" لن يرضى السياسي عن المثقف ابدا"
غرامشي
المثقف اما ان يكون دوره التنوير او ان يكون دوره التبرير، ان كان الاول فذلك العضوي، وان كان الثاني فذلك المتواطئ الذي يسعى إلى تبرير قرارات السلطة والمكرس لأشكال الهيمنة المختلفة. الذي دوره التنوير تكون رسالته تنوير الرأي ويقرأ القضايا على ضوء الواجب الأخلاقي الذي تحتمه عليه صفته، اما المتواطئ المبرر فيجعل من القضايا أرضية للتحليل المغرض واللاأخلاقي وغرضه التشويش والمشاغبة والتضليل، وقد يكون هذا المبرر مدفوعا او مطبوعا عارفا بدوره الخطير، والمدفوع هو الذي تشكل لديه وعي زائف استطاعت السلطة/ اي سلطة تجنيده للقول بإديولوجيتها، وهذا هو الذي يكون واقعا تحت الوصاية الفكرية وليس اخطر من هذه الوصاية.
يقول ميشيل فوكو « لكل مجتمع نظامه للحقيقة»[1] والحقيقة هي نفسها السلطة، او ان هذا النظام للحقيقة هو الذي يسوغ نوعا محددا من السلطة. لا تخرج السلطة اذن عن الحقيقة. هذا النظام للحقيقة كذلك هو الذي يحدد طبيعة المثقف وموقعه الخاص داخل النظام[2] اذ يتحدد حسب انتمائه الايديولوجي/الطبقي ومكانته العلمية والمعرفية وكذلك ممارسته السياسية.
المثقف بهذا المعنى يكون ابن الانوار، فهو المسؤول على انتشار نوع معين من الوعي داخل جماعة بشرية معينة في عصر معين. كيف يكون ابن الانوار؟ يذكر هذا التحديد بالاستعمال العمومي والخاص للعقل في رسالة كانط " مالأنوار؟"، يقول ايمانويل كانط « اني اعني بالاستعمال العمومي للعقل ذلك الذي يقوم به شخص ما بصفته عالما إزاء مجموعة من القراء»[3] اذا وصلنا تأويل العبارة الى حدود متقدمة يمكننا القول انه حتى المثقف وفي جميع صفاته نوع من السلطة ذلك انه قابل ليتحول الى سلطة وهيمنة.
« ان الحقيقة مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتساندها، لكنها مرتبطة كذلك بمعقولات السلطة التي تتمخض عنها وتسوسها »[4]
الحقيقة اذن وكما تم هي المنظومة التي تعطي المشروعية للسلطة، والسلطة نفسها هي التي تحاول حماية هذه المنظومة، الحقيقة تولد أنظمة السلطة والسلطة تحمي ما تتمخض عنه، فالحقيقة صانعة وصنيعة السلطة في نفس الآن، والمثقف هو الذي يدافع عن منظومات الحقيقة.
إن العلاقة بين المعرفي والسياسي هي العلاقة بين المثقف والسلطة،« ان النظرية نفسها بؤرة لتكثيف علاقات المعرفة بالسلطة فالنظرية خاضعة دوما لخرائط الاستراتيجيات السياسية»[5] يظهر اذن ان تفكير فوكو في السلطة لا ينسلخ عن فلسفة الانوار/ سؤال الانوار وهو نفسه يقول « لم توجد فلسفة الا وقد واجهت هذا السؤال على نحو مباشر او غير مباشر؛ ان الفلسفة منذ قرنين وتحت اشكال متنوعة تعيد نفس السؤال؛ ما هذا الحدث الذي ننعته بالتنوير»[6] فوكو يفكر في مشكلة الوصاية ويأخذ على كانط شعار " فكروا ولكن اطيعوا" يفكره فوكو على انه كذلك وصاية ونوع من القوة، يكون مفهوم القوة من المفاهيم المشتركة بين فوكو ونيتشه « وباختصار يقول دولوز هناك ثلاثة لقاءات بين فوكو ونيتشه، اللقاء الاول يتعلق بمفهوم القوةforce فالسلطة عند فوكو كالقوة puissance عند نيتشه لا تحاول في علاقة عنف ... ان السلطة لا ترتبط بموضوع محدد وإنما تمتد الى علاقة القوى بعضها ببعض»[7]
إن المثقف اذن هو الذي يستعمل عقله استعمالا عموميا إزاء القراء، تتحدد مكانته داخل النظام العام في دوره التنويري وكذلك التبريري، لأن المثقف في دوره الخطير هو الذي يكرس لنوع من الحقيقة التي تلد نوعا ما من السلطة أو يسوغ لنوع اخر من الحقيقة الذي يدعم نظام سلطة مغاير. وإذن فالرهان الحقيقي ليس « تغيير" وعي " الناس أو ما يدور بخلدهم، وإنما تغيير النظام السياسي والاقتصادي والمؤسساتي لإنتاج الحقيقة»[8] وتعود الى القول بما تم من أن الحقيقة صانعة السلطة وصنيعها.
وهناك كذلك سؤال السلطة والفن حيث يمكن ان يتحول الفن الى نوع من الايديولوجيا فهناك « استثمارات الرغبة التي تنمط او تنمذج السلطة وتنشرها»[9] ان نظرية التحليل النفسي تطفو فوق هذا القول ذلك ان هذه النظرية قد تم الاشتغال بها بطرق مختلفة ومتعددة للقراءة في المناخ العام الذي انتج هذا النص/الحوار ، التنميط او النمذجة، الشكل الخفي الذي يتم به فرض نوع معين من الحقيقة وتسويغ شكل معين من السلطة، « ارتباط الاشكال formes بالقوى forces. ارتباطا يسمح بالتنقل من مستوى التحليل الخطابي الى مستوى ميكروفزياء العلاقات السلطوية»[10] والفن « كما يعرفه دولوز آلة لخلق القوى واثارتها»[11] من هنا تدخل مسألة النمذجة والتنميط و يتخذ الفن شكله الايديولوجي.
[ المثقف – السلطة – الحقيقة ] ثالوث يصنع احد عناصره الاخر، لابد للسلطة من حقيقة تقيمها، ولابد للحقيقة من مثقف يسوقها او يسوغها، ولا بد لوعي من مثقف يسوقه، ولابد لكل شكل من اشكال السلطة من مثقف يبررها، وكلٌّ يحمل ادلوجة سابقة عنه.
*تعريب؛ م.س
[1] م.فوكو ، تدبير الحقيقة، تعريب : م.س – و- ع.ب، فكر ونقد ع 3 نوفمبر 1997 ص 100
[2] نفس المصدر انظر ص 100
[3] كانط مالأنوار ترجمة مصطفى لعريصة ، مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ط 1 /2016 المطبعة والوراقة الوطنية ص 154
[4] م.فوكو تدبير الحقيقة ،فكر ونقد ع 3 ص 101
[5] مصطفى لعريصة مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ص 63
[6] مصطفى لعريصة مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ص 163
[7] مصطفى لعريصة مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ص 51
[8] م.فوكو تدبير الحقيقة فكر ونقد ع 3 ص 102
[9] عبد الجليل بن محمد الازدي ،جيل دولوز؛ الفوضوي المتوج وتكرار الاختلاف ط 1 2009 المطبعة والوراقة الوطنية ص 94
[10] مصطفى لعريصة مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ص 49
[11] مصطفى لعريصة مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير ص 54