تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.
كان هناك اعتقاد سائد بأن الفلسفة والنتاج الفلسفي - عند مقاربته بشكل صحيح - ينبغي أن يبدو كثيفاً، وعصياً على الفهم، ومربكاً بعض الشيء. ولكن في فجر العصر الحديث، عاش فيلسوف فرنسي صاغ بطريقة مختلفة تماماً نهجه الفلسفي في تقديم أفكاره. إنه الرجل الذي كتب كتاباً ضئيلاً للغاية، بالكاد يبلغ عدد صفحاته ستين صفحة، والذي يمكن اعتباره بجدارة كأحد الروائع الحقيقية للفلسفة الحديثة. إنه خلاصة وافية من الملاحظات اللاذعة والحزينة حول الحالة الإنسانية، كل منها جملة أو اثنتين فحسب، وذلك جعله يحتفظ بعدد استثنائي من دروس المواساة الحكيمة والاستثنائية والفريدة في آن معاً تناسب عصرنا المرتبك والمشتت أخلاقياً.
وُلد دوك دي لا روش فوكولد في باريس عام 1613، وعلى الرغم من مزاياه الأولية العديدة (الثروة، والعلاقات، والمظهر الوسيم) فقد عاش حياة صعبة للغاية وبائسة في كثير من الأحيان. لقد وقع في حب سيدتين نبيلتين لم تعامل أي منها عاشقها معاملة جيدة؛ وانتهى به المطاف في السجن بعد بعض من المناورات السياسية التي لم يكن ناجحاً بها؛ وأُجبر على النفي من باريس الحبيبة في أربع مناسبات؛ ولم يتقدم أبداً بقدر ما أراد مهنياً؛ وقد أُصيب في عينه خلال تمرد شعبي في باريس وكاد يصبح أعمى؛ وفقد معظم أمواله؛ وقد نشر بعض خصومه ما زعموا كذباً أنه مذكراته، وكانت مليئة بالإهانات ضد الأشخاص الذين أحبهم واعتمد عليهم، وهم الذين انقلبوا عليه ورفضوا تصديق براءته.
وبعد كل هذا – الخيانة، والسجن، والإفقار، والإصابة البدنية، والانتحال، والتشهير - يمكن بسهولة أن يُغْفَرَ للا روش فوكولد عندما أعلن أنه قد حصل على ما يكفي من الحياة النشطة وسوف يتراجع من الآن فصاعداً إلى المساعي التأملية الأكثر هدوءاً. لذا فقد علق سيفه، وقضى وقته في غرف المعيشة لدى شخصيتين فكريتين رائعتين في عصره، وهما المركيزة دي سابل، وكومتيس دي لافاييت، اللتين كانتا تدعوان بانتظام الكُتَّاب والفنانين للجلوس معهما في صالوناتهما الباريسية من أجل مناقشة الموضوعات العظيمة للوجود بحسب السائد في ذلك العصر.
لقد كافأت الصالونات الذكاء واللمعان العقلي والفكري. إنها لم تكن قاعات محاضرات أو قاعات للندوات، ولم يكن هناك تسامح مع الكآبة أو التباه هنا، لذا فإن كسب المستمعين تطلب مهارات خاصة ساهمت في تشكيل عقل لا روش فوكولد وعمله.
لقد كان داخل الصالونات حيث طور لا روش فوكولد النوع الأدبي الذي أصبح معروفاً به: ذلك التعبير بقول مأثور في عمق ما يشخصه، وهو عبارة عن بيان بليغ يجسد ببراعة بصيرة ونظرة عميقة على النفس البشرية، ويذكرنا بحقيقة حكيمة وفي كثير من الأحيان غير مريحة. في أسلوب لا روش فوكولد، ينبغي أن يقدم القول المأثور عصارته الفكرية في بضع ثوان لا أكثر.
في الصالونات، صقل لا روش فوكولد مهارته الإبداعية وقدَّ الأقوال المأثورة الـ 504 التي صنعت اسمه. لقد شاهد كيف كان رد فعل رفاقه من الضيوف، وكان يعدّل إنتاجه وفقاً لذلك. وقد غطت أقواله المأثورة جميع أنواع المواضيع النفسية، على الرغم من أن قضايا الحسد والغرور والحب والطموح كانت مواضيع متكررة. إن القول المأثور النموذجي لدى لا روش فوكولد يبدأ بمخاطبة القارئ بـ "نحن" أو "المرء"، ومن ثم يفصح القول المأثور عن نفسه في رؤية جديدة حول الطبيعة البشرية في اتجاه ساخر أو متشكك. ويكون في الثلث الأخير من الجملة، عصارة وخلاصة القول عموماً، والتي غالباً ما تجعلنا نضحك أو نخجل ضمنياً، كما يمكن أن يحدث عندما نضطر للاعتراف بزيف موقف عاطفي أو منافق سابق.
ربما أكثر الأمثال الكلاسيكية والمتقنة من جميع الأقوال المأثورة لـ لا روش فوكولد هي:
لدينا جميعاً القوة الكافية لتحمل مصائب الآخرين.
ويتبعها عن كثب بنفس البراعة:
هناك بعض الأشخاص الذين لن يقعوا في الحب، إذ لم يسمعوا بوجود شيء من هذا القبيل.
وهناك ما هو ليس أقل إنجازاً:
من يرفض المديح في المرة الأولى التي يقدم فيها يفعل ذلك لأنه يود سماعه للمرة الثانية.
قال فولتير إن كتاب لا روش فوكولد "الأقوال المأثورة" هو الكتاب الذي صاغ بقوة شخصية الشعب الفرنسي، والذي منحهم ذَوْقهم للتفكير النفسي والدقة والسخرية. وراء كل واحدة من الأقوال المأثورة تقريباً يكمن تحد لوجهة نظر عادية ومغرية عن أنفسنا. لقد كان لا روش فوكولد منقباً عن كوامن الغرور والرياء والنفاق في النفس البشرية، ويصرّ على أننا لسنا بعيدين في كثير من الأحيان عن أن نكون بلا جدوى، أو متكبرين، أو أنانيين، أو منافقين أو حتى تافهين، وأن الخير الذي نظنه في أنفسنا ما هو إلا قشرة مصطنعة من تخليقنا لإخفاء عيوبنا.
بعد أن عانى عذابات الحب المخفق، كان لا روش فوكولد يشكك بشكل خاص في الحب الرومانسي:
السبب في أن العاشقين لا يتعبون أبداً من شراكة بعضهم البعض لأنهم لا يتحدثون أبداً عن أي شيء سوى أنفسهم.
كتب نيتشه عن لا روش فوكولد: إنه يبدو سهلاً وعميقاً فحسب، وهو نيتشه نفسه الذي استلهم بشكل كبير من لا روش فوكولد مجموعة من الأقوال المأثورة التي جمعها في كتابه (البشر، جميع البشر كلهم).
كتب لا روش فوكولد بالطريقة التي كتب بها لأنه أراد أفكاره أن تقنع الناس الذين يعرف أن لديهم القليل من الوقت، ولن يكونوا بالضرورة إلى جانبه. إذا كان معظم الفلاسفة حتى ذلك الحين لم يشعروا بالحاجة إلى الكتابة بأناقته وذكائه وإيجازه، فذلك لأنهم وثقوا بشكل وثوقي في أنه طالما كانت أفكار الفرد مهمة وثرية، فإن الأسلوب الذي يقدم به المرء كتاباته ليس موضوعاً ذا أهمية يحتاج لإعطائه الأولوية بنفس القدر الذي يعطى لمنطوق وحمولة الأفكار نفسها. وقد عرف لا روش فوكولد خلاف ذلك ومارسه ببراعة وحذاقة، فبحسب نهج لا روش فوكولد إذا أراد شخص ما أن يوضح لنا نقطة، فيجب عليه استخدام جميع الأدوات الفنية لجذب انتباهنا والضغط على مللنا خلال أمد محدود زمنياً بقدرات انتباهنا الشحيحة.
و قد يستقيم القول بأنه كان من الممكن أن يكون تاريخ الفلسفة مختلفاً تماماً إذا تخيل كل ممارسيها أنفسهم على أنهم يكتبون لجمهور غير محترف وغير صبور من أصحاب العقول العاطفية وغير الموضوعية والطامحة لتنمية عقلانيتها كما كان الحال في الصالونات البارسية التي بزغ فيها نجم لا روش فوكولد واستمر يبدع في خضمها حتى رحيله عن وجه البسيطة في العام 1680.