المحور الثالث : النزعة الميتافيزيقية في الفلسفة الذرائعية
في هذا المحور الثالث بلقائي مع الباحث الفلسفي الأستاذ علي محمد اليوسف ، نناقش النزعة الميتافيزيقية في الفلسفة الذرائعية، متطرقين إلى معنى الصدفة وتأثيرها التاريخي والفلسفي.
س1- أ. مراد غريبي : في مناقشتنا مضمون المحور الثاني السابق وصفت الفلسفة الذرائعية بأنها فلسفة علم تنبؤي مستقبلي هل تجد رغم ذلك منحى ميتافيزيقي يتخلل الذرائعية وردت على لسان فلاسفتها الرواد المؤسسين الأوائل الثلاثة بيرس, ديوي, وليم جيمس؟ج1- أ,علي محمد اليوسف: فعلا سؤالك في محله لأني غالبا ما استوقفني هذا الهاجس في تقاطع بادي على الفلسفة الذرائعية كونه يشي بنوع من التناقض غير المسوّغ الذي يداخل فلسفة تعلي من شأن التجربة التطبيقية وقياس مقدار نجاحها بتحقيق منفعة قابلة التوظيف من اجل خدمة الحياة.
المفارقة التي غالبا ما يمرر الكثير من الأفكار غير المستوفية شروطها المنطقية بنفس المنهج البراجماتي (الذرائعي) الذي يحاول تطويع وسائله التعبيرية لمقتضيات النتائج المتوخاة المطلوبة من حيث أن المنهج البراجماتي لا يهمه كيفية تناول الأفكار بالفهم والمعرفة ماديا أو مثاليا بقدر اهتمامه بنتائج تلك الأفكار عملياتيا في التحقق من صحتها بالتطبيق الذي يحقق منفعة.. وليس بما تحويه من أتساق نظري فلسفي منطقي متماسك ظاهريا بما نرضى نحن عنه.. ..فالمنطق الفلسفي هو نظريات مجردة لا يمكن الركون لها والأخذ بصحتها ألا من خلال التطبيق العملاني لها بحسب المنهج الذرائعي في المعرفة..
وغالبا ما تكون الأفكار المجردة النظرية موضع ريبة وشك لا تفي التعبير الفكري اللغوي حقّه من الاستقامة المنطقية والصدق والتي تحمل تناقضاتها بأحشائها الداخلية التي نلمس بعضها تصدر على لسان فلاسفة الذرائعية الأمريكية وليم جيمس وتشارلز بيرس وجون ديوي وآخرين جاؤوا من بعدهم.. فتشارلز بيرس يبيح (أن يكون العلم يقبل المصادفات) وهو تعبير يمكن القبول المحدود به أذا ما أخذنا توالي بعض الصدف في سياقها العلمي الصرف وضمن إشتغالات العلم التخصصية التجريبية, ولكن يصعب تمرير هذا الفهم بمنطق المنهج الفلسفي البراجماتي الذي يرى صدقية وسلامة أفكارنا، إنما تكون من خلال مرورها من مصفاة مرشّحات وفلترة التجربة العملانية في تحقيق النتائج المطلوبة المتوخاة من نتائج الأفكار...وإلا كانت تلك الرؤى والنظريات والأفكار لا قيمة ولا معنى لها..
الماركسية أرادت إنقاذ التاريخ الانثروبوجي للإنسان من ورطة عشوائية الصدف الذي لا ينتظمها التفسير الواقعي المادي في صنع التاريخ فعمدت الى ربط الصدفة بالضرورة التطورية الحتمية التي تحكم مسيرة التاريخ حسب ما تذهب له..لذا حسب الماركسية تكون الصدف التي تحدث في حياة الإنسان بما لا يحصى أنما تحكمها الضرورة والهدف المسبق الذي يعمل على تسريع تقدم التاريخ الى أمام بدلا أن ترجعه الصدف غير المتوقعة الى الوراء أو الوقوف.. وهو ما يحتاج لتفسير يحدد لنا تأثير الصدف المتتالية في صناعة التاريخ من دون أي ارتباط لها بالضرورة.
س2- أ. مراد غريبي : بضوء ما ذكرته هل تؤمن بالصدف هي تقاطعات تحاصر التداخل التاريخي وتؤثر به؟ وهل جرى مثل هذا الافتراض تطبيقيا على التطور التاريخي بالعصر الحديث والمعاصر عالميا؟
ج2- أ. علي محمد اليوسف : في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات من القرن الماضي صدر لي كتاب عن دار دجلة بعمان بعنوان (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات) تناولت فيه اثر الصدف في حرفها مسارات التاريخ بإسهاب .
وأسقطت هذه الانتقالة غير المحسوبة على واقع مسار تاريخنا العربي المعاصر بضوء نظريتي فرانسيس فوكاياما في نهاية التاريخ وبروز العولمة التي أقفلت المسار التاريخي عالميا . وطبعا لم انس نظرية صوموئيل هنتكتون في حتمية صدام الحضارات بعد انهيار القطب السوفييتي المناوئ للرأسمالية ونهاية الحرب الباردة وتناحر الأيديولوجيات السياسية في إدخال العالم نفق الاستقطابات التي عرفت طيلة القرن العشرين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي ومعسكر دول عدم الانحياز.أوجز لك هنا كيف حدثت الانعطافة غير المسبوقة في التاريخ البشري المعاصر بالقرن العشرين بإسهاب مقتضب.
أقطاب التفسير التطوري للتاريخ جاء في أهم جنبة منه على وفق النظرية الماركسية في المادية الجدلية الديالكتيكية للتاريخ, باعتمادها مركزية العامل الاقتصادي كبؤرة تحكم جدلية التاريخ ومراحله التطورية.وأصبحت هذه النظرية الماركسية اليوم رغم ما تحمله من رؤى علمية منهجية وقراءة فلسفية معمّقة لواقع البشرية على امتداد تاريخ العصور الطويلة,وما حملته من تفسير مادي أنثروبولوجي إنسانوي متكامل , ثبت أنها غير كافية لتفسير الانتقالات النوعية في المسار التاريخي من مرحلة الى أخرى متقدمة عليها ومتجاوزة لها، بدءا من مرحلة الصيد والالتقاط وانتهاء بالمرحلة الشيوعية والتنبؤ بنهاية الدولة وانحلالها لاحقا على المدى البعيد وغير المنظور في تطبيق مراحل متقدمة من الشيوعية.علما أننا لا ننكر محاولة انجلز القول أن مركزية العامل الاقتصادي هي ليست وحدها تشكل العامل الانفرادي في خلق التقدم التاريخي وإنما مجمل مناحي الحياة الأخرى وحتى البنى الفوقية الثقافية المنفرزة عن الواقع المادي لها دور كبير في تقدم التاريخ وتطوره الى الأمام.
س3- أ. مراد غريبي : هل تجد أن مطب محاولة إنهاء التاريخ في مرحلة معينة كانت قسمة مشتركة بين المعسكرين الاتحاد السوفييتي السابق , والمعسكر الرأسمالي الذي استثمر تفكك منظومة الدول الاشتراكية كانت فرصة سانحة بل هبة مجانية كي تبرز لنا العولمة قطب واحد أراد تسيّد العالم؟
ج3- أ. علي محمد اليوسف: ثبت أن التفسير المادي الماركسي للتاريخ شأنه شأن المناهج والدراسات التاريخية المضادة له المثالية المقاطعة الرافضة للجدل التاريخي ,كالرأسمالية الديمقراطية واللبرالية والنيوليبرالية وغيرها,ان الجميع يشترك في حقن تحفيزيات محركة ذاتية للوقائع والأحداث في تبرير انتقالات التاريخ النوعية أو ما يسمى حدوث الطفرات, في وصول التاريخ الى غائيات وحتميات سعى الى بلوغها في الصيرورة التطورية المحكومة بإرادة التاريخ الذاتية ونزوعه لخير الانسانية, مع عدم إهمال الماركسية لعامل الإنضاج الموضوعي(الاجتماعي الاقتصادي الثقافي) في الانتقالات والطفرات النوعية المراحلية عبر التاريخ.
كان هذا التفسير الجدلي الماركسي استقراءا واستنطاقا للتاريخ كماض اختط مساره , قبل اكتشاف قوانين المادية التاريخية وصياغة فلسفتها المعروفة,وتبلورها المتكامل في التطبيق الاشتراكي الشيوعي.على وفق ديناميكية تحفيزية ذاتية حملها التاريخ في مساره التطوري الطويل لآلاف السنين إو يزيد ,متجاوزة بذلك أية عشوائية أو سلسلة مصادفات أن يكون لها سببا أو تأثيرا سلبيا أو إيجابيا في مسار تطور التاريخ عبر العصور.
بمعنى أن التاريخ البشري كان محكوما-حسب الماركسية- بالتطور الذاتي والموضوعي الطبيعي قبل اهتداء الماركسية اكتشاف تلك القوانين المادية الجدلية.وأن هذه المراحل التطورية أخذت نصيبها في التطبيق المراحلي الانتقالي من مرحلة الى أخرى أكثر تطورا وتقدما في حياة الإنسان ووجوده كحتميات يجب أن تحصل في التاريخ البشري عموما.
الملفت للملاحظة أن التفسير الماركسي (قفل) التطور التاريخي بمرحلة افتراضية في حتمية ووجوب انحلال الرأسمالية الامبريالية لتعقبها المرحلة الاشتراكية الشيوعية, وهكذا تتوقف دورة التطور التاريخي وهو ما لم يحدث..
بالمقابل نجد أن الرأسمالية (المعولمة) هي الأخرى (قفلت) التطور التاريخي بنهاية التاريخ عولميا من جانبها عقب استفادتها التاريخية المجّانية من تمزّق الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي دراماتيكيا ونادت بعدها أنه لا تاريخ بعد العولمة الرأسمالية وأن العولمة هي نهاية التاريخ وأفول نجم وعصر الإيديولوجيات.
لم يكن واردا في الاستقراء التنبؤي الماركسي أن ينهار النظام الشيوعي قبل انهيار الرأسمالية الامبريالية، هكذا كان التفسير الاستقرائي الماركسي للتاريخ القائم على مركزية الفهم أن التطور البشري منذ العصور الأولى للبشرية, كان محكوما بغائيات وحتميات وقوانين طبيعية تقود التاريخ قسرا وبمعزل عن إرادة الإنسان, قوانين ذاتية مصدرها الواقع المعيشي للبشر, ونضجهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي موضوعيا.
نخلص بإيجاز أن تطور التاريخ ماركسيا بنوع من الغائيات والحتميات، كان مرتكزه التحفيز الذاتي الديناميكي الشغّال فيه باستمرار هو تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الثقافي أيضا,هذا التفسير تم دحضه تاريخيا في بروز وانبثاق عصر العولمة وعدم انحلال النظام الرأسمالي الامبريالي, رافقه انحلال النظام الاشتراكي الشيوعي في منظومة الاتحاد السوفييتي القديم, وبذا تنتفي الحاجة لدحض ما سبق وتم دحضه تاريخيا واقعيا على الارض, بالتنظير الأيديولوجي أو الفلسفي في الفكر والأيديولوجيا ماركسيا.
س4- أ. مراد غريبي : هل وجدتم تلاقي بين الماركسية والعولمة ليس في إقفالهما التاريخ مرحليا بل في اعتبارهما التاريخ تقوده الى الأمام غائية حتمية ليست منظورة لم تكن لإرادة الإنسان تداخل معها؟
ج4- أ. علي محمد اليوسف: نعم وجدت من جانب آخر مثل هذا المنحى تلتقي العولمة مع الماركسية في اعتمادهما الغائية والحتميات في التفسير التاريخي من جهة وفي إقفالهما التاريخ المراحلي كلا حسب احتياجاته السياسية من جهة أخرى، الماركسية أوقفت التاريخ على رأسه بدلا من قدميه حين اعتبرت الشيوعية آخر مراحل تطور التاريخ البشري .وكذا فعلت العولمة في اعتبار أنها تمثّل مرحلة نهاية التاريخ ونهاية عصر الإيديولوجيات وأنه لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة لمرحلة تاريخية تلي العولمة وتعقبها.
العولمة لا تمثل صيرورة تاريخية في وصولها لحتمية تاريخية أوجدتها ومهدّت في انبثاقها , كانت متوقعة ومحسوبة لا بد أن يصلها تطور التاريخ البشري,بل ولدت العولمة من صدفة عشوائية تطورية نوعية طارئة على الاستقراء التاريخي, ساهم بوجودها انهيار الشيوعية السوفييتية بشكل دراماتيكي غير متوقع. ولم تنبثق العولمة بعوامل تحفيز ذاتية اعتملت مع فاعلية الجدل الموضوعي بإيجادها تاريخيا. إذ كان النظام الرأسمالي حينها يراوح بمشاكله, ولم تدب به الحركة إلا بعد انهيار النظام الشيوعي,لتأخذ العولمة دورها المتفرد في الهيمنة في غياب الند والمنافس.
النظام العولمي الرأسمالي لن ينجو هو الآخر من التجاوز والمغادرة في تفسيره التاريخ على وفق المنطق الإيديولوجي السياسي الليبرالي قصير النظر, ليلتقي بذلك مع الإخفاق الشيوعي في (إقفال) التاريخ مرحليا، حينما اعتبرت العولمة نفسها المحطة الأخيرة لوقوف قطار التاريخ البشري.وبذا فإن النظام الرأسمالي العولمي أدرك جيدا, بل أراد – خاصة الآن عولميا - أن لا يكون هناك غائيات وحتميات تطورية تعتمل داخل التاريخ تقوده الى مراحل متقدمة جديدة بعد العولمة تفقدها مبرر وجودها تاريخيا.
س5- أ. مراد غريبي : هل تجد ان العشوائية والمسارات التاريخية المنحرفة والتي تدخل عليها الصدف جعلت وتجعل من التاريخ سياقات غير منضبطة ولا صحة لوجود حركة ذاتية تلزم التاريخ تقدمه بمسار خطي تتخلله طفرات نوعية؟
ج5- أ. علي محمد اليوسف : كما أوضحنا كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي قفلا التطور التاريخي سياسيا كلا من جانبه على أساس من حتمية تاريخية أصبحت الآن (اكسباير/EXPIRE) منتهية الصلاحية التداولية والاستعمال.
هذا الإقفال الافتعالي للتاريخ شيوعيا ورأسماليا في مرحلة تطورية من مراحله المستمرة ,نجد فيه النظرية تسبق الواقع ولا تأتي تفسيرا له,وتسبق المسار التاريخي ولا تهديه أو يهتدي هو بها,والنظرية تجرّ التاريخ وراءها وتتقدمه, لكن لم ولن تلبث هذه الدوغمائية الفجّة طويلا قبل الاصطدام بحقيقة أن التاريخ يصنع النظريات ويسحبها وراءه وليس العكس.وليس بمقدور النظريات والمناهج كتابة تاريخ يمشي ويعيش على الأرض.
الحقيقة التي أثبتها التاريخ بمساره العشوائي اللاغائي وغير الحتمي في التطور أنه لا التفسير الماركسي ولا التفسير العولمي قادر على غلق مسار التاريخ وإيقاف قطاره في محطة نهائية وأخيرة لا تاريخ بشري تطوري بعدها.هذا مناف لحيوية وديناميكية الوجود الإنساني على الأرض..
إن التاريخ في مجمل إخفاقاته وتراجعاته وقطوعاته وتقدمه ,هو سلسلة من المصادفات العشوائية التي يتخللها ويعتريها التقدم الى أمام بإرادة إنسانية وليس بقوى ذاتية يدخرّها التاريخ داخله غير منظورة,الى جانب القطوعات والتراجعات غير المنتظمة التي أعاقت مسار التاريخ.
كما أن عشوائية التاريخ وتأثير المصادفات فيه جعلت من تطوره لا يحدّه انتظام المسار ولا تحكمه غائيات غير منظورة يسعى بلوغها.ووصول مرحلة تطورية مجاوزة لسابقتها بعد إنضاج عاملي الذاتية والموضوعية اللذين مصدرهما الفعل الإنساني المتحقق على الأرض وليس ديناميكية ذاتية شغّالة غير منظورة ولا محسوسة تلهم التاريخ وتقوده الى مراتب التقدم إلى أمام. مثال ذلك الثورات الشعبية والتمردات والكفاح المسلح والحركات الإصلاحية في مختلف مشاربها وغيرها هي التي كانت تصنع مراحل تاريخية متقدمة وتبديل حال سيء الى أفضل منه. وفي هذا يبرز الدور للإرادة الانسانية الفاعل والجوهري في تقدم التاريخ الى الأمام ، ومن هنا نجد الفروقات التاريخية بين شعب وآخر أو أمة وأخرى، وهذه الانجازات المتناثرة كجزر معزولة ليس بمقدورها ومكنتها أن تحكم مسار التاريخ البشري بمجموعه بنوع من الغائيات المرحلية البعيدة المستقبلية، وصناعة تاريخ مرحلي في بلد أو عدة بلدان لا يعني ذلك تخليص التاريخ البشري من مساره العشوائي والاعتباطي. وعشوائية المسار التاريخي وتأثير المصادفات ونتائجها غير المحسوبة التي لا وصاية ولا دخل مباشر لإرادة الإنسان بها, فهي باقية ولا تنتهي,صحيح جدا أن الوجود الإنساني سابق على التاريخ, وهذا الوجود وحده كفيل بإعطاء التاريخ معنى وهدف, لكن في المحصلة الإنسان وحده يعمل على تصحيح المسار العفوي الشاذ غير المنتظم للتاريخ, ولكنه لا ينهي بذلك تلك العشوائية في التاريخ التي تنتظمه على الدوام نهائيا. كما أنه لا معنى لتاريخ أو أي معطى أنثروبولوجي أو معرفي أو وجودي من غير أسبقية فعالية الإنسان عليه وتأثيره فيه و تعليل سبب وجوده وعلّة حصوله أيضا.
والمصادفات في التاريخ والسوسيولوجيا هي وقائع ربما ندركها على نطاقهما الأنثروبولوجي والمعرفي بأكثر أهمية ووضوح وجلاء عنه في مجال العلم التجريبي التخصصي من حيث صرامة التجارب العلمية في المعرفة بالقياس لانفتاح المجال السوسيولوجي المتاح لتمرير المصادفات على أنها من طبائع الأمور بالحياة الاجتماعية التي تحكم الحياة وتحكم التاريخ الإنساني معا..
فالمصادفات هي وقائع ندركها في واقع الحياة اليومية على صعيد السوسيولوجيا ولا نتقبّلها أن تلعب دورا كبيرا في مجال العلم التجريبي بل ولا قيمة علمية لها – أي للمصادفات – بإعتبارها إستثناءا تشذ وتخرج عن القاعدة العلمية المستنبطة من سلسلة التجارب العلمية والنظرية في نسقها العلمي المتماسك,, والمصادفات لا تصلح أن تكون مواضيع غير حدسية قبل توّقع حدوث وقوعها..كما أن حياة الإنسان يغلب عليها توالي الصدف التي لا يستطيع درءها أو معرفة زمن وقوعها ولا يمتلك أرادة دفعها عنه,, فالصدف تكون خارج التوقعات وخارج إرادة الإنسان التحّكم بها... إن دور المصادفات العفوية اللاضرورية تلعب دورا كبيرا في تصنيعها لحياة الإنسان والمجتمع من غير إرادتهما, وليس تصنيع الإنسان لحياته بإرادته القاصرة التي تتلقى عشوائية الصدف بلا حول ولا قوة لمنعها أو إيقافها..فالصدف غالبا ما تقوم بصنع حياة الإنسان ولا يتمكن من إيقافها بإرادته فهي تعمل بغير وبمعزل عن أرادة الإنسان وتوقعاته لها..وكذا الحال مع المصادفات غير المتوقعة التي تصيب المجتمعات وترسم الكثير من تاريخها دونما أرادة مجتمعية لها..
س6- أ. مراد غريبي : هل تجد في ظل هذا العرض التاريخي المعاصر الذي احدث انعطافة تاريخية غير مسبوقة جعلت التيارات الفلسفية الأمريكية على وجه التحديد القديمة منها مثل البراجماتية وتيارات فلسفة اللغة والعقل والوعي تتراجع في طروحاتها غير المواكبة للعصر؟
ج6- أ. علي محمد اليوسف: دائما على امتداد تاريخ الفلسفة عبر العصور كانت الفلسفة تلعب دورا تنويريا هامشيا في حياة الشعوب. حقيقة الفلسفة بمنطقها التجريدي وعبورها محددات التفكير العملاني الواقعي بقيت تتوسط إيديولوجيا التاريخ من جهة , ومنجزات العلم المتسارعة من جهة أخرى. لذا تجد تاريخ الفلسفة يدعو تحقيق كل شيء بالحياة لكنه يفتقد آلية تنفيذ أي شيء عملاني بالحياة والإسهام المباشر في تقدمها.
ربما تكون البراجماتية حققت نوعا من التنوير العلمي في مسار يوازي منجزات العلم ولا يقاطعها لكن إذا نحن اعتبرنا البراجماتية كانت سببا مباشرا في تقدم الحياة والتكنولوجيا والعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية أقول لك الجواب لا لم يحصل مثل هذا.
الفلسفة حبيسة الجامعات التي تهتم بهذا النمط الاجناسي من التفكير المستقل عن أن يفقد استقلاليته الفكرية الخاصة بعيدا عن تصنيف الأجناس الأدبية المعروفة. لذا تجد قلة من الفلاسفة منحوا جائزة نوبل مثلا. من الذين كتبوا العديد من مناحي تفلسفهم أدبا مثل سارتر الذي نالها عن رواياته ورفض استلام الجائزة , وكذلك برجسون الذي قبلها والبير كامو قبلها أيضا وهكذا.
س7- أ. مراد غريبي : لنعد إلى تيار انبثق بعد تيار الواقعية الجديدة, هو تيار الفلسفة المثالية النقدية الأمريكية, وكان تركيزهم الفلسفي منصبّا على الطبيعة والأخلاق والعقل. ماذا ترى في هذا التيار الفلسفي وابرز فلاسفته الاميركان؟
ج7- أ. علي محمد اليوسف: الفلسفة المثالية النقدية هي إحدى تيارات الفلسفة الأمريكية المعاصرة، امتازت طروحاتها الفلسفية بمحاولة مزج النزعة النقدية التجريبية مع المثالية في مفهومها الذي يفسر بعض قضايا الفلسفة بمنطلقات ميتافيزيقية, ويعتبر الفيلسوف الأمريكي جيمس كراستون (1861- 1924) أبرز منّظريها الذي طرح علاقة العقل بالطبيعة على الوجه التالي:
العقل لا ينفصل عن الطبيعة.
- الطبيعة هي شيء قابل للتعرف عليه من قبل العقل.
- مقولة العقل المطلق كي تكون دلالة يجب أن تتولد من صيرورة التجربة النقدية وأن تكون مبررة من خلالها.
- العقل الفردي لا يمكن أن يكون معزولا عن عقول الآخرين, وهو ما يعطي التجربة تفسيرا أو كشفا للحقيقة.
بما أنه يستحيل رد الاشياء إلى حالات وعي العقل الفردي, فإن هذه الصعوبة تجد حلا لها إذا افترضنا وجود عقل مطلق تتواجد فيه الاشياء بشكل أفكار.
الواقع يتكون من عدة عقول.
في بدء تعقيبي يمكن ملاحظة أن التعابير الفلسفية الستة أعلاه هي منطلق فلسفي يلتقي مع واقعية علاقة الإدراك العقلي المنفرد في تعالقه مع الطبيعة من جهة, ومع علاقة العقول الفردية مجتمعة بالطبيعة من جهة أخرى...
طبعا لا يمكننا القول بوجود عقل كلي جامع للأفكار مطلق من دون الانزلاق إلى تعليل هذا الفهم باعتماد فكر الميتافيزيقا الذي لا تستهجنه الفلسفة النقدية المثالية في محاولتها دراسة العديد من القضايا الفلسفية بمنهج براجماتي مثالي يقاطع النزعة التجريبية العلمية التي تمتاز بها الفلسفة الأمريكية المحورية لجميع التيارات الفلسفة البراجماتية.. وحتى وليم جيمس رائد الفلسفة البراجماتية كان يعطي الميتافيزيقا مكانة عملية أخلاقية نافعة تحتاجها الشعوب.
وهذا العقل المطلق لا يمكن أن يكون غير (الله) العقل المطلق المتعالي على الطبيعة وقوانينها الفيزيائية العامة وعلى العقول الانسانية منفردة ومجتمعة. الله هو العقل الجامع الذي تلتقي تحت وصايته الإدراكية المعرفية العقول الفردية المحدودة للإنسان. كما أن تعبير الواقع هو مجموع العقول المنفردة لا تحتاج إلى تأكيد هذه المسلمة الحقيقية في الإدراك...الواقع مدرك عقلي فردي وجمعي ولا نقول مع المثالية الابتذالية المتطرفة عدم وجود واقع بغياب العقل عن إدراكه...وعندما نقول الواقع هو مجموع تمّثلات العقل التصورية فأننا لا نلغي وجود أحدهما في إبقاء الآخر..
س8- أ. مراد غريبي: لكن كيف يمكن أن يكون متاحا لهذه العقول الفردية الوصول إلى نسق معرفي موّحد يستوعب عقول الجميع ولا يفقد ميزاته الحقيقية في الإلمام التام بالواقع؟
ج8- أ. علي محمد اليوسف : لا يوجد عقل مطلق بالفهم الفيزيائي بأي شكل من الأشكال حتى لو افترضنا أمكان حصول ذلك بوحدة العقول فكريا على صعيد الإدراك الحسي لموجود مشترك واحد,وهذا القول لا يعني مطلقا أن وحدة العقول في إدراكها الواقع هي من نوع نمطية تعليب الإدراك الواحد, فكل عقل انفرادي يفهم الواقع بفهم مغاير عن الأخر, والواقع يجمع العقول المنفردة على صعيد الإدراك وليس على صعيد معرفة ذلك الواقع على حقيقته.
ربما يكون الإدراك العقلي واحدا في آلية المعرفة الواقعية لكن الواقع يبقى متغيرا على الدوام في معرفة تفسيره وأدراك مكوناته أمام العقول المتعددة. فلا يوجد شخصان يدركان الواقع بتطابق من الفهم المعرفي المشترك الواحد, وإلا كنا احتجنا أن تكون معرفة الواقع تكفي من قبل شخص واحد لا أكثر. أذن كيف يمكن أن تنفرد العقول في فهمها الواقع في تباينات لا حصر لها, وبين أن تكون تلك الإنفرادات المعرفية يجمعها عقل كلي واحد؟؟ الواقع المادي لا تجتمع عليه معرفيا العقول المنفردة تحت مظلة عقل كلّي مطلق الاستيعاب والدلالة فهذه استحالة إدراكية معرفية.
إذن لا يتبقى أمامنا غير الفهم الميتافيزيقي للعقل المطلق وهذا يقودنا حتما إلى (الله) الذي هو العقل المطلق الذي لا يتشّكل من فرديات العقول الانسانية,وإنما تهتدي به تلك الفرديات العقلية في فهم علاقتها بالطبيعة والحياة..أن من المهم التفريق بين ما يبنيه النسق الميتافيزيقي من معرفة لا يقينية وغير تجريبية غيبية تختلف كثيرا عما تحاوله الفلسفة في أقامة نسقها المعرفي على أساس من منطق وتجريد عقلي صارم بالعلاقة مع واقع مادي وطبيعي معيش.
أن العقل الفردي لا يمكنه الإنابة في تمثيله الكل العقلي المطلق الذي هو أساسا لا يقوم إلا بمنطق اللاهوت الميتافيزيقي حصرا..أن التأرجح الواضح بين الفهم الميتافيزيقي المثالي للعقل, وبين الفهم العقلي النقدي الواقعي لا يستقيم من خلال محددات جيمس كرايتون للعقل وعلاقته بالطبيعة والميتافيزيقا.. فهو يتحدث لاهوتيا عن نسق فلسفي في تناقضه مع التعبير عن المنهج الطبيعي العقلي النقدي الذي هو في جوهره ماديا ولا يمكن الإحاطة المعرفية به فكريا فقط.
بالتأكيد إن العقل لا ينفصل عن الطبيعة, وأن الطبيعة شيء قابل للمعرفة العقلية, والواقع هو حصيلة مجموع مدركات العقول المنفردة,العقل لا يخلق الطبيعة لكنه جزء حيوي منها متعال عليها في محاولة فهمها وتفسيرها والاستفادة منها..
لكن يبقى التساؤل هو: كيف يكون التوفيق بين العقل المطلق ميتافيزيقيا- لاهوتيا, وبين أن يكون إدراكنا الطبيعة ملزم أن يتم على وفق صيرورة معرفية تجريبية نقدية كما تطالب البراجماتية؟؟
إن الفهم الميتافيزيقي للواقع أو الطبيعة يصادر أي نوع من الإدراك والتفكير بالواقع أو الطبيعة في منهج أعمال التجربة النقدية للتثبت من الوقائع كما ترغبه المثالية في التنظير الفلسفي..الواقع الذي لا ندركه عقليا لا يمكننا إدراكه ميتافيزيقيا..
س9- أ. مراد غريبي: من الملاحظ أستاذ علي، ظاهرة تشترك تقريبا بها غالبية التيارات الفلسفية المعاصرة هي محاولة إحيائها مركزية الإنسان الذي شنت عليها فلسفة ما بعد الحداثة هجوما راديكاليا كاسحا. كيف تفسر ذلك؟
ج9- أ. علي محمد اليوسف: نعم ملاحظة ذكية، من الملاحظ في التيارات الفلسفية الأمريكية المعاصرة تمحورها حول مركزية الإنسان في مجمل علاقاته الارتباطية بالوعي والعقل وتأكيد الذات والطبيعة والمعرفة, بمعنى أن هذه التيارات تبتعد كثيرا عن الخوض في مباحث فلسفية تقوم على تجريد القضايا الانسانية من محورية الإنسان كمرتكز في فهم الحياة والوجود الإنساني وعلاقته بالطبيعة, وهذا التوجه ليس جديدا على تاريخ الفلسفة فهو موجود منذ عصر بروتوجوراس ما قبل الميلاد في تاريخ الفلسفة اليونانية مقولته الإنسان مقياس كل شيء..
يقول بيرس في معرض إلتقائه مع سورين كيركارد في محدودية فكر الإنسان وقدراته وقابلية الخطأ في ثباته العقلي (لا يستطيع الإنسان حتى الدخول في سر قلبه الخاص ليعرف ماذا يعتقد وبماذا يشك). وهذه المقولة استنفدت نفسها ليس على مستوى التفلسف الميتافيزيقي وإنما على الصعيد المادي أيضا في الإجماع عليها وترديدها.
لكن الشيء والأمر الذي علينا الانتباه له جيدا أن التيارات الفلسفية الأمريكية في بدايات القرن العشرين, لم تكن تعرف الكثير بعد عن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة التي كان مرتع انبثاقها أوربيا في فرنسا وألمانيا تحديدا بعد تصدير الفلاسفة الاميركان الجدد المعاصرين لها.
حيث لجوءهم إلى إلغاء كل تمجيد للإنسان كمحور فهم قضايا الحياة المعاصرة, وكذلك العقل والعلم اللذان وصلا أوج ذروتهما في مدارس الحداثة وتياراتها الفلسفية, لتأتي تيارات ما بعد الحداثة إلغاءا تاما لمرتكزات الحداثة مشككة بالعقل والإنسان والعلم والسرديات الكبرى مثل الأديان والماركسية والرأسمالية وغيرها من الإيديولوجيات التي استنفدت نفسها فظهرت الفلسفات البنيوية والتفكيكية والعدمية كتنظيرات لا تعير اهتماما لمركزية الإنسان ولا لمركزية هيمنة العقل ولا محورية العلم وهكذا.. لذا عند عرضنا بعض آراء تلك الفلسفات الأمريكية علينا الانتباه أن تلك الفلسفات بطروحاتها أنما كما ذكرنا لم تكن غائبة الاهتمام عن محورية الإنسان كغاية ووسيلة معا التي تمثلها الذرائعية الفلسفة الأمريكية الأم خير تمثيل.
س10- أ. مراد غريبي: انفرد سيلارز فيلسوف الواقعية النقدية التي مررنا الحديث عنها تمجيده العقل بيولوجيا بمعنى تكوينه العضوي الفسلجي، المخ بتكويناته وشبكة منظومات الجهاز العصبي التي يقدر عددها العلماء بالمليارات من الخلايا العصبية الموجودة في قشرة دماغ الإنسان. كيف نفهم تمييز العقل بيولوجيا عن تمييز التعامل معه جوهر ماهيته التفكير كما يذهب ديكارت ؟
ج10- أ. علي محمد اليوسف: يذهب سيلارز وهو من فلاسفة الواقعية النقدية وليس المثالية النقدية التي تكلمنا عنها سريعا في سطور سابقة بمدخل هذه الورقة, (أن الدماغ في تنظيمه التكويني من عضلات وغدد هو العقل) هذا صحيح أذا ما أخذنا مفهوم العقل بيولوجيا فسلجيا وليس توليديا فلسفيا فالأمر عند ذاك يختلف بين المنظورين.
من المعلوم جيدا أن العقل هو غير الدماغ في الوظيفة المعرفية على صعيد توليد الأفكار الفلسفية تجريديا , ولا يمكن أن نساوي بين الدماغ والعقل فلسفيا على أنهما شيء لعضو بيولوجي واحد في الجسم الإنساني . فالدماغ هو مصدر التفكير المادي في فهم وتفسير الواقع, بينما العقل هو تعبير الدماغ بالفكر المجرد واللغة المجازية التصّورية عن الاشياء.. وتداخل الدماغ مع العقل من حيث الوظيفة البيولوجية المعرفية يجعل منهما شيئا واحدا بمعيار البيولوجيا وليس بمعيار المعرفة الفلسفية المجردة..ودلالة الدماغ في تباينها البيولوجي الواضح يعتمده علم وظائف الأعضاء والدماغ العلمي ولا تعتمده الفلسفة.
ونمضي مع سيلارز قوله :( في كل الأحوال لا شيء من الخارج لا يبرهن على أن الدماغ ليس عضو الوعي, ولا أن الوعي ليس ماديا, في حين أنه ومن الداخل, حيث نحن في قلب الوعي, يبدو لنا الوعي بمثابة شبكة كيفية(نوعية) من أحداث ترتبط ارتباطا حميميا مع عمليات الدماغ- العقل)..
إن من المفروغ منه اعتبارنا كلا من الوعي والدماغ هما عضوان من منظومة العقل الوظيفية المعرفية البايولوجية رغم مادية الدماغ وتجريدية الوعي, وقد يكون التفريق بينهما غير متاح إلا من خلال وضع تراتبية الإدراك في المفاضلة بينهما وهو أمر غير متاح فلسفيا وعلى جانب كبير من التعقيد التخصصي علميا , فالوعي في سبقه الدماغ كعضو بيولوجي لا يتقدمه بالوظيفة الإدراكية المعرفية بل في التكامل معه من حيث استحالة الوعي بشيء من غير تلازم الوعي - الدماغ - في إدراكه, والوعي يتوسط الإحساسات الصادرة عن الحواس مع الدماغ الذي يفسر للوعي ماهية مدركات الحواس الواصلة إليه.الوعي بالمنظور العلمي لا يمّثل موضوعا إدراكيا منفصلا عن منظومة العقل الإدراكية, لكن في الفلسفة يمكن أن يكون الوعي موضوعا للتفلسف وجوهرا منفردا.
من المتاح أمامنا القول بأن الوعي حلقة فكرية لا مادية في منظومة الإدراك العقلي لكنها لا تشبه الدماغ ولا باستطاعتها مجاراته بالوظيفة المعرفية التي يكون فيها الدماغ أقرب صلة إلى العقل ماديا منه في علاقة الوعي بالدماغ التي تكون على مستوى التوصيل للإحساسات عبر تجريد الواقع من ماديته الحسية .
س11- أ. مراد غريبي: الحقيقة لا نعرف كيف ذهب جون ديوي إلى اعتبار الوعي والعقل ليسا ظواهر إضافية للطبيعة بخلاف ما ذهب له سانتيانا– فيلسوف أمريكي من أصول اسبانية - معتبرا إياهما من وظائف الطبيعة..؟
ج11- أ. علي محمد اليوسف: الفهم الذي نجده منسجما وأكثر وضوحا في تأكيد وجهة نظر سانتيانا أن كل ما يتناول الطبيعة بالفهم العقلي أو غيره ميتافيزيقيا يشكل بالنتيجة إضافة نوعية للطبيعة, والطبيعة لا تحدد وسائل إدراكها ذاتيا كوجود جوهري ثابت, أن القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة لم يكن الوعي والعقل بها يمّثلان وظائف الطبيعة في علاقتها بالإنسان وحياته...فوظيفة العقل والوعي بالطبيعة لا تلزم الطبيعة اعتبارهما وظائف لها, وإنما من حيث لا تعي الطبيعة أن الوعي والعقل يشكلان جوهرا معرفيا أضافيا في فهم الإنسان للطبيعة... بمعنى العقل والوعي هما إضافة نوعية للطبيعة من دونهما تفقد الطبيعة أهم مقوّم تقوم عليه في تعالقهما الجدلي مع الإنسان.. ويصبح من عدم المشكوك به ترجيح تساؤلنا بماذا يمكننا أن نعزو توظيف الطبيعة للعقل والوعي بمعرفة ماذا غير معرفتها هي؟ الطبيعة هي مبتدأ الحياة ومنتهاها وجوهرها الوجود الإنساني... والعقل لا يصنع الطبيعة بل أهميته السعي لفهمها والإفادة منها.
س12- أ. مراد غريبي: هل تجد بالفلسفة الأمريكية الذرائعية اهتماما لها بالأخلاق علما أننا في عدة مرات وجدنا تداخلات ميتافيزيقية لاهوتية صرفة ناقشها وليم جيمس في وسطية معتدلة بين الإيمان والإلحاد فماذا عن الأخلاق؟
ج12- أ. علي محمد اليوسف: من المهم تأكيد أن كل تفكير فردي يجده الإنسان يحقق ذاتيته بالشكل الفاعل السليم إنما يكون مصدره الحقيقي هو المجتمع، فالمجتمع يخلق الذاتية ويمنحها قيمتها ومن غير حضور المجتمع لا يمكن للإنسان الفرد تكوين وعيه الذاتي بصورة صحيحة, ذاتية الإنسان تمنحه التأثير التكيّفي مع المجتمع بما يحقق لكليهما التاثير المتبادل بالآخر..ففي الوقت الذي يجد فيه الإنسان الفرد أنه يبني قيمه الأخلاقية الخاصة به يكون بنفس الوقت يقيم الأسس الأخلاقية الصحيحة لمجتمعه والجدل بينهما قائم على الدوام بما يطوّر الفرد والمجتمع معا.
وتفكير الإنسان في مجمل نواحي الحياة من ضمنها القيم الأخلاقية، إنما تتطور نحو الأفضل بقدر الإسهام المتبادل بين الفرد والمجتمع في تكيّفهما المتبادل وسعيهما إقامة النظم الأخلاقية الجيدة.. والفكر فردي من ناحية تخليقه لكن قيمته هي في مدى تشكيل مجتمعيته..
وأخلاق الضمير الانسانية المجتمعية لا تستمد حضورها من إملاءات خارجية كقوانين وضعية جاهزة تفرض فرضا قسريا، وإنما الطبيعي فيها أن تكون من صنع الأفراد والمجتمع معا الحصول عليها كنظام تنظيمي مجتمعي في استحضارها تحت إلحاح ضرورة بناء الحياة الأفضل..
والفلسفة الذرائعية إنما تقيم مفهومها الأخلاقي فلسفيا على أساس من الوضع الطبيعي للإنسان مجتمعيا على أنه ( الإنسان ليس حيوانا اجتماعيا وحسب, لكن من دون المجتمع لم يكن له أبدا أن يكون, ويجب على الكائن الحي للبقاء على قيد الحياة أن يكون في تواصل مع بيئته, والفرد لا يكتسب خاصيته الانفرادية إلا من خلال التنظيم الاجتماعي).
ويرى الفيلسوف الأمريكي الذرائعي هربرت ميد (1863 – 1931) أنه في ظل إعادة البناء المتواصل للمجتمع تسكن الأخلاق, لأن الإنسان يجب أن يقيم وزنا لمنفعة المجتمع بعيدا عن الميل الأناني الانفرادي الغريزي... والمجتمع بحسب ميد لا يصبح أخلاقيا بسبب أن الإنسان هو نتاجا اجتماعي وحسب..بل لأن الإنسان له تأثير دائمي مباشر في مجتمعه., ونجد تمسّك الذرائعية كبيرا في تأكيدها على أن الضمير الأخلاقي الفردي عامل مهم في بناء أخلاقيات المجتمع التي تمنح الإنسان امتلاءه الذاتي في حقيقة الإسهام ببناء المجتمع...كما نجد تأكيد أهمية حضور منفعة المجتمع قبل تفكير وهدف تحقق مصالح الفرد, لكنها لا تلغي فردية الفرد التي تعتبر إشباع حاجاتها الضرورية حق مكتسب للفرد من خلال تكيّف مجتمعي متماسك يعطي موازنة منصفة بين إشباع حاجات الفرد وإشباع حاجات المجتمع في تكامل لا يلغي المفاضلة بين الاثنين من حيث أن الإشباع الاستهلاكي عند الإنسان الفرد يتسم بالأنانية الانفرادية على الدوام وهذه الأنانية الفردية في الإشباع لا يقلل جموحها الاندفاعي إلا المجتمع الذي يصهر كل تلك النزعات الانفرادية في نزعة مجتمعية تحقيق المنفعة.
س13- أ. مراد غريبي: ك.أ. لويس(1883 – 1964) فيلسوف أمريكي يمّثل الجيل المتأخر للفلاسفة الذرائعيين وهو امتداد لأفكار بيرس و ديوي، ومتخصص ذرائعيا في نقد المنطق الرياضي عند بيرتراند رسل، ويرى أنه في المنطق يتوجب التسليم أن (الماقبلي) مستقل عن التجربة في إثباته كمعطى لا يحتاج التثبت منه لمعرفة (المابعدي) في تعالقهما، ماذا لويس يقصد بهذا؟
ج13- أ. علي محمد اليوسف: في الوقوف على أبرز مقولات لويس في هذا المجال :
- الوعي المباشر ليس معرفة مباشرة ولا وجود لمعرفة مباشرة.
- معرفة الموضوعات ممكنة فقط بفضل معرفة قضايا المعرفة القطعية الماقبلية.
- الإعداد الماقبلي لتصورات مجردة كليّا لا تثير صعوبة لأنها لا تقيم أية علاقة مع المعطى الذي يوضح لنا طبيعة المعرفة الماقبلية التي هي تسلسل ضروري لقضايا شاملة ..
إن الوعي المباشر لا يمنحنا معرفة مباشرة , هي مسألة يمكننا حسمها بالإحالة إلى علاقة الوعي بالعقل من حيث تراتبيتهما التفاضلية في المعرفة والإدراك, فالوعي لا ينوب عن العقل في معرفة الاشياء, والوعي بالشيء هو مرحلة بدئية في مدرج المعرفة الكاملة له..لكن من غير تعالق الوعي بوظيفة العقل الإدراكية فان الوعي والعقل كلاهما يكونان بلا معنى خارج المدركات للأشياء والعالم والحياة. أي لا يمكننا تصور وعيا سليما مقبولا من غير تعالقه بالعقل, والعكس صحيح أيضا....لا يمكننا التطرق الى وعي من غير تعالقه بالعقل كما لا يمكننا التحدث عن إدراك عقلي لا يتواشج تداخليا مع الوعي..
ولتوضيح النقطتين الثانية والثالثة عند لويس فهي تقوم على منطق حدسي بوجوب التسليم المسبق بأن الماقبلي يكون هو مصدر بناءاتنا المعرفية في اللامابعدي على أن الماقبلي هو حقيقة لا تخضع لتجربة استدلال معرفي في بناء المابعدي معرفيا عليها..ويصف لويس الماقبلي بأنه مستقل عن التجربة وعلينا التسليم أن الماقبلي هو صحيح على الدوام.
والماقبلي بحسب لويس ليس مشكلة فهو يمنحنا تصورات ما بعدية معرفية ضمن تسلسل منطقي فقط، و المابعدي لا تربطه أية علاقة تأثير غير الاستدلال مع الماقبلي... بمعنى توضيحي أننا لا نستطيع بناء منظومات معرفية ما بعدية من غير اعتمادنا الماقبلي الذي ترتبط به استدلاليا فقط وليس تأثيريا متبادلا, الماقبلي المنطقي هنا لا يمتلك أية صفة اقتدارية تمّكنه من صياغة كيف يجب أن تكون المعارف المابعدية عليه.. لكن جميع معارف المابعدية تقوم على الإقرار المسّبق بالماقبلي كضرورة منطقية في تسلسل معرفي.....
س14- أ. مراد غريبي: ما هو توضيحكم لوجهة نظر وليم جيمس حول مصطلح ( القيمة النقدية ) على صعيد إثبات صحة وصواب الأفكار براجماتيا؟
ج14- أ. علي محمد اليوسف: وليم جيمس فيلسوف أوصل البراجماتية إلى أعلى مراتب التفكير, وليم جيمس يمكننا إطلاق عليه لقب موسوعة الفلسفة البراجماتية في تناوله بغزارة كل ما تغاضى عنه وأهمله رائدي البراجماتية الذين سبقوه تشارلز بيرس وجون ديوي. كما نجده أعطى توضيحا لعدد من المسائل التي طرحوها سابقيه وأثارت جدلا فلسفيا.
جيمس لم يخرج على الأسس الصلبة التي قامت عليها البراجماتية لكنه لم يحدد تفكيره النصي الحرفي الالتزام غير المرن بها. فهو مثلا لم يأت بجديد عن سابقيه قوله الأفكار تجد مصداقيتها الحقيقية في تحقيقها المنفعة لنا بالحياة. دليل ذلك نص تعبيره الحرفي" الاعتقاد يكون صحيحا في حال ثبت انه يعمل لصالحنا جميعا ويوجهنا بسرعة نحو عالم نبتغيه.
على هذا الأساس لم يتنكر للشذرات الفلسفية التي قال بها سلفه بيرس حول عدم التحفظ عن تناول الأفكار الميتافيزيقية بضمنها اللاهوت المسيحي, وقضية الجدل حول الخالق. فهو عمد إلى مهادنة تفيد حسب تعبيراته إن لاهوت الأديان طبعا يقصد المسيحية بالدرجة الأساس لها تأثير كبير في حياة الناس بما يفيدهم وينفعهم, لذا لا يمكن التنكر لها وإسقاط حضورها المجتمعي بين الناس. واعتبرها أفكار تصحيحية مشروطة بمدى زمني محدد ربما بعدها يصبح التشكيك في منفعتها واردا.
لكن كيف عمد وليم جيمس وضع معيار نقدي بموجبه يتم فرز صوابية الأفكار عن زيفها؟ يجيب جيمس حين يؤدي اتفاق الحقائق مع الواقع إلى نتائج مفيدة فان هذا الاتفاق يكون صحيحا في حال تلبيته الشروط الثلاث التالية:
- ما يوجد في الحقائق موجود في الواقع. (طبعا لم يوضح ما المقصود بالحقائق).
- انسجام العلاقات والأفكار.(لم يوضح أي العلاقات يقصد العلاقات المادية أم المجتمعية؟).
- يجب أن تتكامل الحقائق الجديدة مع الحقائق القديمة .
الملاحظ مدى تمسك وليم جيمس بالواقع الذي يتحاشى التعبير الماركسي المادي له. وبذلك لا يغادر الأرضية البراجماتية الصلبة الراسخة انه لا قيمة حقيقية للأفكار إلا من خلال مطابقتها بالتجربة العملانية حقائق الواقع. – طبعا هذا التعبير يحتمل مناقشة طويلة عريضة لا مجال لها هنا – كي تكتسب الأفكار صلاحيتها التطبيقية في خدمة الحياة. وفي حال التقاطع بين الواقع والفكر فالبراجماتية تأخذ ترجيح الواقع على الفكر. (منهج مادي مفصح عنه بتلاعب الألفاظ).
أما عن الشرط الثالث الذي وضعه جيمس في تكامل الحقائق الجديدة مع القديمة, فأمر مشكوك به أن يأخذ مداه التطبيقي الصحيح. وتحقيق المنفعة البراجماتية.
كل جديد يحتاج برهان تحققه الاثباتي ليس بمعيار التكامل مع القديم, بل بالمعيار البراجماتي نفسه بتجربة التحقق. اذ لكل قديم ولكل جديد ظروف موضوعية وذاتية مختلفة, لذا تكون دعوة التكامل بينهما متعذرا حصولها, ولا يعني هذا انعدام فرص تأثير القديم بالجديد.
س15- أ. مراد غريبي: حاول بيرس بعبارة فلسفية غامضة صعبة الفهم مفادها " لا توجد قوة حدس في معنى إدراكي معين غير مشترط بالاستدلال, وكذلك لا توجد قوة تأمل بديهية أو غير ذلك في معنى الإدراك, وان وعي العالم الداخلي يأتي عن طريق الاستدلال الافتراضي من الوقائع الخارجية ." ماذا ترى بذلك رغم صعوبة السؤال؟
ج15- أ. علي محمد اليوسف: قبل الإجابة عن هذا السؤال ارغب تثبيت ما يلي:
ضرورة تجزئة السؤال إلى ثلاثة أسئلة متفرعة عنها متداخلة معها.
- وجوب التفريق بين الإدراك هو غير الوعي,
- إدراك الشيء هو الحصول على انطباعات أولية يقوم تخزينها الذهن قبل انتقالها إلى الدماغ عبر شبكة الجهاز العصبي.
- الحدس ضرب من اليقين الخاطف الذي يكون استقباله اليقيني لا يحتاج إلى براهين عقلية, وهو اقرب للبديهيات منه للادراكات الحسيّة الانطباعية.
بدءا قول بيرس " لا توجد قوة حدس في معنى إدراكي غير مشروط بالاستدلال ". هو ربط الحدس بمشروطية الاستدلال عليه بإثبات يجعل منه تجربة حسية, والحدس ليس تجربة تخضع لمشروطية الاستدلال عليها ببرهان. الحدس ضربة من التفكير الإلهامي الذي لا يحتاج استدلال في تأكيد مصداقيته للعقل. وهذا لا ينفي عن الحدس إمكانية ملازمة الخطأ فيه.
الحدوسات العقلية حسب مصطلح الفلاسفة هو ما يرقى إلى مرتبة اليقين البديهي الذي لا يمكن للعقل إعطاء دلالة إثباته.. ومن حق بيرس التشكيك بعدم وجود بديهيات عقلية مصدرها الحدس.
شرط الاستدلال الذي يؤكد موثوقية الحدس لا يكتفي بحصوله على أن يكون إدراكا لا يدخل ضمن علاقات سببية أو علاقات تكامل معرفية تؤكد مصداقيته. معنى الإدراك لدى بيرس هو مرادف معنى (وعي). عليه المعنى الإدراكي لا يكون وعيا في توفر شرط الاستدلال لتأكيده وليس للوعي به. وتوضيح هذه العبارة تأتي لاحقا.
أما اجتزائنا الثاني " لا توجد قوة تأمل أو بديهية أو غير ذلك في معنى الإدراك."
أجد في العبارة أن معنى الإدراك لا يوجد بالذهن, كما ولا يوجد انطباعات تصدرها المدركات من الاشياء وتكون مسلمات بديهية لمجرد أن الإحساسات الصادرة عنها تكون مقبولة ذهنيا كانطباعات إدراكية أولية.
الشيء المهم الذي أراه واجب الانتباه له جيدا هو ليس الانطباعات هي أفكار العقل بل هي إحساسات الحواس الصادرة عن مصادرها الاشياء التي تدركها الحواس قبل بت العقل بها.
أما عبارته التي نجتزئها الأخيرة فهي " وعي عالم داخلي معين يأتي عن طريق الاستدلال الافتراضي من الوقائع الخارجية".
التباس وغموض التعبير يجعل من تفسيره مغامرة غير محسوبة النتائج بضوء:
- كم عالما داخليا يأتي نتيجة الاستدلال الافتراضي من الوقائع الخارجية؟ عالمنا الداخلي هو عالم واحد يتكون نتيجة الأحاسيس التي تصدرها أجهزة الجسم الوظائفية الداخلية وليس الوقائع الافتراضية الخارجية.
- كيف تكون الوقائع افتراضات؟ وهي وقائع مادية موجودة باستقلالية في العالم الخارجي المحيط بنا. الافتراض يكون مصدره الخيالات الذهنية التي مصدرها ليس خارجيا بل داخليا أيضا.
العالم الداخلي تصنيع ذاتي بقوى انفرادية لا علاقة لها تربطها بوقائع عالم خارجي افتراضية. الأحاسيس والاستشعارات التي تصدرها أجهزة جسم الإنسان داخليا هي التي تصنع عوالم نفسية , سلوكية, توعوية, بعضها يكون لإشباع غرائز الإنسان وبعضها الآخر يكون خبرة معرفية لفهم الواقع الخارجي والتأثير المتخارج معه. مثل اللغة التواصلية, الوعي القصدي، السلوك المجتمعي وغيرها.
انتهى الجزء الثالث و يتبع