخل مسمارا في انفه، والحكواتي والݣناوي، هذا المزاج والامتزاج الذي يمثل النص " الاصلي" بتعبيراته الرمزية داخل المتن او في الهامش فالسور ليس الا سطرا ولا نعرف تماما اي الطرفين مركز وايهما هامش، فالمدينة مدن في مدينة. وفي ظل هذا التمازج يختفي ويمحي الاختلاف هذا المحو هو الذي يتيح لنا القول بأن لا فرق بين اي شيء ان المحو هو النوع الاصيل من الكتابة، كل شيء تمكن قراءته، وكل شيء يمكن قراءته فهو نص، ان الازدواج لا مكان له هنا لا فرق بين الثقافة العليا والثقافة الشعبية اذ يعلمنا المفكر المغربي عبد الاله بلقزيز هذا في قوله« نصوص من التعبير الثقافي لا تقل قيمة عن النصوص المكتوبة في مضمار التعبير عن نوازع الذات ... انها جميعها اشكال مختلفة من الإفصاح عن الذات وعن الوجدان الفردي والجمعي وعلى صفحتها تمكن قراءة المجتمع الذي تعبر عنه»
كما نعيش مشكلة التحديث بهذا الشكل اذ نصطدم مع الكثير من المشكلات الحياتية داخل نفس المدينة الامر الذي يعمق غربة الانسان بشكل خطير، التفكير حول المدينة يضعنا امام مقاربة عبقرية لسؤال التحديث عند الاستاذ محمد البوغالي فالساحة العامة ،الفضاء العام هو الذي يؤسس الشكل المعرفي السائد كما يؤسس للممارسة السياسية على حد سواء.
اننا نستحضر فكرة محو الاختلاف لتمكننا من العبور الى الرؤية التي ترفض ولا تقبل مقولة انه ليس من الممكن ابدع مما كان، والتي تخرج عن اي تأويل دائري للزمن الى تأويل خطي يسمح للإمكانات التي يحبل بها الواقع بالتحقق.
ونفكر مع الاستاذ محمد موهوب في "اسلام البدايات" اي مرحلة الاختيارات المفتوحة* «هذه الاختيارات الجنينة التي تشكل الخريطة السياسية للمجتمع الاسلامي الاول » ونخلص معه الى فكرة في غاية الدقة والتحقيق اي ان تكون المعتزلة عملة ذات وجهين في تاريخ الفكر الاسلامي، فهي التي حملت لواء العقل وكانت اول شكل من اشكال الهيمنة، وبذلك تكون اول من صادر العقل في تاريخ الفكر الاسلامي في نفس الآن، فتبني الإرادة السياسية للآراء الكلامية هي شرعنة لقيامها ، و محنة العقل هذه كانت اعداما للعديد من الإمكانات التي حبل بها العقل الاسلامي ومن اختيارات كبرى.
لا يطرح سؤال الاصل عند الاستاذ بمعنى الوقوف على الماضي ولوك أحداثه بل قراءته على ضوء ما تحقق الى الان من الإمكانات وفتحه على كل ممكن.
ولأن الفكر البشري لا يسير على شكل خطي وانما يسكن فيه السابق اللاحق بشكل شديد التداخل فإن جراثيم الممكن الذي لم يتحقق مازالت ممكنة وتستطيع أن تبين على نفسها من خلال القراءة.
إن الأصل هو ما نعبر اليه وما إليه نصير، يولد من خلال تلقيح الممكنات والامكانات التي ظلت داخل رحم الفكر واضعين بكل وضوح الحد الفاصل بين واقع الشيء وروحه الذي يمكن ان يتحقق في أشكال متعددة، اذ يجب « ان نفرق في الحداثة بين بين جانبين اثنين هما "روح الحداثة" و "واقع الحداثة"» ويضيف طه عبد الرحمن في الهامش مفسرا « يجوز ان تختلف المقابلة بين "روح الحداثة" و "واقع الحداثة" من جهة ان روح الشيء لا وجود لها في استقلال عن تجلياتها، في حين أن الشيء قد يتصور وجوده بمعزل عن تاريخه» الى هذا الحد نواصل تأويلنا لسؤال الاصل ليكون جزءاً هاما من سؤال التحديث والنهضة العربيين.
على سبيل الختم
يدفعنا الاستاذ محمد البوغالي الى التفكير في المدينة، المدينة اللعوب والمتسربلة بأثواب الكثرة والتعدد، كما تتأسس الاسرار على هامش كل نص مكتوب وشفهي، فإن الساحة تكون هي المعلية من شأن المهمش وتشرح المتن وما هو مدون في الهامش أغنى بكثير ذلك انه ما زال يحبل ويصدح بالإمكانات. هذا والاستاذ محمد موهوب يطرح إشكالية الهيمنة التي يفرضها الاصلي ووحدها لفظة " الاصلي" تعمل على تكديس الاحالات والقراءات في ذهننا، لهذا استدعى التأويل التفكير خارج اي اختلاف واي ازدواج.