" الهاجس المتمثل في البحث عن أسلوب جديد للتفلسف، يزيح التراتبية التقليدية بين الفلسفة و الأدب." ( مصطفى لعريصة، مدارات الذات، ص 33)
في معنى الفيلسوف؟
من الجميل أنه يحق لنا – نحن القراء العاديون – طرح هذا السؤال، أعني سؤالا بمثل هذه السخافة، لا يستطيع الفيلسوف ان يورط نفسه في مثل سخافة هذا السؤال، أي أنه لن يستطيع طرح هذا السؤال الا من ليس من الفلسفة في شيء.
الفيلسوف كائن حذر، كائن يكره الحماس، والناس العاديون مثلنا فقط يتحمسون، وينطلقون من دون أدنى درجة حذر. إن أي كائن ليس حذِرا هو كائن فاقد لكل أسباب الفاعلية والحياة.
لماذا نستطيع التحدث عن الفيلسوف، بكل بساطة لأننا لسنا فلاسفة، ثمة حرية رائعة في الامر، أن نستطيع التحدث عن هذا المخلوق العجيب، لسنا سوى اطفال يحركنا خيالنا ونحن ننظر عن بعد الى ظل هذا المخلوق الغرائبي. حتى إننا نستطيع ان نعيش ايامنا ونسير في عالمنا المعاش شبه جازمين انه ليس ثمة مخلوق بهذا الاسم، ليس هناك كائن بهذا الوصف. فيلسوف!
ثمة مخلوقان على الأقل تنطبق عليهما هذه الاوصاف. اذ هناك مخلوق يجب أن نتحدث عنه بإحتفالية أكثر مما نفعل مع الفيلسوف، إنه الشاعر؛ هذا المخلوق العجائبي الذي لا نعرفه لسوء حظنا إلا وهو ميت او غائب، كائن ليس ثمة رجل في الأرض يستطيع ان يجازف ويخبرنا عنه شيئا قبل أن يظهر، ويخبرنا جبران – ويحق له هذا – على لسان هذا الشاعر يقول ؛ وفي رغباتي اكثر مما في يدي ( جبران، رمل وزيد، ص 140) الشاعر! هل يكون شمسا، هل يكون مطرًا، هل يكون قوس قزح؟ إنه ليس أيًّا من هذه الأشياء، انه طيف!
إن الطيف هو الذي يلد هذه الاشياء، الشاعر في عريه وقد أزلنا عنه عباءة شِعره سيظهر لنا على انه رجل حفار، أبدًا يمشي وعلى كتفه فأسه، وقد يحمل معه نعشا، يحفر الشاعر في نفسه تلك الابار التي تنبع منها حكمته، يحفر الى الحد الذي يلامس كل الآخرين، كل الكائنات وكل المخلوقات، كذلك نصاب بالإعجاز؛ هل يعقل ان يكون ثمة رجل بهذا الاسم؛ شاعر! وهل ثمة مخلوق بهذا الوصف؛ طيف!
°°°
كم من الاحتمالات تمر في ذهن سقراط وهو يحاور رجلا عاديا، إنها احتمالات غير معدودة ، على الأقل لأن سقراط لن يطلعنا عليها ، ولأنها غير معدودة وهو في حوار مع مجرد رجل عادي صادفه في الساحة العامة أو في السوق، فما هو مقدار حذر سقراط، وماذا سيكون مقدار هذا الحذر لو أنه كان في حوار مع فيلسوف حقيقي، يا للعجب!
يستميت سقراط الشيخ الدميم الخلقة والخلق، هذا الكائن المسخ الذي يتجول بغير هدى في شوارع المدينة، ويثير حفيظة المواطنين الاحرار، ليس من حقه ان يطرح هذا السؤال او ذاك امام هؤلاء الاسياد الاحرار. مالجمال!
عودا إلى العبارة. يستميت سقراط في المحافظة على حذره، ثمة من ينتظر الفرصة ليكيد لهذا المزعج، فيه كانت المدينة ترى ضعفها، أخذ على عاتقه المهمة الشاقة والمستحيلة، أن يولد الأفكار من نفوس الرجال، أيها الرجل المعتوه، ايتها الحصاة التي ترسم على دوائر البحيرة/المدينة دوائر السخط والامتعاض، ثمة من لا يريد ان يلد، وثمة من أصابه العقم، ومن هو عقيم بالطبع. رغم ذلك أصر سقراط على مهمة توليد الأفكار من نفوس الرجال!
يعلمنا اذن شيئاً مهما عن الفاعلية، أن الفيلسوف إن لم يكن ابن الساحة فليس فيلسوفا، عليه ان لا يكون ابن البرج، هل يحمل المراقب على البرج سلاحا، انه يحمل نفارا، اي ما بمقدوره إثارة صوت قوي، ولست أدري أيهما أفضل. الفيلسوف إذن رجل حذِرٌ وفاعل.
يعلمنا سقراط هذا، ولكن هذا الشيخ العالم بالأرواح كما يصفه نيتشه، لم يكن احتفاليا تُجاه الحياة، لقد احتقر مباهجها وبهرجها، مظهرا صرامة الحكيم – ستكون الصرامة من صفات الفيلسوف ولكن بعد ان تستحم بالنار من بقايا لبوس الحكيم – لأن صرامة الحكيم لا تقدم غير الكأس، وصفةً لإعدام الحياة، وصفة فيها من الحمق ما فيها، وكتب سقراط هذه الروشتة لنفسه بيده، فقد كان متعجرفا متكبرا، وحتى وهو في كل حضوره في الساحة كان متعاليا، وقد اخذه بنفسه الكبر والخيلاء فهو أعرفُ الناس وأحكمهم، يطالب الرجال أن يلدوا الأفكار غصبا عنهم، وهذا ظلم، فمن الظلم بمكان أن تطالب الاشياء أن تخرج عن طبعها. ثمة عقم!
العنصر الاخر هو ان يكون الفيلسوف مزعجًا.
في لماذا لم يكتب سقراط، لم يكتب سقراط لأنه محتال، ما هذا الذي انا قائل، لست من الحذر في شيء واتورط في هذه الحماسة، لأني لست فيلسوفا فليس يطلب مني ما يطلب منه، يريحني هذا ويتركني أمارس حماقتي، شكلت الكتابة فرادة العنصر اليوناني ( جون بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ص 44) معها لم يعد ما كان سرًّا يحتفظ بتعاليه، لهذا كرهها سقراط ايما كره، قد يكون افلاطون هو من كرهها. فنحن في هذه الأشكال والرموز الباهتة – الكتابة – نحاول أن نحبس ما هو عالٍ وسامٍ، ما هو مترفع عن هذا البهتان، أي عن هذا الكذب والاختلاف الزائف وهذا الوجود الباهت، إننا نقتل المثال!
وكذلك، هناك من سيصبح أكثر حكمة من سقراط، يحافظ سقراط عن هذا الحق الممنوح من الآلهة باحتقاره للكتابة، إنها إشاعة للحكمة، وهي التي لا تُكيَّل بمال، فلا يجب إذن أن تشيع بين الناس، أقصد بين الرعاع، لا يحق لأحد أن يكون أكثر حكمة من سقراط، يحق للمواطن وحده أن يكون حرًّا، ويحق .. ويحق...، الكتابة ستقلب الترتيب والتراتب لهذا يجب ألاَّ نكتب، حتى حوارات سقراط في الساحات العامة سيكون اليها طريق اذا كتبت. سيأتيها الباطل من كل جهة!
لنعود الى معنى الفيلسوف. من صفات هذا المخلوق إذن الحذر والازعاج، ولكن كيف تكون الصرامة من عناصر الفيلسوف؟ الصرامة ليست من عناصره وانما هي سؤال الممارسة الفلسفية، ولا نستطيع الحديث عن هذه الممارسة التي لا نعرفها.
فلنحاول أن نرى كيف يتحول الحذر الى ترصد. إن أي كائن يعيش في حالة ترصد هو اذن يعيش حكما في حالة تربص، يظهر هذا في المملكة الحيوانية، كل حلقة في السلسلة الغذائية تكون في حالة ترصد بالنسبة لما فوقها وفي حالة تربص بالإضافة إلى ما تحتها، الإزدواجية. أي عالم هذا!
الحيوان يحيا حياته الخاصة، اي ان له عالما ( دولوز، الف باء A كما في Animale . ) وعليه ان يبني ويُعمِّر تخوم هذا العالم/ الموطن، إن دولوز هذه المرة هو الذي يعلمنا عن الترصد في معرض حديثه عن الحيوان/ات، يتجاوز الحذر السقراطي، فمقدار النشاط والترقب في الترصد اكبر بكثير منه في الحذر، الجندي حذر لكنه ليس في كل الأحوال مترصدًا. لقد كان سقراط جنديا!
الصيرورة حيوان هو الفيلسوف عند دولوز، وهو الكائن الذي لا يسترخي ( الف باء دولوز)
°°°
اللغة العشيقة. يظن الإنسان عبثا أنه يملك اللغة، وعلى العكس من ذلك تماما، اللغة هي مالكة الإنسان، لا يعدو أن يكون مجرد مملوك مغلوب على أمره لهذه العشيقة اللعوب، تماما كسعاد في بانت سعاد!
لمعرفة هذا فلنتوجه الى افضل عشاقها، وهما اثنان، عاشقان لهما الحظوة والمكانة عند هذه اللعوب، الشاعر! والفيلسوف! مع هؤلاء تدخل اللغة في أخذ وعطاء، ليس في الكائنات من يستطيع إعطاء شيء للغة سواهما، حتى أن هذه العشيقة تسمح للشاعر بقبلة عنق، ان يقبل هذه المنطقة المقدسة، ويكون الفيلسوف ملقحا للغة او كحبوب اللقاح، لكي تلد مفهوما يصبح الفيلسوف صديقه، لأنه لم يعد بإمكانه أن يكون صديقا الحكمة فهو يصبح صديقا للمفهوم، وليكون كذلك عليه أن يكون من عشاق اللغة المحظيين. يا له من عكس!
لو أن كعبًا كتب قصيدته في اللغة لكان نفسه الامر، فاللغة هي نفسها سعاد، هذه التي وصفها كعب بالتبدل والتلون والتضليل، وعالم الاحلام، انها السراب الذي تحدث عنه درويش ، كتاب المسافر في البيد / إقرأ اذا ما استطعت القراءة / واكتب اذا ما استطعت الكتابة.
لذاك ولهذا لن يقبل منا الشعراء والفلاسفة هذه الركاكة، ثم انه من واجب الاحترام اطلاق هذا الأسماء بالمفرد الشاعر!، الفيلسوف!. لن يقبلا ابدا هذا العته الذي أمارسه هنا، وسيصيح الشاعر في كثير من الحدة؛ تَنَكَّب هذا يا فتى. لن يكون النابغة!
دون أن أرشد من غيي سأقول أن النابغة لم يكن شاعرا، دون حذر ودون ترصد، هل وطن نفسه كناقد، الجميل في الأمر اني وجدت مخرجا، سأقول أن الناقد وسط بين الشاعر والفيلسوف، عندما يخرجان من نفسهما، قد يكون هذا شبه مقبول بالنسبة للشاعر ولكن لا اظن انه كذلك للفيلسوف، وليظهر ذلك وجب القول انه لا نجعل أيًّا من الفيلسوف والشاعر فوق الاخر، اما الناقد فهو لقاؤهما. كان النابغة شاعرا!
اذا قال الشاعر يا فتى تنكب هذا، فإن الفيلسوف سيقول يا فتى اطرح عنك هذه الاسمال التي تظنها – والظن لا يغني من الحق – أسلوبا واسعى مسعىً غير هذا. الأسلوب إيقاع!
تماما كالشعر. إستحضرت الى الآن أربع شخصيات؛ جبران – سقراط – دولوز – والنابغة. شخصيات مفهومية لما اردت القول فيه.
قطعًا. هل النابغة رحالة! لو لم يكن رحالة لكان له دار عوض خيمة، ترتبط الخيمة بالترحال، او ان الترحال هو من يرتبط بالخيمة، في كل مرة تتشبث بأوتادها في أرض جديدة ، وعلى النابغة اقصد خيمته كان يتوارد الشعراء، من يدخل خيمة النابغة يجب ان يكون شاكا في شعريته الخاصة، او في مشروعية شعريته، اذا اجازه النابغة فقد حصل على لقب الشاعر ولكن كوظيفة عائدة للقبيلة.
النابغة أشعر العرب. لماذا يكون النابغة أشعر العرب، المشهور انه أكثر من يقول الشعر فطرة دون تكلف، حتى ان النبوغ من صفات الماء النابغ المنساب والسلس اذ ينبع من منبعه، وكذلك حالة النابغة مع الشعر.
ودخل عليه خيمته من الشعراء الاعشى، والخنساء، وحسان بن ثابت، هل شك الاعشى في شعريته الخاصة، ام انه ليس دخول شاعر مثل الاعشى على النابغة سوى شهادة على علو كعب النابغة في الشعر. إرتبطت نقدية زياد بن عمرو بحساسيته، هذه الحساسية المفرطة تجاه الأشياء والاشخاص والكلمات ( اللغة ) القدرة على نوع شاق من الاستبطان؛ العودة إلى الذات والغوص فيها إلى المنطقة التي تتنافى فيها الحدود بين الاشياء، ينتقد النابغة الشعر من حيث الجزالة والايقاع والابلاغ ( البلاغة).
" انا والله أشعر منك ومن ابيك ( هكذا يحتج حسان بن ثابت، ولم يثر الاعشى ونحن نعرف مقدار اللذة الشعرية في شعره. هناك فرق!، يجيب النابغة ) حيث تقول ماذا؟ قال : حيث اقول [ الطويل ]
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالا واكرم بنا ابنما
فقال له: إنك شاعر ولكنك أقللت جفناتك واسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك – عني ان الجفنات لأدنى العدد والكثير جفان وكذلك اسياف لأدنى العدد والكثير سيوف – وقلت: بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان ابلغ في المديح، لان الضيف في الليل اكثر، وقلت يقطرن من نجدة دما، فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان اكثر لانصباب الدم، ولن تستطيع ان تقول [ الطويل]
فإنك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في جبال متينة تمدها ايد اليك نوازع (الشيخ احمد امين الشنقيطي، شرح المعلقات العشر واخبار شعرائها، ص 226)
اقوى الفخر، والذي يدل على الشعرية هو ما قيل في الفخر بمن ولدك وليس فيمن ولدت، هذه حجة نفسية قوية تحضر في نقدية النابغة تمليها الخاصية الاجتماعية لعموم الإطار الذي رسم فخريات العرب، وهذا هو الشاعر جرير سئل؛ من هو أشعر الناس؟ ليقود السائل الى بيته و أوقفه عند رجل دميم قد أخذ ركنا من البيت يرضع فيه عنزة. فقال له: أوتعرف هذا او تعلم لم يفعل هكذا، يجيب السائل بالنفي، يقول له جرير؛ هذا ابي وانه يرضع هكذا مخافة أن يسمع الناس شخب اللبن عندما يحلب، وأشعر الناس هو من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم. قد يكون جرير وارث النابغة. تعلمنا الاستطراد من العميد!
هنا قوة الشعرية وقوة الفخر، النابغة شاعر مطبوع وصديق اللغة ( قبلة العنق) عليم بدقائقها، ومكامن الظل فيها، هناك يستريح، هناك يتفيأ الشاعر!
°°°
طه حسين كان مستطردا عظيما. سأعود الى دولوز لنعرف ماهو الفيلسوف " ان نكون مجهولين كما هو حال قليل من الناس ذلك هو الخيانة" ( جيل دولوز، حوارات في الفلسفة والادب والتحليل النفسي والسياسة، ص 62) . الخيانة كهروب، كترصد، كمعبر، وخلق عالم، لأننا بدائيون يجب أن نعرف كيف نفهم اللغة بلغة أخرى داخل اللغة. والذي يهمنا هنا هم هؤلاء المجهولون، القليلُ ( والرجال قليلُ ) هذا القليل المعدود تماما كالمختارين في مسارات المدينة ( جون بيار فرنان) هؤلاء المختارين هم فلاسفة العهد ذاك، اما الفلاسفة الان فهم هؤلاء المجهولين، ولماذا هم مجهولين، لقد كان الفلاسفة دوما شيئا آخر ... لقد عرفوا نشأتهم انطلاقا من شيء آخر ( دولوز، حوارات، ص 95 ) . الفيلسوف إذن كائن أجنبي، يعيش في حالة ترحال دائم، فليكن كائنا صحراويا او فليكن ما نسميه في لساننا الدارج [ عَزَّابًا ] وهو الرجل الرعوي الذي يعيش متنقلا، باحثا عن الكلأ، لديه قوة هائلة على المغادرة، يقصد السهول في الشتاء طلبا للشمس وفي الصيف يقصد الجبل من حيث يقصد العدالة، يقصد النسيم والنبات العطري. إنه فنان!
عن ماذا نبحث! متعجبين. إنه يبحث عن امكانات الحياة، فيما يصير حيث ترعى اغنامه الغيث، الغيث الذي يصير غنما وتصير اغنامه هو، انه يقيم علاقة إنسانية بالحيوان ( الف باء دولوز فيما يخص حيوان)، يصير الغيث كلأً ويصير الكلأ غنما وتصير الغنم راعيا ، هذا الرحالة كذلك يسكن خيمة تماما كالشاعر، من حيث لا يبكي ذكرى الخيام وذكرى ساكن الخيم ( البوصيري , البردة ) . الطلل!
الفنان. الفن امكان لتحقيق شرط التفلسف، وهو مانح الصيرورة وتذكرة الخروج من كهف افلاطون ومن فكر التراتبية ( خالد بنشانع، سؤال الفن في فلسفة جيل دولوز، اوراق نماء ص 13) منه الى الجغرافيا الى الصيرورة، والفن في علاقة مباشرة مع الوجود ومع الحياة باعتبارها حركة واختلافا، ( خالد بنشانع، ص 31).
ليكون هذا الكائن فيلسوفا ! يمر من خلال كل الاغيار ويغامر، يكشف عن نفسه للأغيار لتعصف به هذه الريح الى قدره الاستثنائي، الكائن الباحث أبدا عن امكانات جديدة للحياة، الاحتفالية في العيش، ورفض الروشتة السقراطية. على الفيلسوف ان يكون شيئا آخر. والجدير به ان أراد أن يكون فيلسوفا ان يكون شاعرا كما على الشاعر ان أراد أن يكون كذلك حقا ان يكون فيلسوفا. النابغة، دولوز!
سأحب كثيرا ان اعود الى شخصية استحضرتها، الى رجل جمع الشيئين معا، فقد كان جبران خليل جبران باسمه الثلاثي المميز تعبيرا دقيقا عن هذه الصيرورة " قليلا ولا ترونني، وقليلا وترونني؛ لأن امرأة أخرى ستلدني " ( جبران، النبي ، ص 127) اعيانا نحن البشر العاديون انتظار امرأة أخرى تلد جبران من جديد ومرة اخرى، ثمة ما بقي في قلب الرجل دون افصاح، اطبق الزمان على فمه دون ان يقول الكلمة المرجأة، هل كان هناك رجل اكثر اختراقا الحياة اكثر من جبران خليل جبران، كان طيفا ، نعم. لقد سمح لشمس الحياة ان تخترقه ليرمي على الحياة بهجة الوانه، ان تخترقك شمس الحياة امر مؤلم لكن العظماء يفضلون الألم عن البلادة، يقدسون الشروق ويكرهون العتمة. العتمة إلحاد ولحد!
جميع كلماتنا فتات يتساقط عن مائدة الفكر ( جبران، رمل وزبد، ص 141) يطلعنا الرجل عن السر؛ الفكر نور أعم وأي اسم آخر يريد ان يحوز الفكر فهو حائط حاجب ومانع له، حتى الفلسفة ليست الا شكلا مغلقا امام إطلاقية نور الفكر لهذا تعين الخروج من الفلسفة الى الفكر.
التفكير عقبة دائمة في سبيل الشعر ( رمل وزيد،. ص 141) هل هذا هو تعريف الشعر من هذا العظيم؟ ولست افهم هذا لكني اتذوقه انه حتما شيء عبقري و العبقرية انشودة طائر في بدء ربيع متأخر ( رمل وزيد، ص 141) وهذه قبسة على ذكر العبقرية. هذا شيء عظيم!
وعندما اراد جبران أن يختم النقاش بين هذا وذاك قال؛
" الشعر حكمة تسحر القلب.
والحكمة شعر يترنم بأناشيد الفكر.
ولو استطعنا أن نسحر قلب الانسان ونترنم في الوقت نفسه بأناشيد فكره، لقدر اذ ذاك ان يعيش في ظل الله." ( رمل وزبد، ص 140)
هل اواصل ركاكتي امام هذا الاعجاز، قطعا لا، إنه شيء عظيم!
°°°
درس من نيتشه و درس من جبران.
المحتفلان بالحياة. التفكير هو تفكير في الحياة المعيشة بقضاياها وبعلاقتها مع آخرها: الموت. التفكير هنا اذا تجربة حياة وموت كبعدين متلازمين متداخلين وحاضرين عبر التجربة الفكرية في كل لحظة. ( مصطفى لعريصة، مدارات الذات، ص 47) إن أي فكر اذن لا يمجد الحياة ليس جديدا بأن يسمى فكرا. عن اي نيتشه نستطيع ان نتحدث فنحن الهواة نجده بالمتعدد، نحن – الهواة – هم الويل الذي اصاب نيتشه بكل تأكيد. إننا نتجرأ على الكبار ولا نحمل لهم أي تقدير.
الجميل اننا لا نراه ابًا لأي نزعة عدمية، على الاقل بالنسبة للمختارين، لكنه كذلك بالنسبة لصنف آخر من الرجال، ألا تراه كيف يسير مقبلا كالراقص ( نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 37) يظهر لنا نيتشه بهذه الصورة في احلامنا وخيالنا، هذا المخلوق الذي يمشي على صفحة الوجود مترنما هزجا وفرحا بالحياة، كائن يسير بمثل هذا الفرح الطفولي الذي يقدس الحياة وينبذ الألم، لا شيء غير اللذة لا شيء غير الاحتفالية، ليس ثمة ما يعلو عن إرادة الحياة، تماما كالطيف تماما كالنسيم، وإن اردنا رؤيته بعين شاعر لامس الوجود فإن الشابي اجدر بهذا اذ يقول،
خلقت حرا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه
تغرد كالطير اين اندفعت وتشدو بما شاء وحي الاله
وتموج بين ورود الصباح وتنعم بالنور أنى تراه
وتمشي كما شئت بين المروج وتقطف ورد الربى في رباه
الى النور! فالنور عذب جميل الى النور فالنور ظل الإله ( ديوان ايي القاسم الشابي ورسائله، ص 206/207 )
إن هذا الكائن ليس إلا اكثر الناس احتفالا بالحياة والباحث أبدا عن امكانات جديدة لها، لأنه ماهو العدم إن لم يكن غير انتهاء امكانات الحياة داخل الانسان، وكم يكره نيتشه العدم، كالموسيقى هي الحياة، تستمد فرحها من ذاتها، أناشدكم ان تظلوا اوفياء للأرض، يا اخوتي وألا تصدقوا أولئك الذي يحدثونكم عن امال فوق أرضية، مُعِدّوا سموم أولئك، سواء أكانوا يعلمون ذلك او لا يعلمون. مستخفون بالحياة هم، محتضرون ومتسممون بدورهم، ملتهم الحياة، فليرحلوا اذا! ( نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 43) الحياة للحياة، الحياة للحياة، لقد غدا طفلا هو ذا قد تغير، طفلا غدا زرادشت ( ص 37 )
ولأسمح لنفسي مجددا ان اقتبس من الشابي، ربما يحضرني لأنه عاش الحياة وكان مليئا بإرادتها، لا شيء غير إرادة الحياة ولا شيء غير اغاني الحياة، يقول الشابي في نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس :
سأعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء
ارنو الى الشمس المضيئة هازئا بالسحب والامطار والانواء
لا ارمق الظل الكئيب ولا أرى ما في قرار الهوة السوداء
اصغي لموسيقى الحياة ووحيها واذيب روح الكون في انشائي
واقول للقدر الذي لا ينثني عن ضرب آمالي بكل بلاءِ
لا يطفئ اللهبَ المؤججَ في دمي موجُ الاسى وعواصف الارزاء
فاهدم فؤادي ما استطعت فإنه سيكون مثل الصخرة الصماء
ويعيش جبارا يحدق دائما بالفجر ... بالفجر الجميل النائي. ( ديوان الشابي ورسائله ، ص 15/16)
ثمة درس يجب تمثله، وهو الذي يقدمه لنا نيتشه ليس المفروض ان نبدأ حين نكون تعساء ( الفلسفة في العصر المأساوي، ص 39) يبدأ الدرس برفض التعاسة و التتاعس، وفي عبارة من جوامع كلم الرجل يضيف؛ يجب ان نتفلسف حين نكون سعداء، في مكتمل العمر، مسلحين بالابتهاج الغامر الذي يسببه النضج الرجولي المتين والمنتصر ( الفلسفة في العصر المأساوي، ص 39) لا شيء غير البهجة! وعلينا أن نخجل أمام هذه العبارة المحتفلة.
البهجة درس حاولنا تعلمه من نيتشه لكننا لسنا سوى هواة، وحتى اننا لا نعرف كيف نتعلم بشكل جيد، الجمال اذن ما سنجلس من أجله الى مائدة جبران نلتقط في عياء تام ما يتساقط عن مائدته. كل ونبيه!
وفي نبي جبران نقرأ بعد ان ينهي عده افكار ابناء اورفليس عن الجمال يقول؛
كل هذا سمعتكم تقولونه عن الجمال
غير انكم في الحقيقة لم تقولوا فيه كلمة، وانما تحدثتم بحاجاتكم غير المكتملة
[...]
نعم يا ابناء اورفليس ان الجمال هو الحياة بعينها سافرة عن وجهها الطاهر النقي
ولكن انتم الحياة وانتم الحجاب
والجمال هو الابدية تنظر الى ذاتها في مرآة
ولكن انتم الابدية وأنتم المرآة. ( جبران، النبي ، ص 116/117)
أليست الحياة خيرا! مجرد الحياة جمال، لأنه ان تحيا معناه ان تكون متألقة مشرقا، تماما كما تحتفل الشموس بوجودها، هل تفكر الشمس في أنها سائرة الى الأفول، على الاغلب بل بالتحقيق لا تضيع جمال شروقها في هذا التفكير البئيس، لا يهمها هذا ما دامت مشرقة تجوب السماوات. إن سر الحياة يخبرنا جبران في النبي، هو الحياة، لا سر اخر غير الحياة، لهذا نكون نحن الابدية ونحن المرآة.
الذي يعيش للجمال هو هذا الكائن الفراشي الزاهي، هو الجميل، فالراشة جمال في حقل جميل، فلنستحضر شاعرا اخر لكن شرط ان يكون رحالة كذلك، اذ يقول ايليا ابو ماضي؛
عش للجمال تراه العين مؤتلقا في انجم الليل أو في زهر البساتين
لا حين للحسن لا حد يقاس به وانما نحن اهل الحد والحين ( الخمائل، ص 248/249 )
ماذا يفعل، هذا الطفل المبتهج في هيكل الحياة، مجددا!
في معني الفيلسوف؟ انه الرجل الشاعر ولأنه عليه ان يكون شيئاً آخر ليكون هو، فإنه شاعر ، والشاعر فيلسوف، ربما هكذا، لأنه كائن يقف " امام الارض كما وقف الانسان الاول امام اليوم الاول - انه ابن الصيرورة تماما كما النهر – فجميع حواسه تتجدد فيه ابدا، والعالم في نظره جديد دائما" ( جبران، يسوع ابن الانسان، ص 224) ونهاية، إنه طفل!.[i]
[i]
المراجع
ابو القاسم الشابي، ديوان ابو القاسم الشابي ورسائله، تقديم راجي الاسمر، موسوعة المعارف بيروت 2013
الشيخ احمد امين الشنقيطي، شرح المعلقات العشر واخبار شعرائها، تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة العصرية بيروت ط2 / 1999
المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، ترجمة الارشمندريت ، انطونيوس بشير، المركز الدولي للصحافة والنشر والتوزيع 2008
فريدريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، تعريب سهيل القش، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط3 / 2005
نيتشه، هكذا تكلم زرادشت ترجمة علي مصباح ، منشورات الجمل ط1 / 2008
مصطفى لعريصة، مدارات الذات في اللغة والسلطة والتنوير، المطبعة والوراقة الوطنية ط1/2016
ايليا ابو ماضي، الخمائل، ضمن من أعمال الشاعر اليا ابي ماضي ، دار كاتب و كتاب بيروت 1988
جيل دولوز، بارني ، حوارات في الفلسفة والادب والتحليل النفسي، ترجمة عبد الحي ازرقان، احمد العلمي، افريقيا الشرق 1999
جيل دولوز الف باء
جون بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، ترجمة ساليم حداد