موجز عام: اعضال الاستطيقا والاطيقا مع دريدا يطرح اسئلة حارقة؛ كيف نكتب والحال إن الكتابة قد ولّى عصرها وما المكتوب إلا إخفاء لما كان منتظرا ؟ كيف نتفكّر الأشكال الرئيسي : أيّة جمالية في التفكيك؟ وما علاقته بالاطيقا؟ ..قد يمثل استشكال الكتابة الفلسفية والاستطيقا في خضم التفكيك، دافعا إلى ضرورة مواجهة أسئلة أخرى من قبيل: هل يمكننا أن نحيا جماليّا؟ وهل مازال باستطاعة الفيلسوف، أن يحوّل الحياة إلى ''ظاهرة استطيقية''؟
استهلال:
حين يقع تناول إعمال دريدا بالتّفكّر، تطفو إلى السطح معضلة كبيرة "كيف نقول ما لا يقال " اذا كان هو نفسه يسلّم بأن "القول محل اتهام "، من حيث هو إخفاء متعمد أو قسري؟ و كيف نتلفظ ماهو مبرمج، من حيث هو محدد الأهداف سلفا ومعدوم الإرادة أصلا ؟. وكذلك تواجهنا مأزقيّة التفكيك الدر يدي كمنهج ''ذرّي''(نووي) مطالب بالإجابة عن محددات ورهانات، هي ذاتها لا تتوافق مع محدداته ورهاناته . فهو ينظر للكتابة مثلا عل أنها أمرا متجاوزا ومنتهيا[1]. كيف نكتب والحال إن الكتابة قد ولّى عصرها وما المكتوب إلا إخفاء لما كان منتظرا أن يقال ؟؟ لذلك تجدنا مطالبون بتفكّر أشكال رئيسي : ما هو التفكيك؟ وما علاقته بالاستطيقا؟ ..قد يمثل استشكال الكتابة الفلسفية والاستطيقا اليوم، دافعا إلى ضرورة مواجهة أسئلة حارقة من قبيل: هل يمكننا أن نحيا جماليّا؟ وهل مازال باستطاعة الفيلسوف، أن يحوّل الحياة إلى ''ظاهرة استطيقية''؟ .
هي أسئلة أفضت الى مقاربة محرجة وضعتنا نقارع معضلات جمّة ، منها ما يتعلّق بكيفية تحرّكنا ونحن ضمن مدوّنة ضخمة ؟. ثمّ هل يحقّ لنا نحن- قرّاء الفلسفة- أن نلج عالم الفيلسوف الخاصّ؟ وكيف تبلورت الاستطيقا/الجماليّة عبر تاريخ التّفكير الفلسفي؟ ثم عبر الكتابة التّفكيكيّة- أيّة جماليّة نصيّة مغايرة؟ و ما ملامح التقاء الاستطيقا بفلسفة الفرق والمغايرة؟ وما الذي يبرّر لنا الحديث عن التقاء استطيقي اطيقي؟ وما استتباعات هكذا التقاء؟ ثمّ كيف نقرأ مقاصد التّفكيك الدرّيدي في ظلّ استطيقا اطيقيّة ؟ وهل يجوز لنا أن نأمل في اطيقا- جماليّة، تتعلّق بأحسن وجود وأفضل واقع معيشيّ، لإنسان العولمة والمروق والإرهاب؟ والى أي حدّ يكون في استطاعة فلسفة المغايرة- الدريدية- أن تتجاوز الحدود والتخوم، نحو الممكن/ اللّاممكن والحرية؟؟.
يتعلّق الأمر بما تقتضيه المهمة الفلسفية الأصيلة من التزام وانخراط حقيقي حسب مرامي التفكيك بالنبش والخلخلة ورفع اللبس وتعرية الثنايا الكامنة والمخفية ، وقراءة التقاطعات والتداخلات والتشابكات، وكشف خفايا العلاقات المنسوجة هنا وهناك في الهوامش وتفكيك العناصر المركّبة لما بين سطور النص واللغو والقص والحكي والكتابة ''الرسمية''.. والسّعي إلى تتبّع وتفكيك الكيفيّة التي يتقاطع عبرها وفيها، المنحى الاستطيقي والاطيقي، في خضمّ المدوّنة الدرّيدية التي تمتد عبر تاريخ فلسفي طويل من أفلاطون حتى بلا نشو، والتي لا يتردد درّيدا في تشخيص أزماتها واعضالاتها ثم تفكيكها ومناظرتها.
1- مقاصد اطيقا التفكيك:
لا يدل التفكيك على التأسيس بقدر ما ينحو إلى التقييم والتشريع للإمكان ووضع الشروط، فهو عمل اطيقي بامتياز يناقش ويجادل السرديات الكبرى في الفكر الفلسفي والأدبي والفني عموما[2].
يحلو للبعض اعتبار التفكيك نوعا من الاستراتيجيات الخاصة التي تقوم على القراءة بمعنى التحليل والفكّ Démontage لكل لمفاهيم الفكر الغربي والخطاب الميتافيزيقي كمفاهيم الحقيقة والهوية والعقل والذات والحضور والتطابق والأصل . وخلخلة إشكال التمركز العقل logocentrisme التمركز اللغوي Phonocentrisme والمركزية الذكرية phallocentrisme، ولا تتم هذه الخلخلة إلا إذا تم استهداف ميتافيزيقا الحضور من خلال الكشف عن التناقض الداخلي من ذلك البنية الثنائية Dualités التي تشبه الفخ الذي يجعل التفكير منقسما على نفسه ودوغمائيّا في نتائجه، ولا يمكن تجاوز هذا المأزق حسب دريدا إلا بالبدائل المتمثلة أساسا في : سلسلة من المفردات مزدوجة المعنى والقادرة على العني والتدليل ، ولكن في ذات الوقت الاستفزاز واحداث البلبلة في فاعلية التفكير والقراءة مثل:
__: الأثر Trace : الذي يشير في نفس الوقت الى امّحاء الشيء ولكن الى بقائه في الذاكرة وصموده في علاماته...
___: الفارمكون Pharmakon : هو السم والدواء فهو دال على الشفاء رغم أنّه حاوي للألم..
___: الإضافة Supplément : تضاف ولكنّها تكمّل وتسد نقصا..
___:"الباريرغون- Parergon :إطار لا يؤطر ولكنّه يحيط بالرسم ولا يحبسه..
___: الحدث _Evenement: هو ما لا يفهم، رغم أن طريقة حدوثه وتأثيره يدفعان نحو استيعابه (نحو تفهمه والتعرف عليه أو نحو التماثل معه واكتساب سريع للقدرة على وصفه وتأويله )، ولكنه يبقى جديرا بالتواجد حين تخور قوى هذا الاستيعاب على حدّ من الحدود.
ولعل اتساع مرامي فلسفة درّيدا عسّر الإمساك بأطرافها أو القبض على كل المعاني الواردة قيها ومن خلالها..ولكننا نتابع مخارج التفكيك العديدة ونشير الى بعضها:
** فاعليّة التسآل: ما يخص إثارة الأسئلة الحقيقية باعتبار أن الفلسفة الغربية في الحداثة قد حادت عن التسآل الحقيقي ، مع ديكارت وضمن الكوجيطو والعقل والصواب والوضوح ، تمّ الإغفال التام لمعاني أخرى مثل الجنون والخبل والحمق بل وقع إخراجها من دائرة الوقار الفلسفي وأصبحت خارج دائرة الاعتراف والاحترام الفلسفي..
** فاعليّةالتشريع الاطيقي: حيث يعلن داريدا أن المطالبة بالحق في التفكيك كحق لا_مشروط في تطارح الأسئلة النقدية حول الإنسان وحول النقد ونقد النقد وسلطة السلطة وحول العولمة والجامعة (أي دور سيكون للجامعة في ظل مقتضى العولمة والإرهاب؟).
- تحديث الحدث : يقرأ التفكيك الما- يحدث هو بعد من أبعاد الصيرورة الزمنية، فهو يرسم الحدود (ولكن أية حدود؟) وما يطرأ ، وما يحويه من عناصر تكون في معظم الأحيان مفاجئة ، فالآخر والموت والميلاد ، جميعها مفاعيل دالة عليه وعلى غيابه أيضا[3].
**فاعليّة تحيين المسكوت عنه: لا ينفك التفكيك يستهدف المسكوت عنه لا من وجهة نظر المجتمع بل في خضم ما أنجزه الفلاسفة ومثالا على ذلك يتناول دريدا السكوت الهيدغيري عن الجنسانية ويتساءل عن جنس الدزاين مثلا وما استتبع ذلك من خلل في كشف علاقة الفرق الجنسي بالفرق الانطولوجي.
**افتتاح الفنّي المغاير: لا يستثني الدلالة التي تحصر الفنّي أو الاستطيقي في الحساسية بل يذهب الى مقارعة كل دلالة ساء المتعلقة بالذوق أو بالحساسية.
2- أيّة جماليّة للتفكيك:
تحدّ الاستطيقا أوّلا عند بوم غرتن بحسب التعريف الموالي:'' الاستطيقا (أو نظريّة الفن، فن جمال الفكر، فن أنالوغون العقل ) هي العلم بالمعرفة الحسيّة.''[4] . وهو، في الحقيقة، تحديد مركّب، لأنّه يجعل من الحكم الجمالي يخضع إلى مبادئ، ومن ثمّة استخلاص قواعد تكون بمثابة قوانين لعلم الجماليّة [5].
أمّاعند كانط فلم تعد الاستطيقا طلبا للعلميّة بان تكون علما بالجميل، بل هي تأخذ حينا معنى ترنسندنتاليا وحينا آخر دلالة سيكولوجيّة( ن ع م ص 60)، استطيقا مبهمة مترددة.لاهي ذاتية ولاهي موضوعيّة أو لنقل ان هناك احراج اطيقي استطيقي..وهذا ما دفع دريدا الى محاربة هذه القراءات المحنّطة بفعل سلطة تقديس اللوغوس الحداثي.++..فكيف تعامل التفكيك مع هذا التصورات المتوترة ؟؟
** الكتابة أرضيّة للإبداع والجماليّة:
في إطار التفكيك لا انفصال بين الفعلين أو المقصدين طالما أنّ الأمر تجاوز الثنائيّات نحو الالتباس والتواشج والتعلّق، ويتمظهر ذلك في تناول النص واللغة والكتابة، فكيف تكون اللغة ابداعا جماليا للنص؟؟
نلاحظ ان داريدا في احد محاضرته " بين الهاوية والبركان اللغة رسالة من شوليم الى روزنسفايغ" أشار الى النص البركان ''..نصّ لايخمد ولا يسكن دائم الهيجان والثوران نص يتكلم بالجرح والتمزيق"[6].
تبدو جمالية هذا النص في انّه يخرج عن شروط الجمالية التي يؤكدها رولان بارت، حين كان النص نسيج (Tissu _) طبقات ودلالات ومجازات ، حينها كان كينونة لغوية قائمة. وقد ظهر لنا في هذا المستوى أنّ الفيلسوف المفكّك يدعم البعد الخاصّ بما ينتظر أو بما هو محل اشتراط أي البعد الاطيقي. فالنص الدريدي يبدع نصا آخرا هائجا وثائرا لا يهدأ له بال ، يقول ليقال، هو نص الذات المنسيّة في إطار حلقات تشكل الوجود_ خاصة بدلالته الميتافيزيقية_ ذات تكاد تنفجر بسبب القمع الرسمي والعقلاني والانفجار والمباغتة توحي لنا بحسب ما ورد في نص''المهماز أو أساليب نيتشه"بانفلات الذات المبدعة من عقالها حين تبتدع أسلوبها برغم أنها لا تبتدع الأسلوب، الداخل يبوح بالخارج رغم أنّه يظهر داخلا، بقدر ما يشير الخارج إلى الداخل، في جماليّة نادرة يصوّر لنا دريدا لغة تتكلّم دون أن تعني أحدا، ولا تعني أحدا ، وهي في هذا التعاكس تحيا وتتفعّل وتفعل فينا وتفجّرنا وتجرحنا لتدفعنا نحو امكان اطيقي مغاير..جمالية تجمع بين الضرورة والمصادفة، تردد بين الهوية المطابقة والفرق المتنافر، انها سحق ومحق لواقع الرداءة والرسميّات والتطابق المميت، انّها حقا اطيقا جميلة تتجلّى في جمع وتشتيت وتوزيع للدوال وإرجاء للمدلولات.
هنا نستبين جمالية أخرى ومغايرة للسائد وللمألوف، الأمر الذي جعل دريدا يحوّل الكتابة الى فعل قضاء عل كل صوت وكل مقول ثبوتي..ارجاء و محايدة، تأليف ولفّ، تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، تتحوّل الى سواد وبياض تضيع فيه كل هويّة بما في ذلك هوية الجسد الكاتب...جمالية كتابة قال عنها الشاعر المكسيكي الراحل أوكتافيو باث:" كتابة تكتبك /بحروف مسنونة/ تنفيك/بعلامات من جمر/ كساء يعرّيك / كتابة تكسوك الغازا/كتابة فيها أندفن"[7].
الحق أن الجمالية المغايرة لم تعد قائمة على الذوق أو الحساسية بل انبرت لنا وفق مقولة الأليتيا، احتجاب أو تأجيل للحقيقة، أليس عشق الشيء يدفع للبعد عنه؟ إلا يكون هوانا هو في بعدنا وشوقنا،؟؟
الخاتمة: وفي تدقيق نهائي، ننتهي مع الفيلسوف داريدا إلى أنّ الوصل بين منهج فلسفة التفكيك/ الحدث وبين الاستطيقي/الفني يقتضي الانتباه إلى:
أ- أنّ منهج التفكيك كفعل اطيقي استطيقي، لم يكن أبدا قائما على التشخيص ولا المجاوزة أو منطق النهايات أو القول بموت الميتافيزيقا أوموت الفن ، بقدر ما كان هو الاختراق الذي يعمل خلال وداخل الفضاءات المتغايرة والأطر التنافرة حين يصبح الجميل هو الممكن والمستطاع، وفي إطار الحدود المركبة والتنوعة ولكن ليست الدائريّة المغلقة، حينها يكون الفعل هو الجمال بعينه.
ب- أنّ ألتفكيك كفعل اطيقي استطيقي يستهدف في الحقيقة فعل المغايرة نفسه وليس مجرد تفكيك البناءات والنظم الفكريّة التيّولوجيّة أو الأنطو- تيولوجيّة[8].
ج- أنّ التفكيك كفعل جمالي مغاير يحافظ على مجمل الموروث الذي أصّله فعل النّقد كفعل فلسفي جريء قائم أساسا على التّسآل والنّبش والحفر الجينيالوجي الأصيل، ينقد ويشرّع للنقد الجذري، الذي لم يكن إلا استعادة للحلم الفلسفي المفكك، والباحث في الإمكان واللا-إمكان في ذات الآن[9].
إجمالا لم تكن هذه المحاولة إلا تدرب على ممارسة فعل تفكيكي غير أصيل..
المصادر والمراجع:
--جاك دريدا، فصول منتزعة، ترجمة عبد العزيز العيادي معز المديوني ناجي العونللي، منشورات الجمل،بيروت بغداد، 2015.
-- أوكتافيو باث، من ديوان كنت شجرة وتكلمت بستان حروف، ترجمة محمد علي يوسفي، من مجلة الشعراء، عدد1، صيف 1980، فلسطين.
-- كتابات معاصرة، شوقي الزين ، عدد 66.
-- معجم الاستطيقاوفلسفة الفن، لصاحبيه جاك موريزو وروجي بويفي..
________________________________________
1) هي فعل بخفي ويتمركز وينخرط في المنظومة الميتافيزيقية للوغوس ويلتزم بمقولات المركز والذاتية والعقلانية والمعنى والدلالة...وغيرها1
3) داريدا ينخرط مع دولوز وفوكو ونانسي في اعتبار الموروث الفكري للانسانية هو هدف للتفكّر الفلسفي3
4 ) دريدا، حدث الحادي عشر من سبتمبر، صص 42- 46.
5 ) ورد في النسخة الفرنسية معجم الاستطيقاوفلسفة الفن، لصاحبيه جاك موريزو وروجي بويفي، ص 168. وهو لبومغارتن من كتابه ''استيتيكا''، الفقرة1 ‘’l’esthétique (ou théorie des arts, art de la beauté du penser, art de l’analogon de la raison) est la science de la connaissance sensible. ».
5)× يشير مؤلفا المعجم المذكور أنّ بومغرتن قدّم صياغة مركّبة للاستطيقا بحسب ما أشار له كانط في "نقد ملكة الحكم"، حيث يقول كانط:"..التحليل الممتاز للمحترم بوم غرتن لايخفي التركيب والتعقيد الذي يرافقه، فهو أمل في إخضاع الحكم النقد ي للجمال إلى مبادئ عقليّة، ثم استخلاص قواعد تكون بمنزلة رفعة العلوم....ولكنّه بقي أملا فاشلا." المصدر: المعجم ، ص 168.
6) كتابات معاصرة، شوقي الزين ، عدد 66.[6]
7) أوكتافيو باث، من ديوان كنت شجرة وتكلمت بستان حروف، ترجمة محمد علي يوسفي، من مجلة الشعراء، عدد1، صيف 1980، فلسطين.
8 ) في إشارة إلى الفرق بين التفكيك الدريدي والتفكيك الهيديغيري – انظر ص 207.
9 ) دريدا، المارقون، ص208.
الأخضر بنجدو
باحث في كلية الاداب صفاقس/قسم فلسفة