في هذا المحور الأخير من حلقات حوارنا مع الباحث الفلسفي المفكر الأستاذ علي محمد اليوسف، الذي يتضمن تداخل التيارات الفلسفية الأمريكية المعاصرة مع بعضها البعض, علاقتها بالفلسفة البراجماتية الأمريكية كمحور دوران التيارات الفلسفية الجديدة.
س1- أ. مراد غريبي: نود استعراض الفرشة الأرضية الفلسفية التي قامت عليها تيارات التجديد في الفلسفة الأمريكية قبل تركيزنا المنفرد على تيار (الفلسفة النقدية ) وابرز فلاسفتها ومختلف اتجاهاتهم الفكرية.ج1- أ. علي محمد اليوسف : بدأت الفلسفة الذرائعية الأمريكية ( (Progmatisim نهايات القرن التاسع عشر 1878 وبدايات القرن العشرين على يد روادها الثلاث: ريشاردز بيرس، وليم جيمس, جون ديوي. ثم تلاها بعد عقد من الزمن بدايات القرن العشرين تيار فلسفي جديد يحمل اسم الفلسفة الواقعية الجديدة على يد أبرز فلاسفتها: رالف بارتون، ادوينهولت.ب.مونتاغ، مارفين,غ.سبادلينغ وآخرين. ثم تلاها في تزامن نفس العقد تيار فلسفي أطلق فلاسفته تسمية الفلسفة (النقدية) الأمريكية التي لم تخرج عن الفلسفة الذرائعية الأم في مرتكزاتها القارة البراجماتية التي تقوم على مبدأ لا أهمية للأفكار والنظريات ما لم تعبر تلك النظريات حاجز الفلترة التجريبية في التطبيق النفعي ومن أبرز فلاسفة النقدية الأمريكية: ديزان دراك، آرثر لوفجري، جورج سانتيانا، ولوفيدسيلارز، ريتشارد رورتي, وجون سيرل وغيرهم..الذين اتخذوا منفردين فيما بعد مناحي فلسفية مختلفة في التعبير عن رؤاهم خارج وحدتهم البدئية ضمن تيار الفلسفة النقدية التي جمعتهم أولا..
هذان التياران الفلسفيان -الواقعية الجديدة والفلسفة النقدية- كما يتوّضح معنا لاحقا لم يكونا يحملان جديدا جوهريا يتجاوز المنطلقات الذرائعية القارة في خطوطها العامة التي أرساها الثلاثي ريشاردز بيرس, وليم جيمس, وجون ديوي, لذا فالفلسفة النقدية التي تزامنت مع الواقعية الجديدة اللتين كلتاهما خرجتا من رحم البراجماتية كفلسفة أم، لم تجتهدا فلسفيا أكثر من كتابة حواشي هامشية نعرض بعضها والتي هي كما ذكرنا تماشي الذرائعية تماما مع فارق النقد الهامشي للذرائعية والتلاعب اللغوي الفلسفي بمصطلحات عرضية متداخلة معها... ومن المهم التنبيه أن فلاسفة النقدية أبرزهم: سانتيانا, سلارز, رورتي, وسيرل.. سلكوا منفردين طرقا متباينة في تعبير كل منهم عن فلسفته الخاصة وأصبحوا في تفردهم الفلسفي خارجين عن بداياتهم الفلسفية النقدية مشّكلين تيارا فلسفيا مجددا أطلقوا عليه ما بعد التحليلية الذي يقوم على خلفية أفكار التحليلية الانكليزية وفينجشتين وعلوم اللسانيات وفلسفة اللغة التي دبت الخلافات بين أقطابها: برتراند راسل, جورج مور, كارناب, وايتهيد وسميت حلقة اكسفورد. كما هي في البنيوية والتفكيكية التي وجدت مرتعا فلسفيا لها في الولايات المتحدة الأمريكية لفترة من الوقت بعد أن هاجر إليها فترة من الوقت بول ريكور, وجاك دريدا ثم عودتهما الاستقرار في فرنسا...
س2- أ. مراد غريبي : إذن دعنا نأخذ بداية الواقعية الجديدة, متى نشأت؟ ومن هم ابرز فلاسفتها وماهي رؤاهم الفلسفية؟
ج2- أ. علي محمد اليوسف : في العام 1912 نشر عدد من فلاسفة الواقعية الجديدة الأمريكان الذين ذكرنا أسماءهم سابقا في الإجابة عن السؤال الأول كتابا مشتركا ضّمنوه أفكارهم الفلسفية التي لا تتقاطع مع الخطوط العامة والمنطلقات الجوهرية الراكزة في الفلسفة الذرائعية الأم وكان الكتاب بعنوان: الواقعية الجديدة: دراسات مشتركة في الفلسفة
The new realisim:co-operative studies in philosophy
ومن ضمن محتويات الكتاب المذكور نقاط عديدة اخترنا بعضا منها في عرضها والتعليق عليها:
- فلسفة المعرفة ليست أساسية من الناحية المنطقية ولا يمكن استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة, ولا ترتبط الميتافيزيقا بالمعرفة.
هذا التبشير الفلسفي الأميركي الواقعي بأن(المعرفة) مبحث الابستمولوجيا لم تعد مبحثا أساسيا في الفلسفة الغربية عموما والفلسفة الأمريكية تحديدا, كان تبّناه فيما بعد بشدة فلاسفة علم نفس وتحليليين لغوين من المتعاطفين مع طروحات التحليلية اللغوية في القرن العشرين التي سادت فرنسا وألمانيا وانجلترا, بما جاءت به فلسفتا البنيوية والتفكيكية الفرنسيتين والتحليلية الانجليزية مدرسة اكسفورد جورج مور و برتراند راسل, و وايت هيد وأخيرا انضم لهم فينجشتين وكارناب, وظل الألمان مدرسة تمتلك عراقة فلسفية تاريخية لا يجاريها سوى فلاسفة الإغريق والعصر الهلنستي القدماء تتزعمها بعض دول اوربا الغربية مثل النمسا والدول الاسكندينافية.. والتي شكلت ما يعرف بحلقة فيّنا التحليلية أبرزهم فينجشتاين وكارناب اللذين التحقا فيما بعد بحلقة اكسفورد في انجلترا.
وكان أشهر الفلاسفة الاميركان الذين اهتموا بدراسة اللسانيات وفلسفة علم اللغة هم فلاسفة تيار النقدية سيلارز وسيرل و رورتي وصولا إلى نعوم جومسكي بتفرده المعهود عنهم, وليس من بينهم فلاسفة الواقعية الجديدة الذين سبقوهم..
فلاسفة النقدية الأمريكية ذهبوا بعيدا جدا في استهدافهم مبحث الابستمولوجيا في تأكيد مناوئ لفلاسفة الواقعية السابقين عليهم من الذين تماشوا مع منطلقات علم النفس التجريبي والنزعة العلمية بأن المعرفة لا تربطها صلة حقيقية بالميتافيزيقا, فعمد سيرل, رورتي, و سلارز فلاسفة النقدية بالضد منهم, إلى التنظير الفلسفي المضاد بأن الابستمولوجيا هي مبحث ميتافيزيقي وداء مرضي أصاب العديد من الفلاسفة منذ قرون طويلة في اعتبارهم مبحث الابستمولوجيا هو أحد ثلاثة مباحث شغلت الفلاسفة منذ ما قبل التاريخ الفلسفي حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد...وحان الوقت إلى ركنها بالظل كونها ميتافيزيقا لا جدوى من الاهتمام بها.
والابستومولوجيا كما ذكرنا مبحثا هاما في الفلسفة كان الاعتقاد وعلى امتداد قرون طويلة يرى أن مبحث الابستمولوجيا قد يكون أقرب إلى التفكير والمنهج العلمي منه إلى أفكار الميتافيزيقا, ولا تربطه بالميتافيزيقا رابطة... وهو ما هاجمه رورتي بضراوة معتبرا الابستمولوجيا مبحثا ميتافيزيقيا لا جدوى من الاستمرار به, وقد آن الآوان شفاء الفلاسفة من مرضهم المزمن به.. ..وكان رورتي معتّدا بثقة مطلقة في إسناد المؤيدين له بشدة بهذا الطرح كلا من سيلارز وسيرل و كارناب.. ما مهد لهم تشكيل تيار فلسفي عرف بـ: ما بعد التحليلية الأمريكية في الهجوم الشديد على الابستمولوجيا كونها مبحثا في الميتافيزيقا في استقلالية تامة عن تحليلية راسل الانجليزية التي تفككت.
س3- أ. مراد غريبي: هل تعتبر مقولة فلاسفة الواقعية الجديدة "عدم إمكانية استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة" فتحا غير مسبوق يحسب لها؟
ج3- أ. علي محمد اليوسف: إن فلاسفة الواقعية الجديدة طرحوا عدم إمكانية استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة على اعتبار أن طبيعة الواقع لا يمكن معرفتها على حقيقتها بالأفكار المجردة محاولين عدم الخروج عن الخطوط العامة العريضة للفلسفة الذرائعية التجريبية العملية ذات الهيمنة والنفوذ القوي في أروقة الجامعات ومراكز البحوث العلمية والفلسفية الأمريكية.. في مرتكزها الافكار لا تصنع الواقع من دون تجربة تطبيقية تؤكد صحة نجاحها.
وهم بهذا الطرح لم يأتوا بجديد يتجاوز طروحات الفلسفة الذرائعية في العمق..كون الذرائعية الفلسفة الأم تؤكد قبلهم حقيقة أنه ليس كافيا محاكمة صحة الافكار المعرفية بقدر تعبيراتها الفكرية التنظيرية القاصرة عن الإلمام بالواقع ومعرفته على حقيقته من دون تحقق تجريبي تطبيقي, والواقع الحقيقي لا يمكننا معرفته بالأفكار المجردة والنظريات, بل نستخلص معرفتنا وفهمنا لظواهر وتجليات العالم بما يفيدنا في نتائج وضع الافكار والنظريات تحت مرشّح التجربة وفلترتها في إمكانية تزويدنا بنتائج يمكن أن تأخذ مجالها التطبيقي النافع بالحياة..
س4- أ. مراد غريبي : هل كانت إشكالية الوعي لها نصيب في الفلسفة الواقعية الأمريكية الجديدة ؟
ج4- أ. علي محمد اليوسف : اعتبرت الواقعية الأمريكية الجديدة العلاقات الخارجية هي جواهر أو كليات موجودة, ولا تبعية للوعي لها, والتي لا يمكننا ملاحظتها تجريبيا, فالمعادلة الحسابية 5+7= 12، إنما تمثل طبيعة الأرقام وليس طبيعة الوعي بها. صحيح أن العلاقات الخارجية التي تحكم الموجودات هي تجليات فيزيائية متغيّرة على الدوام وليست موضوعات مادية ثابتة أو كليّات علائقية موجودة بمعزل عن الوعي بها وإدراكنا لها, إلا أنه ليس كل تلك العلاقات هي من نوع الحقائق التي تمنحنا المعرفة بها دونما وعي نقدي يستقبلها من قبلنا.
ومن الواضح أن الفلسفة الواقعية الجديدة أنما تريد التسليم بيقين لا يحتاج إلى تجربة أو برهان أن العلاقات بين الاشياء خارجيا أو العلاقات داخل الظاهرة القائمة بذاتها تمنحنا اليقين التسليمي بها حالها حال المعادلات الرياضية التي لا نحتاج الوعي التجريبي دوما للتدليل على صدقيتها بحكم تداوليتها غير المشكوك رياضيا علميا بها.. والتي يكون الوعي النقدي أمامها محايدا أن لم يكن وكأن الأمر لا يعنيه.. فالبديهية الرياضية المتحقق من برهانها لا تصبح خاطئة بالتقادم الزمني عليها خلافا لحقائق العلوم الطبيعية والإنسانية فهي نسبية الحقيقة في تقادم الزمن عليها.
لكن من المهم الإقرار أن بعض العلاقات الخارجية لحقيقة ما أو موضوع حسّي لا تحتاج منا صرف انتباه الوعي لتأكيد صدقيتها فهي تحمل يقينيتها في القبول والتسليم بحكم رسوخ الثقة العلمية الناجزة بها تداوليا التي لا تحتاج برهان كما في تسليمنا الثابت بمثال المعادلة الرياضية التي لا يمكن تغيير حقيقتها بعد ألف سنة أن 4+ 3 = 7.. لكن ليس كل تلك العلاقات التي تكون جوهرا متحققا كمعطى جاهز لنا حاله كما ذكرنا حال المعادلات الرياضية التي لا تحتاج الوعي البرهاني لأنها بحكم الاعتماد العلمي الرياضي التداولي القار الثابت لها أصبحت حقيقة يقينية قائمة تحمل صدقيتها البائنة لنا كمسلمة لا مجال الشك بها.. لذا من المحتّم علينا الأخذ بالنسبة لغير الحقائق الرياضية في العلاقات الفيزيائية التي تحكم الكثير من الظواهر والموجودات منطق الوعي النقدي منهجا, وليس منطق التسليم بها كجواهر ومعطيات لا تحتاج الوعي النقدي لها..فالحياة في جميع أفصاحاتها الانطولوجية والعلمية والمعرفية ليست جميعها صحتها وتحقق معرفتها مرهونة بمسّلمة التسليم بمنهج المعادلات الرياضية التي هي رموز مجردة لا علاقة ترابطية لها مع السيرورات النسقية بالحياة المعرضة دوما إلى تدخل إرادة التصحيح عليها، واعتبارها المعيار العلمي الوحيد في فهمنا العالم... فليست جميع معارفنا عن الحياة والطبيعة هي من نوع التعبير الرياضي عنها وما لا يقبل ذلك لا يكون صحيحا !!
فحقائق الحياة التي لا حصر لها لا تكون معرفتها علمية خالصة عندما تقتصر معياريتها هي مقارنتها بالمنهج الرياضي كمعادلات تحكم علم الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء والفضاء وغيرها..فالحياة لا تقوم على معادلات رياضية وأرقام مجردة فقط حتى لو كانت وثوقيتها العلمية مطلقة في اعتمادها والتسليم بثباتها البرهاني العلمي في التقادم الزمني عليها.
والشيء الآخر الجدير بالاهتمام هو أن ليس كل العلاقات الخارجية الفيزيائية التي تحكم الوجود والعالم من حولنا هي تجارب يقينية من نوع المعادلات الرياضية التي اكتسبت اليقينية القطعية في تسليم الأخذ بها..فعلاقات مواضيع المعرفة في مجالات لا حصر لها في الحياة والطبيعة هي ليست علاقات فيزيائية اكتسبت صحتها الثبوتية المطلقة بمنطق رياضي ولم تعد بحاجة إدراك الوعي النقدي تناولها.. ففي الحياة مجالات لا تخضع للبرهنة الرياضية أكثر بكثير مما تخضع لإثباته رياضيا..
س5- أ. مراد غريبي : طرحت الواقعية الجديدة الأمريكية :( حضورية المعرفة, فالمعرفة بوصفها علاقة لها مكانها في نظام الطبيعة, وبالتالي يكون كل موضوع هو حاضر بشكل مباشر في الوعي, بعبارة أخرى أن الفرق بين ذات الوعي وموضوع الوعي (المعرفة) ليس فرقا بالكيفية أو في الجوهر بل فرقا بالدور, أو في الموقع, أو في التشّكل). كيف تنظرون لهذا الإشكال التداخلي فلسفيا؟
ج5- أ. علي محمد اليوسف : المعرفة كموجودات وعلاقات لها حضورها الدائم في نظام الطبيعة, وبالتالي (لا) يكون كل موضوع الذي هو مجمل علاقاته الفيزيائية الداخلية والخارجية معا حاضرا بشكل مباشر في الوعي, فالوعي لا يستبق موضوعه وجودا معرفيا في تمثّله الإدراكي للأشياء... كما أن مواضيع الإدراك التي تحكمها علاقات فيزيائية متغيّرة هي ليست مواضيع الوعي بها (قبليا) يشبه وعيها الذهني العقلي بها (بعديا)...
بمعنى أن موضوع الوعي في وجوده المستقل عن الوعي به, لا يكون هو الموضوع نفسه بعد تناول الوعي القصدي العقلي له بالتغيير...والفرق بين (ذات الوعي )و(موضوع الوعي) هي خلاف ما تدّعيه الواقعية الجديدة الأمريكية هو فرق قائم على الدور أو الموقع أو التشكل وليس قائما على الجوهر ولا الكيفية أيضا...
إن هذا يشبه إمكانية فصل العقل عن تفكيره بموضوعه وكلاهما العقل وموضوعه المفكر به جوهرا واحدا وليس كيفيتي إدراك مختلفة متباينة يمكن الفصل والتفريق بينهما.. ذات الوعي هو خاصية إنسانية، بينما موضوع الوعي لا يكون كذلك. فهما جوهرين مختلفين تماما بالماهية والصفات.
وعملية الافتراض التفريقي الفلسفي بين الوعي وموضوعه قائمة صحيحة, كون الأصح منها أن ذات الوعي كادراك عقلي تتطابق أغلب الأحيان مع موضوع الوعي لكن تلك المطابقة لا تحمل (معرفة) كافية عن حقيقة تلك المدركات, وعندها يصبح الوعي المتموضع هو موضوعه ولا فرق بينهما، الوعي علاقات مفارقة تحمل ذاتيتها وخصائصها المفارقة عن موضوعها.. كما وليس في الإمكانية عزل علاقة الوعي بموضوعه المستقل بالعالم الخارجي.. والدور الذي يلعبه الوعي الذاتي يختلف عن موضوع الوعي المادي, بمعنى الوعي فعالية نوعية من علاقات يتداخل بها الموضوع مع مرجعية الذهن بإمتياز لا يتساوى فيه الوعي بموضوعه بالدور بل في فرق الكيفية وفي فرق الجوهر أيضا... فوعي الموضوع هو تمّثلات ذهنية وانطباعات عقلية لموضوع مفارق في وجوده المستقل عن الوعي به..بمعنى موضوع الوعي محتوى (مادي أو خيالي) بينما الوعي هو تعبيرات وتصورات العقل عنها شكلا ومضمونا. موضوع الوعي وجود خارجي بينما الوعي هو فعالية عقلية داخلية ضمن منظومة إدراكية عقلية متكاملة في التعبير عن مواضيعها..
س6- أ. مراد غريبي : هل توجد فروقات تقوم عليها الواقعية الجديدة تبني تصوراتها الاختلافية على التفريق بين بعض منطلقات وليم جيمس عن كلا من جون ديوي وريشاردز بيرس؟
ج6- أ. علي محمد اليوسف : تقوم الواقعية الجديدة على التفريق بين ذرائعية وليم جيمس باعتبارها براجماتية (ذاتية- فردية) بخلاف كلا من ريشاردز بيرس وجون ديوي فعندهما الذرائعية فلسفة حياة مجتمعية ( عامة –سيسيولوجية ).. والسبب أن فردية فلسفة وليم جيمس مستمدة من خلفيته الفلسفية عالم في علم النفس قبل أن يكون فيلسوفا حيث بدأ أبحاثه العلمية فيها , بينما وضع ديوي ذرائعيته المجتمعية العامة من خلال اهتمامه المبكر في التركيز على مباحث التربية والسلوك المجتمعي والأخلاق وكذلك الفن, ووصف ديوي منهجه المجتمعي الفلسفي بإعتزاز قائلا :(أنه المنهج المنظور عن الذكاء الكامن في روح الجماعة الأمريكية )., بما جعل تلك الروح مجسدة إبداعيا في وحدة التكيّف المجتمعي الأمريكي المتجانس تقريبا لا تهتدي بفلسفات ونظريات سوسيولوجية في تحقيق مثل هذه الوحدة بالتكيّف المجتمعي الخلاق القائم على خاصية الذكاء الأمريكي كمجتمع منسجم متعايش وليس كأفراد فقط)..وهنا تكون خاصية الذكاء المجتمعية المتكيّفة أمريكيا، هي التي تصنع نظرياتها وليس العكس..وهو ما أفصح عنه ديوي بجلاء خيلائي..
من الإشكاليات الافتعالية التي طرحها فلاسفة الواقعية الجدد مثل بيري ( كيف يمكن لأشياء مستقلة أن تصبح مضمونا عقليا؟ وأن الواقع مادي وعقلي في آن واحد (حقل علاقات) فحين يعرف شيء ما فهو يدخل في علاقة مع العقل),ويطرح فيلسوف ثان واقعي جديد كيف (يكون الخطأ ممكنا, إذا ما كانت الفكرة والشيء واحدا) ويطرح ثالث (ليس للزمان والمكان وضعية وجودية نقر بها)...
وهذه الافكار بحاجة إلى مناقشة مستفيضة يضيق بها المجال.. لكننا في تعقيب سريع عليها نقول لمّا كان وجود الشيء مكانا لا يتم إدراكه إلا في تعالقه بإدراكه الزماني لذا يصبح كلا من المكان والزمان جوهران غير مدركان وجوديا حسيا وليسا محددان إدراكيا كموضوعين من الممكن إدراكهما بمنظومة العقل بل هما (وسيلتي) إدراك موحدة تعمل في تلازم مكاني وزماني مشترك ومتداخل..
لذا وجدنا كانط كي يخلص من إشكالية الزمان غير المادي الذي يدرك المادي في معرفته الاشياء يلجأ إلى حقيقة مثالية ابتدعها بذكاء أن الزمان والمكان معطيان فطريان داخل العقل وهما من مزاياه الجوهرية وليس لهما وجودا ماديا باعتبارهما(وسيلتي) إدراك للعقل وليسا موضوعين يدركهما العقل بذاتهما بل يحدسهما بنتائج مدركاتهما التي يزّودان العقل بها.. , والموجود مكانا لا يتحدد وجوده والوعي به ألا من خلال إدراكه زمانا..
س7- أ. مراد غريبي : من فلاسفة الواقعية النقدية الأمريكية هو مونتاغ الذي ينسب له مقولة (الموضوعات التي تظهر في أخطاء الحواس وفي حالات الهلوسة ليست سوى مجموعات قائمة من جواهر لا يمكن الاعتقاد بعد التفكير بها أنها موجودة في المكان ).. ما تعقيبكم أستاذ علي على ذلك؟
ج7- أ. علي محمد اليوسف : أخطاء الحواس المميزة عن حالات الهلوسة بما لا يمكن تفسير بداهته، هما في حال الجمع بينهما أخطاء الحواس زائدا التصورات الهلاوسية فكلاهما لا يمتلكان جوهرا أو جواهر مستقلة يهما و إلا كانت وجودات محددة ومحكومة بزمان ومكان إدراكي لها كمواضيع للفهم والمعرفة بهما..
وأخطاء الحواس إنما تقوم بالنسبة لمدركاتها الخادعة عن موجودات مادية لا تستطيع الإلمام الكامل بها, ولا يمكن أن تكون التصورات الذهنية للأشياء تعني الإلمام الكافي بها, أو بديلا واقعيا لها في وجودها الخارجي المستقل, التصورات الذهنية للواقع انطباعات وتمّثلات لا تأخذ حيزا مكانيا مثلما هو الحال مع مواضيع الوعي المادية المدركة, فالتصورات هي مجموعة العلاقات الفكرية المجردة عن الاشياء والمواضيع المادية, فالمادة هي حيّز مكاني- زماني تدركه الحواس بينما تكون الافكار والتصورات المعبّرة عنها تجريد معرفي فكري لا مكان يحده غير أدراك العقل له تجريدا زمانيا.
إن العلاقات التي تربط مكونات المعرفة ليست مادية موضوعية في وجودها المتعذر إدراكه أن يكون ماديا متعينا بحيّز مكاني, كما هو الوجود الذي ندركه الذي يحكم الاشياء المادية سواء في علاقاتها الخارجية أو علاقاتها الداخلية التكوينية لها..فالتصورات الانطباعية التمثّلية للأشياء المادية المحسوسة هي وعي في تفكير العقل زائدا له نتائج ذلك الوعي الصادر عنه, لذا فتصوراتنا هي نتاج العقل وليس نتاج المعطى الانطولوجي لمكوناته الإدراكية من الاشياء..فالتصورات هي تمثلات وعي الاشياء فقط وليس خلقها وجوديا مثاليا بالفكر..
س8- أ. مراد غريبي : برز تيار تحت مسمى الواقعية النقدية وريثا للواقعية الجديدة, كيف كان الترابط العلائقي بينهما؟
ج8- أ. علي محمد اليوسف: انبثقت الواقعية النقدية (critical realism) بعد مرور عقد واحد من الزمن على انبثاق الواقعية الجديدة (The new realism) في تداخل زمني تحقيبي واحد لا يتجاوز العقد الأول من القرن العشرين, كلتاهما ولدتا من رحم الفلسفة الذرائعية الأم، واعترف فلاسفة الواقعية النقدية أن من سبقوهم حاربوا النزعة المثالية التي كانت تحتويها الذرائعية في تنظيراتها الفكرية الفلسفية وفي ميادين غير الفلسفة من منظور علم النفس عند وليم جيمس ومنظور التربية والسيوسيولوجيا كما هي عند جون ديوي, وفي عام 1912 صدر كتاب مقالات في الواقعية النقدية (Essays in critical realism) ضم مقالات فلسفية نقدية لشبان منهم آرثر لوفجري, جورج سانتيانا, ولوفيدسيلارز وريتشارد رورتي. ومن جملة منطلقاتهم الفلسفية:
- أن المعرفة قصدية وليست حدسية, وجود أشياء فيزيائية غير معروفة بصفتها أشياء فيزيائية لكنها تتمظهر بأفعالها على الأعضاء الحسية, والعالم الحسّي يكون مؤكدا وليس مستنتجا, والعالم الفيزيائي هو أدراك حدسي داخلي من جهة، وإنطباعات حسّية تحدثها أشياء العالم الفيزيائي من جهة أخرى.
- الحدس يحيلنا على العالم الفيزيائي وأن ما نعرفه هو التمّثل المعياري للأشياء وليس الاشياء بذاتها, فالجوهر كله يكمن في التمّثل وليس في الاشياء, التي ليست سوى أشياء مادية.
وتوضيحنا لتلك الافكار بإيجاز قدر الإمكان فإن المعرفة حين تكون قصدية وليست حدسية هي مقولة صحيحة كما تذهب له الفلسفة النقدية فهي لا تخرج أن تكون المعرفة قائمة بذاتها كجوهر من العلاقات التي لا يمكن للحدس الإلمام بها تماما....وإنما يكون الوعي بها قصديا معرفيا تجريديا,ثم إن الاشياء وإن كانت في وجودها المادي تحتوي علاقاتها الفيزيائية الداخلية والخارجية المتغيرة على الدوام التي تعتمل بكينونة الاشياء في تغيراتها المستمرة الممكن التعامل معها إدراكا معرفيا..فهي أي الاشياء تبقى كينونات مستقلة موحدة تختلف أساليب أدراك علاقاتها الخارجية عن أدراك مجمل علاقاتها التكوينية داخليا..ولا تفقد حقيقة كينونتها التكوينية المؤلفة من (جوهر) و(صفات) في حالتي الحدس الإدراكي لها وفي حال معرفتها حسّيا..
وأن يكون العالم الحسّي علاقته بالأشياء فيزيائيا كظواهر دائمة التغير والتبدل والصيرورة المستمرة بعوامل لا علاقة تربطها بالوعي الحسّي المباشر لها لذا يكون هذا الوعي الحسّي دوره تأكيد تلك العلاقات في استقلاليتها, وليس في تمّثلها خالقا موجدا لها ولا مستنتجا أو متداخلا كعامل أو أكثر من عوامل التأثير بها في متغيراتها التي هي مجموعة انطباعات حدسية عنها.. ولا يمكن أن ينوب الفكر عن الواقع في ماديته إلا بوسيلة التصورات والتمّثلات الإدراكية له فقط..فالواقع مادة موجودة مستقلة غير معبّر عنها تمثلا إدراكيا، في حين الفكر تجريد تعبيري عاطل في غياب موضوعه (الواقع) الحسي والخيالي معا..
وحين تكون جواهر الاشياء هي علاقاتها الفيزيائية التي تحكمها, وتكون وسائل تعاملنا معها حدسية, فمن الطبيعي أن جواهر تلك الاشياء إنما تكون في وجودها المادي وليس في وجودها الحدسي كعلاقات خارجية, فالحدوسات ليست منهجا موثوقا منه في المعرفة يمكن الركون إلى سلامتها فهو ومضة ادراكات في غفلة من رقابة العقل الصارمة عليها..وإذا ما اعتمدنا الحدس تمّثلا معياريا في الذهن فهذا يؤكد لنا أن جواهر الاشياء تكون في وجودها المادي وليس بمحاولة الحدوسات معرفة حقيقتها بلا جدوى...
س9- أ. مراد غريبي : ظهر تيار فلسفي ينسب إلى جورج سانتيانا من أصل اسباني سمي المنهج الطبيعي في الفلسفة الواقعية النقدية الأمريكية. نريد معرفة سريعة عن المقصود بالمنهج الطبيعي؟
ج9- أ. علي محمد اليوسف: جورج سانتيانا (1863- 1952) فيلسوف أمريكي من أصول أسبانية, أتسمت آراؤه الفلسفية النقدية بالاستغلاق العميق في تعبيره عن المعرفة والعقل والطبيعة والإنسان والجوهر,ويشوب تفلسفه تعابير متطرفة وغريبة من حيث الغموض الذي يكتنفها كقوله (المعرفة هي وهم اليقين الحيواني).(1) وقوله أيضا: بأي معنى أنا موجود؟ الوجود لا ينتمي إلى مجرد معطى, وأنا لست معطى لذاتي .
انتظم سانتيانا مع فلاسفة النقدية سيلارز , رورتي, وسيرل, وآخرين عديدين في نقد آراء وليم جيمس في الذرائعية معتبرين( الاشياء ليست كما تقدمها التجارب لنا). وهو الطعن المباشر العميق في النيل من فلسفة وليم جيمس تحديدا أكثر منها استهداف بيرس وديوي، في تأكيد فلاسفة النقدية أن حقيقة الاشياء ليس نتيجة وثمرة التجربة, فالتجربة غير كافية لاستنتاج أهمية وصلاحية وصواب الافكار التطبيقية كما تذهب له ذرائعية وليم جيمس..
وفعلا فإن الاشياء في العالم الخارجي هي قطعا غير الاشياء المعبّر عنها بالتمّثلات الذهنية وتصورات العقل واختبارها في مصانع التجريب التطبيقي..ودائما ما تكون التجارب وغيرها من وسائل التعبير عن الاشياء في وجودها المادي عاجزة عن إيفاء تلك الاشياء حقيقتها الانطولوجية والماهوية، إن دلالة الاشياء في واقعيتها الحسّية قبل الإدراك المعرفي لها هي أكثر غنًى وحقيقةً وامتلاءا منها بعد تناولها في كل وسائل المعرفة الانسانية ومنها التجربة العلمية, ومثال ذلك هو الطبيعة في كل ما تحويه من مكونات في نسقها التنظيمي المعجز الذي تعجز عنه الوسائل المعرفية ليس في تقليد ذلك النظام وحسب وإنما في العجز عن مجاراته في الواقع الطبيعي للأشياء.. وكما يقول سانتيانا عن هذه الحقيقة ( أن يكون العقل عاجزا عن توجيه الطبيعة, فذلك نابع من تطور العقل بالذات كظاهرة مضافة على الطبيعة).
س10- أ. مراد غريبي : ما صحة مقولة فلاسفة النقدية الاميركان( الإدراك هو خلاص وليس قبضة )؟
ج10- أ. علي محمد اليوسف : كما وصف فلاسفة النقدية (الإدراك بأنه خلاص وليس قبضة) أي أنهم أرادوا أن يكون الإدراك الفكري التمّثلي للأشياء, أي معرفة مضامينها كمواضيع هي رفع حمولة وتحرير الإدراك من أسر وقبضة موضوعه.. والإدراك المعرفي لموضوعه ليس اكتشاف فكري – عقلي (قبضة) متحصّلة بل هو تحرير للفكر وتحرير الموضوع من حمولته في سطوة وهيمنة الإدراك العقلي عليه.. ..
ويشكك فلاسفة الواقعية النقدية بأن تكون التمّثلات تشي عن معرفة جوهر المدرك (الموضوع) في مقولتهم (كيف يكون الموضوع المعروف جوهرا لشيء غير معروف ؟). وفي هذا التشكيك نستشّف الإقرار الواضح أن معرفة موضوع ما لا يعني أدراك وجوده وجوهره الحقيقي ولا يصح الاستدلال به في معرفة جواهر مواضيع أخرى غيره... الموضوع المعروف لا يكون جوهرا لذاته ولا جوهرا لشيء غير معروف, بعبارة ثانية الافصاحات المعرفية حول جوهر الموضوع ليست كافية أن تمنح الاشياء المواضيع جواهرها الأخرى غير المعروفة .
كما طرحت الفلسفة النقدية جملة من التساؤلات التي أرادت من خلالها وضع الفلسفة الذرائعية في زاوية حرجة مثل (لا يوجد إطلاقا حقيقة عقلية لشيء بذاته, فالجوهر الموضوع هو الجوهر الكلي للموضوع ).وهذا تعبير فلسفي سليم من حيث أن حقيقة الوجود المادي لشيء أو أشياء لا تنقسم قسمة ابتذالية على ذاتها إلى صفات ظاهرية كلية وعلاقات فيزيائية من جهة يمكن إدراكها بمعزل عما يمكن أن تحمله وتحويه من جواهر ماهوية لا تدرك حسيا خفيّة مستترة خلف الصفات الكليّة للأشياء من جهة أخرى..
وجوهر الشيء أو ماهيته لا يدرك حسّيا مباشرا كما لا يدرك كموضوع غير مادي (خياليا) من الذاكرة في تمّثلات الذهن له..ولا يعني عدم الإدراك المباشر له الجزم القاطع أن الجواهر غير موجودة في الاشياء حال إدراكنا كليّات الاشياء في صفاتها الظاهرة.. فقد تكون معرفة الكليات هي معرفة استبطانية حدسية في معرفة جوهر الشيء المدرك في كليته, وقد يكون الأمر ليس كذلك فإدراك الكليات الصفاتية كاف لمعرفتها من دون جواهر تختزنها في ذاتها, إذ لا تكون الكليّات المدركة صفاتيا في غالبية الاشياء بمعنى آو آخر هي أدراك عرضي في معرفة جواهرها.. وهو ما تذهب له الفلسفات التي تنكر وجود الجواهر في ما يسمى الشيء (بذاته) وينكرون وجود شيء في ذاته, وأن معرفة الكليّات تغني عن لا جدوى البحث عن الجوهر ومعرفة الكليّات المادية حسّيا, ومعرفة كليات الاشياء المدركة كصفات خارجية هو كاف لمعرفة حقيقة الشيء وهذا ما تأخذ به الفلسفات المادية منها المادية الديالكتيكية الماركسية..
عبارة الفلسفة النقدية المار ذكرها تنكر وجود حقيقة عقلية لشيء في ذاته أطلاقا كما مرّ بنا, ولا يصبح من السهل معنا الجزم بصحة هذه المقولة, كونها مشروطة بتحفظ أن عدم أمكانية وقدرات العقل الوصول إلى الاشياء بذاتها في جواهرها ليس كافيا أن يمنحنا القطع الجازم بعدم وجودها وعدم حاجة التفتيش عن أشياء لا يدركها العقل حسيا ظاهراتيا, فما لا يدركه العقل غير موجود هي مقولة مثالية تحتاج إلى برهان وألا تكون سذاجة في التعبير لا معنى لها..
كما أن معرفة الكليات كعلاقات عند الفلاسفة النقديين تمثل تفويضا تعويضيا مقبولا في عجز العقل أمكانية فهم الاشياء بذاتها, لذا يكون معرفة الكليّات الصفاتية الفيزيائية التكوينية للأشياء هو معرفة الجواهر, وهي وجهة نظر لا ميتافيزيقية ولا مثالية بل تأخذ بها الفلسفات المادية كما كنا أشرنا له سابقا.. رغم أنها وجهة نظر تحمل علامة استفهامها معها بأن معرفة كليات الاشياء وعلاقاتها التكوينية الداخلية والخارجية منها لا يعني القطع الجازم بعدم وجود شيء يحمل جوهرا ماهويا الذي هو الشيء بذاته يستبطنها..
أقول لك أستاذ غريبي، من خلال تجربتي المتواضعة وجدت الحسم متأثرا بسارتر أن الكائنات في الطبيعة لا تمتلك جواهرا هي غير صفاتها الخارجية التي هي جوهرها باستثناء الإنسان الذي يمتلك صفاتا خارجية ويمتلك جوهرا تصنيعيا ذاتيا يقوم بإنشائه الإنسان وحده.
س11- أ. مراد غريبي : يوجد مفارقة فلسفية غامضة تنسب إلى فيلسوف النقدية الأمريكية سيلارز , اذكر تناولتها في إحدى مقالاتك, هل تشرح لنا ذلك؟
ج11- أ. علي محمد اليوسف: حين ننتقل إلى سيلارز وهو من أقطاب الفلسفة النقدية نجده يعبّر عن هذه الإشكالية الفلسفية بفجاجة تلغي معنا المناقشة الجدية لها, يقول سيلارز ( غير متاح لنا إمكانية بلوغ الجواهر الخاصة الخاضعة لإدراك الحواس). غريبة أن يكون الجوهر موضوعا غير مدرك من الحواس ولا نقّر لا إمكانية أن يدرك العقل الجوهر!! وهو لغز عصّي على العقل كما مر بنا؟؟ الجوهر ماهية ذاتية لا تدرك لا من الحواس ولا من العقل مباشرة. من التعبير السطحي أن نكتشف عدم قدرة الحواس إدراك الجوهر.
الجواهر هي ماهيات لا يمكن أن تكون خاضعة لإدراك الحواس وإلا لما كان هناك معنا سببا وجيها يقودنا التسليم بآراء فلاسفة لا يستهان بهم تأكيدهم أن الوجود بذاته هو ماهية و جوهر لايمكن ولا بمستطاع العقل إدراكهما في وحدتهما المتداخلة, هذا على الاقل ما كان كانط دعا له وأيّده من بعده كلا من هيجل وماركس وهوسرل وهايدجر وسارتر ما ألجأهم جميعا إنكار شيء يتوجب معرفته اسمه الوجود (بذاته).. إن الوجود بذاته ليس عدما ولكنه ماهية جوهرية لا يدركها العقل والقول بعدم وجودها مسألة لم تستوف الحسم القاطع..
إن ما تدركه الحواس إحدى منظومات العقل الإدراكية هو كليّات الاشياء الخارجية في تمظهراتها الحسّية فقط, ولو شئنا التوضيح أكثر في مراجعة مقولة سيلارز لوجدنا الأمر معكوسا عما قال به, فإمكانية معرفة الوصول لإدراكات كليّات الاشياء التي هي الصفات الفيزيائية والعلاقات الخارجية تكون أكثر جدوى متاحة لنا وميّسرة من البحث عن جواهر لاتخضع لإدراك الحواس, فجواهر الاشياء الخاصة التي هي ماهيات مدّخرة في الاشياء بذاتها التي لا يمكن إدراكها وبلوغها بالحواس, هي ليست موضوعات يمكن إدراكها حسّيا عقليا كما في أدراك كليات الاشياء, فالجوهر ليس موضوعا ماديا تدركه الحواس ولا تدركه منظومات الإدراك العقلية مثل الوعي والجهاز العصبي والذهن..الجوهر هو ليس عدما لكنه حدس العقل الماثل في أمكانية وجوده وفي احتمال وعجز العقل عن إدراكه..
س12- أ. مراد غريبي: ما رأيكم بإشكالية أخرى وردت في إحدى مقالاتكم نقلا عن سيلارز في مقولته الفلسفية (انه من حيث المبدأ يكون موضوع المعرفة – وفي آن واحد – وجودا عقليا, ووجودا – خارج – العقل)؟
ج12- أ. علي محمد اليوسف: تعبير سيلارز هذا هو الوضع الطبيعي المقبول لموضوع المعرفة الذي يجب أن يكون واقعيا مستقلا في عالم الاشياء المادية كوجود قائم بذاته سواء أكان موضوعا ماديا أو مجموعة علاقات فيزيائية تمثل صفاته الخارجية المدركة, وفي نفس الوقت يكون موضوع المعرفة هو وجود خارج العقل, فالعقل بهذا المعنى لا يدرك سوى المواضيع المنفصلة عنه, حتى ادراكات العقل لمواضيع الخيال التي مصدرها الذاكرة أنما هي مواضيع منفصلة عن العقل وليست جوهرا متداخلا عضويا معه في إدراكه لها ومعرفتها, والاختلاف في عبارة سيلارز هو اختلاف في لغة التعبير الفلسفي وليس في اختلاف (المعنى)... قوله أن موضوع المعرفة وجود عقلي في نفس وقت أنه وجود خارج العقل.. فهو وجود مادي مستقل من جهة, وموضوعا لإدراك العقل من جهة أخرى وفي كلتا الحالتين يبقى موضوع المعرفة قائما في انفصاله عن العقل.. موضوع المعرفة هو مادة تفكير العقل به لكنه لا يمّثل كل مقولات العقل..وتبقى المعرفة خارج منظومة الإدراك العقلي بما هي مواضيع إدراكية له ولا تشكل جزءا منه..
ولا أهمية لموضوع المعرفة في وجوده الانطولوجي ما لم يكن مدركا عقليا داخل تمّثلات العقل, ومواضيع المعرفة هي وجودات مادية أو علائقية خارج العقل منفصلة عنه, وإلا كانت في موضع استحالة إدراكية.. وهذا لا يتماشى مع رأي بعض الفلاسفة اعتبارهم الذات والموضوع شيء واحد لا يمكن الفصل بينهما..فوعي الذات هو في المغايرة الإدراكية لموضوعه وليس في التطابق التام معه.ولا يكون الموضوع والذات شيئا واحدا إلا في حال وعي الذات ذاتها عند الإنسان فقط لاغير.. الذات كي تدرك موضوعها لا تتطابق معه بل لا بد من وجود مسافة رصد تستطيع الذات إدراك موضوعها في تأكيدها مجانسة نوعية تربطهما معا لكن تلك المجانسة مختلفة تمام الاختلاف بينهما. فالذات تمتلك صفات وماهية لا يتوفر عليها أي موضوع تدركه الذات ولا يبادلها الإدراك هو.
كما أن موضوع المعرفة في الوقت الذي يكون فيه ماديا مستقلا أو خياليا مستمدا من الذاكرة فهو خارج العقل في كل الحالات وإلا استحال إدراكه عقليا, وليس موضوع المعرفة الخيالي جزءا عضويا من تكوينات العقل بل هو موضوع معرفي للعقل ومادة تفكيره في وجوده البعيد المنفصل عن العقل .. خلافا مع حال الإحساسات أو الوعي فهذه تكوينات لمنظومة عقلية عضوية وظيفية في تداخلها مع العقل وليست مواضيع ادراكات عقلية خارجية له.
وبهذه الضرورة الإدراكية المتعالقة يكون موضوع المعرفة عقليا على الدوام. وموضوعات المعرفة لا يدركها العقل إلا باشتراط أن يكون إدراكه لها قصديا بمعنى وهدف يراد بلوغه والوصول أليه, وألا كانت موضوعات المعرفة لا أهمية حقيقية لها, فمواضيع المعرفة هي وجود عقلي قبل وجودها الذاتي الحسّي المستقل لذا فارتباطها بالعقل لا يكون مسوّغا إلا بإدراكية قصدية معرفية هادفة.
س13- أ. مراد غريبي : حسب علمي أن فيلسوف الواقعية النقدية سانتيانا يرجع له الفضل في المنهج الطبيعي بالفلسفة الأمريكية. هل يمكن توضيح ذلك؟
ج13- أ. علي محمد اليوسف: ارتبط المذهب الطبيعي في الفلسفة الأمريكية ب (سانتيانا) الذي ورد على لسانه (هو نمط الفلسفة التي لا تقبل بأية حقيقة مطلقة سوى الطبيعة فقط, وتعتبر الطبيعة مبدأ كل وجود وكل معقولية وكل قيمة ) كما (ويرفض المنهج الطبيعي الثنائيات مثل: عقل – طبيعة/ روح – مادة, معتبرين الثنائيات عقلية وليست فعلية, ذلك أنه (يطبعن) الإنسان العقلاني, ويروحن المادة, والعقل لا يناقض الطبيعة, فالعقل موجود في الطبيعة ).
بضوء العبارات السابقة تكون كل ثنائيات الوجود هي وحدة إدراكية واحدة ولا فرق بين أحد قطبيها في نفي الآخر بل في التعايش معه والاقتران المتضاد التخارجي الضروري به, ولا معنى لأحدهما بغياب حضور الآخر, الثنائية بعد إدراك أحد قطبيها يكون حضور الغائب الثاني معياريا تضاديا لفهمنا الآخر, ولا تتّعين الثنائية إلا بعد إمكانية تعيّنها وجودا مدركا كموضوع أو على الاقل مقاربة حضورها كحدس قابل التحقق في الإدراك...
والطبيعة لا يمكنها أن (تطبعن) الإنسان العقلاني من دون إرادته وقرار مسّبق منه أنه جزء من الطبيعة متمايز عنها ويعلو عليها ولكنها لا تعلو عليه ولا تتبعه, الطبيعة ليست تابعا للإنسان إلا بمقدار تبعيته هو لها.. والإنسان لا يعقلن الطبيعة قبل طبعنتها له أولا.. أنسنة الطبيعة وعقلنتها لاحق على طبعنة الطبيعة للانسان.. الإنسان وجد نفسه في الطبيعة مرضعته قبل تفكيره تطويع الطبيعة لحاجاته ورغائبه..لذا فالتعبير أن العقل موجود في الطبيعة إنما يقوم على الإدراك العقلي للطبيعة وبغير هذه العلاقة الإدراكية فلا يبقى معنى للعقل ويتعطل إدراك الطبيعة..
وكل مكتسب يحققه الإنسان العقلي في معرفته للطبيعة يكون مصدره الطبيعة ويكون من صنع الإنسان العقلي وليس من صنع الطبيعة غير العاقلة, الطبيعة لا تصنع الإنسان في وقت هو يحاول تصنيعها, كما أن الإنسان العقلي لا يناقض الطبيعة لأنه بحاجة ماسّة لمعرفة حقيقتها وحل ألغازها والاستفادة منها, والعقل موجود في الطبيعة ليس بمعناه البيولوجي العضوي كجزء منها متداخل بها ومتمايز عنها وإنما في قابلية إدراكه التجريدي لها.. والإنسان العقلي موجود بالطبيعة في صورة تابع لفهم تنظيمها المعجز وليس دليلا من أجل أعادة تنظيمها المتقن بما لا يقوى الإنسان مجاراته.
ولا يتساوى العقل الإنساني والطبيعة من حيث أنهما معطيان متلازمان لا يفترقان, فالطبيعة وجود ألهامي ومعطى ميتافيزيقي لا يحتاج إلى إثبات وجود من الإنسان العقلي الذي تربطه بالطبيعة علاقة عضوية كسبب ونتيجة في تخارجهما المشترك.. والعقل معطى طبيعي للإنسان قبل أن يكون معطى تعالقي بالطبيعة.
الطبيعة كيان مادي مقولة قارة لا تحتاج البرهنة على صدقيتها, إلا أنها – أي الطبيعة – خارج الآلية المادية التي تحكم موجوداتها ومكوناتها, فالطبيعة نظام كلّي وليس نظاما تجزيئيا، على شكل قطوعات ومدركات لا ينتظمها نسق متكامل من الكلية الطبيعية في نظامها وقوانينها العامة, أنها بتعبير سانتيانا ( الطبيعة هي المجموع الكلي لشروطها الخاصة )، أي شروط خصائصها الذاتية في نظامها وفي قوانينها التي من غيرها لا تكون بمواصفاتها التي ندركها كحقيقة ثابتة..
مادية الطبيعة ليست حقيقة مكتسبة يمنحها الإنسان العقلي لها وإنما هي مادية كمعطى يحاكم الإنسان وجوده المادي بضوئها وفي اقترانه بها, مادية الطبيعة معطى متعال على الطبيعة الميتافيزيقية ذاتها وكذلك على الإنسان العقلي الميتافيزيقي, ولا يمكننا فهم الطبيعة على حقيقتها علميا فقط من حيث أن نظام الطبيعة المتماسك لا يخضع دوما لتجارب العلم قبل عجز العلم احتواء قوانين الطبيعة بكل مكوناتها الملغزة.. ومعرفة الطبيعة بمعنى أدراك حقيقتها فهما علميا لا يمكن تحديده في اكتشاف قوانينها العامة وإنما في محاولة معرفتها كوجود مادي غير عاقل يجعل من الإنسان العقلي تابعا لها.. وما تدركه عقولنا من الطبيعة ليس أكثر مما تعطيه لنا مدركاتنا العقلية القاصرة عنها,, حدود معرفتنا الطبيعة هي حدود مدركاتنا القاصرة عن فهمها..وهنا يكون عالمنا الحقيقي الذي نعيشه في قابلية الإدراك وليس في الوجود غير المحدود للطبيعة والكوني معا.
س14- أ. مراد غريبي : هل تجد في سانتيانا الفيلسوف الأمريكي من أصل اسباني فيلسوفا متفردا لامعا يتفوق على فلاسفة النقدية الواقعية أمثال رورتي, سيرل, سيلارز, وآخرين غيرهم؟
ج14- أ. علي محمد اليوسف : بالحقيقة ما ذكرتهم عمالقة في الفلسفة الأمريكية المعاصرة في اختصاصات فلسفية لم يجارهم أحدا غيرهم بأفضل منه, فتجد ريتشارد رورتي فيلسوف العقل التحليلي، وجون سيرل فيلسوف الوعي القصدي بإمتياز، وسيلارز فيلسوف اللغة بتطرف حيث اعتبر اللغة هي عالمنا فقط. أما سانتيانا فيمتاز بفلسفة استفزازية صادمة لتصورات نعتبرها لا تقبل النقاش ولا الجدل حولها فيها من العمق التفكيري ما يعجزك إيفاء حقها.
يقول سانتيانا ( كما هي الروح بالنسبة للجسد كذلك هو العقل بالنسبة للطبيعة, الذي هو كمالها الثاني.) أنا لا اعتبر في عبارته نوع مما ذكرناه عنه من فلسفة صادمة لتصوراتنا الفلسفية لكن التوقف الصادم الوارد في ذيل العبارة في اعتباره العقل هو كمال الطبيعة الثاني، ومن دون إفصاح يكون الكمال العقلي الأول للطبيعة هو الإعجاز الميتافيزيقي المذهل بنظاميتها التي أسبغها الخالق عليها.
كمال الطبيعة الأول هو بما اكتسبته الطبيعة ما ورائيا ميتافيزيقيا - روحيا من نظام وقوانين عامة، أي بتعبير ميتافيزيقي ديني (الله) هو الذي أكسبها هذا النظام العجيب الذي يقف أمامه العقل الإنساني لا يقوى على التفكير في معرفة السبب ولا كيف ومتى خلق هذا التمام..؟ والكمال الثاني هو الذي اكتسبه الإنسان العقلي من الطبيعة ولم تكتسبه هي منه..
أن الطبيعة تفرض على العقل الإنساني كمالها المنتظم بلا حدود لا يدركها العقل ولا قدرة له الإحاطة والإلمام بها...ويعبّر سانتيانا عن هذا (أن يكون العقل عاجزا عن توجيه الطبيعة فذلك نابع من تطور العقل بالذات كظاهرة مضافة على الطبيعة...) فالقوانين الفيزيائية العامة الثابتة التي تحكم الطبيعة لا يستطيع الإنسان العبث بها في حال أراد تجيير تلك المحاولة لصالحه في الهيمنة على الطبيعة وقيادتها. ميزة العقل البشري أنه مكتشف قوانين الطبيعة وليس مخترعا لها..
الطبيعة لم تكن يوما ما إفرازا بيولوجيا أو ولادة قيصرية تلدها الحياة التي هي ناتج الطبيعة ولم تكن الطبيعة ناتج الحياة, فالحياة والإنسان هما توأم المولود قيصريا من الطبيعة الأم.. والطبيعة أشمل من الحياة في كل المقاييس فإذا ما كانت الحياة بالنسبة للإنسان فضاءا لا يحد بعضه من صنعه فإن الطبيعة بالنسبة للإنسان والحياة فضاء لا يمكن إدراكه.. إلا إذا اعتبرنا الطبيعة كينونة مادية مخترقة ميتافيزيقيا بالصميم من قبل الحياة أي من الإنسان...الحياة نظام مصنوع إنسانيا, والطبيعة نظام مصنوع ميتافيزيقيا..
وفهمنا للحياة الانسانية أنها فائض معنى في تداخلها مع الطبيعة ولا يمكنها مجاراتها ولا حتى التمرد عليها, فالطبيعة سر الحياة ولا وجود لحياة إنسانية لا تلوذ بالطبيعة كملجأ آمن لها... الطبيعة هي علة الحياة وفهمنا لها والتعايش الضروري معها هو لا يشكل إضافة للطبيعة بمقدار ما يشكل وجودا ما هويا للإنسان العقلي في ألأخذ منها والاستفادة على الدوام منها....وعقلنة الإنسان للطبيعة هو إضافة لها قبل أن تكون مكسبا إنسانيا على حسابها..
س15- أ. مراد غريبي : هل تجد في تعابير سانتيانا الفلسفية الصادمة ما هو غير متطابق من ناحية عجز تعبير اللغة في احتوائه المضمون الفكري؟
ج15- أ.علي محمد اليوسف: الفكر ومضمونه في الفلسفة النقدية يتمثل في اختلاف الشكل اللغوي عن مضمونه فمثلا يطرح فلاسفة الطبيعة ومنهم سانتيانا سؤالا على جانب من الأهمية والوجاهة ( كيف يمكن للفكر أن يخلص من مضمونه؟)..,تناقض لا يمكن مصادرته لمجرد عدم تطابق الاتساق بين اللغة والمضمون.
الفكر حمولة مضمونه هو الوعي القصدي به، والفكر بلا مضمون هو وعي زائف غير متحقق,والفكر في حمولة مضمونه (الموضوع) هو إلزام العقل الاستجابة له في تناوله كموضوع للمعرفة والإدراك.. إن تحوّل المضمون الفكري إلى تكوينات وتمّثلات علائقية إدراكية في الذهن يزيح عن كاهل الفكر حمولته ويجرده منها,,لذا تكون مسؤولية الفكر تجاه موضوعه هي ألزام عقلي له يحرر الفكر من حمولته..
والسؤال هل يستطيع الفكر أن يمنح الاشياء ماهياتها أو جواهرها؟
الفكر في حقيقته طارئ على الماهية والجوهر من حيث أن الفكر وسيلة معرفية من وسائل العقل الإدراكية، وتبقى حمولة الفكر لمضمونه حمولة وظيفية يراد إيصالها وإيداعها العقل، والفكر في تعالقه مع العقل داخل المنظومة الإدراكية العقلية التي تبدأ بالحواس...، والفكر ليس كيانا مستقلا ولا موضوعا يمكن إدراكه من غير الاستدلال على وظيفته المعرفية في تنفيذ تعبيرات العقل الفكرية اللغوية عن الاشياء من خلال الوعي والفكر..
الفكر جوهر عقلي لا وجود له من دون العقل. ومن المتعذر جدا الجزم الكامل أن حمولة الفكر هي (ماهيات ) جرى تصنيعها في مصنع الحيوية العقلية.. فالعقل يعجز عن صناعة الماهيات التي هي معطى وتكوينات تداخل جواهر الاشياء بما هي خصائص تكوينية قابلة للنمو والصيرورة الدائمة.. فالماهية تشكيل دائمي مستمر وليس وجودا ماديا يمكن التعامل معه حسّيا إدراكيا كموضوع معرفي..
الماهية جوهر غير منظور مستقل والفكر وسيلة أدراك وظيفية عقلية.. ولا يمكن للفكر صناعة ماهيات الاشياء التي لا يستطيعها العقل أيضا, فالماهية وجود بذاته وهي جوهر داخلي مكمّلا كينونة وجود الشيء..والفكر والعقل كلاهما لا يفهم من الماهيات ومعرفتها أكثر مما يعطيهما الموجود الكلي لهما..
وأكثر من هذا مما لا يدركه العقل ويعجز معرفته يكون هو الماهيات وجواهر الاشياء التي لايمكن للعقل تصنيعها في امتلاكه معرفة الصفات الكليّة في موجوداتها..الماهية أو الجوهر وجود مادي يكتسب ماديته من كونه جزءا عضويا ملازما لكل موجود مادي في الطبيعة وبالخصوص الإنسان وعالم الإنسان والحياة..لذا تكون الماهية عجزا عقليا إدراكها لأن الماهية ليست موضوعا للإدراك العقلي..
يعبّر سانتيانا عن مقاربة هذا المعنى قوله ( أن نظام الماهية محايد من حيث تعريفه, ولأنه يضم كل شيء, إلى ما لا نهاية فليس له سلطة على العالم الموجود وليس بمقدوره أن يحدد طبيعة الصفات التي تظهر في الحوادث ولا نظام ظهورها ..أحيل القارئ إلى مبحثي المنشور على موقع المثقف بعنوان (هوسرل وماهية الإنسان) , فقد وضّحت فيه معنى الماهية بما يغني من تكراره هنا بما لا يحتمله الموضوع......
س16- أ. مراد غريبي : ماهي التمايزات بين بيرس وجيمس من جهة, و ميد و ديوي من جهة أخرى؟
ج16- أ. علي محمد اليوسف: السؤال يحتاج إلى إجابة موسعة لا امتلكها حقا, لكني استدرك أنني مررت الإجابة السريعة عن السؤال في متن هذه الحلقة الحوارية بما ملخصه حسب علمي أن وليم جيمس بحكم خلفيته عالم نفس قبل أن يكون فيلسوفا عانى كثيرا وبتركيز على عالم الإنسان الانفرادي, على العكس من جون ديوي فهو عقلية فلسفية كان الوعي الجمعي الأمريكي وأهميته حاضرا ملازما لفلسفته, إذ بلغ الأمر به انه اعتبر المشتركات الأخلاقية والسلوكية في نموذج المجتمع الأمريكي تكاد تكون فريدة.
س17- أ. مراد غريبي : هناك تأثير كبير لميد في آراء جون ديوي بشهادة الأخير كما اثر مور, لماذا لاقت فلسفة ديوي العملية رواجا أكثر من فلسفة توفتيس الذي يعتبر فيلسوف القيم والأخلاق والجمال؟
ج17- أ. علي محمد اليوسف : أنا لا امتلك معلومات فلسفية تفصيلية للإجابة عن السؤال لكني استطيع الإشارة إلى بعض المشتركات التي يلتقي بها فلاسفة البراجماتية التي مررنا على بعضها، تتقدمها ركيزتين أساسيتين, الأولى: أولوية التجربة على الفكر, والثانية: مالا يحقق منفعة في خدمة الحياة لا معنى له وليس جديرا بالاهتمام.
ما أعرفه عن ديوي باقتضاب هو أنه فيلسوف اهتم بمعالجة التربية, والفن وفلسفة الجمال ولا استطيع الجزم انه لاقى رواجا أكثر من غيره بهذا المجال. لكن أجد مهما أستاذ غريبي الانتباه إلى أننا نجد لدى فلاسفة البراجماتية مشتركات جوهرية لا يحيدون عنها أوتجاوزها، حول اهتمامهم تصنيع منطلقات أخلاقية تخدم مصالح المجتمع الأمريكي تحديدا دون غيره من أمم وشعوب العالم.
انتهى