" لا يمكن أن يوجد ألم،إن صحّ قولي، إلاّ بالنسبة إلى كائن معرّض للخطر"
( غابريال مارسال - " من اجل حكمة تراجيدية وما بعدها ص 195).
مقدمة المترجم : غابريال مارسال ((1889-1973 فيلسوف فرنسي وجودي النزعة ( وإن كان يحبذ أن يعتبر سقراطيا) مسيحيّ النحلة، كاتب مسرحي وناقد أدبي، غزير الإنتاج ومتنوّعه. اهتم بمسألة الوجود وما يحفّ بالكائن من تهديدات ومخاطر ومنها " الألم" والمعاناة. وقد كان لموت أمه وهو طفل بعمر الثلاث سنوات وموت زوجته فيما بعد، أثره الكبير في نفسه وفي مؤلفاته الفلسفية والمسرحية.. تعتبر " رسالته إلى إليزابيث ن..." ( و يفضل مارسال إخفاء نسبتها ربما لمرضها، وهي على ما يبدو صديقة مقربة، هي محلّ احترام كبير يشهد بهذا مخاطبته إياها بصيغة التفخيم تقديرا لها )، أثرا هامّا يكشف فيه وجهة نظره بشان الألم بوصفه تجربة " وجودية " للكائن يعيشه كتجربة خاصة ولكنه لا يقدر على سبر أغوارها... وهذا ما يكشفه في مؤلفاته الفلسفية والمسرحية مثل " لغز الكائن" و" الكائن والمعرفة "الخ وفي هذه الرسالة التي نقترحها على القارئ العربي.رسالة إلى اليزابيث ن... (1)
غابريال مارسالGabriel Marcelصديقتي العزيزة،
" كتبتم لي، قد أحسنتم صنعا، أعتقد أنّي لن أصل مطلقا إلى حبّ ألمي. ومع ذلك فهو أمر لابد منه على ما يبدو...".
إليزابيث العزيزة، هل تعتقدين حقّا بأنّ ذلك مطلوب منّا؟
أن نصاب بالألم، نعم، ربّما ولكن بوصفه نعمة استثنائية؛ وقد يكون في هذه النعمة على ما أعتقد بعض الشّبهة التي علينا طلبها. إنّ الألم الذي أحسسته- وأتحدث هنا عن الآلام الفيزيائية - لا يمكن أن يقارن على أيّ وجه من الوجوه بما تقاسونه يوميّا. لا أملك من ناحيتي سوى أن أرى آلامي في صورة مثال، و"عيّنة بلا قيمة"، لكنّها تخوّل لي مع ذلك النظر في النسيج الذي تكوّن منه هذا الواقع الرهيب. لن أكون شاكرا كفاية للربّ أن أعفاني من أن أعيش هذه التجربة، على الرغم من كونها جدّ أوليّة؛ إذ يبدو لي فعلا أنّها جنّبتني بعض الأخطاء الفارغة، الشائعة لدى الفلاسفة، وبالخصوص فلاسفة السوربون Sorbonne، هذه الشخصيات المخيفة.(2)
لقد قلتم لي أحيانا، بشيء من الارتباك، كما لو كنتم تخجلون من هذا الاعتراف، بأنّ الفلاسفة لم يساعدوكم على تحمّل ألمكم؛ وأنهم استطاعوا على الأكثر إلهاءكم عنه بعض اللحظات حينما لم يكن لا يطاق؛ غير أنّكم تنتظرون منهم شيئا آخر تماما. وأضفتم ببساطة :" لقد كنتُ مخطئة من غير شكّ". ومع ذلك، فيما يخصني، فأنا أحكم لكم بالصواب. أرأيتم، إليزابيث، حتى لو كان الألم أيضا نعمة، وإذا ما استطعنا، في قمّة علوّنا الأرضي الإمساك به وحبّه كما هو؛ فهو أولا تهديد* scandale، و الفلاسفة يكرهون غالبا التهديد؛ فيغمضون أعينهم ويصدّون آذانهم حتّى لا يصل إليهم، وقد يمنحون هذا الصمم وهذا العمى الطوعيّ ألطف الأسماء. وأيّ كان ما سنقوله عن الألم، فهو ليس ظلاّ، ووهما وسرابا؛ إنّه واقع - ولن أصفح أبدا، من ناحيتي، عن هؤلاء العلميين المسيحيين Christian Scientists (3) الذين ُتبدي لهم أختكم votre sœur تساهلا خطيرا في الرغبة في خداعنا في هذا الشأن. إنّ الألم موجود وهو صوت قادم من عمق ذواتنا، صوت لا يمكن أن يردّ إلى صمت، ينادينا بأنّه ما كان عليه أن يوجد. الخطر هاهنا. لا توجد لعبة فكر تسمح بإزالته. ومن العبث القول بأنّه لا يوجد، أو بالأحرى بأنه كذبة؛ وليس أقله عبثا الزعم مع السيد هـ...(4) صديقكم من السوربون، بأنّ" كل ما هو واقعي عقلي ". ليست هذه سوى كلمات. رغم أن رجل علم خبيرا، قد توصّل ليفسر لكم بأوضح ما يكون التفسير طبيعة آلامكم، وليبصّركم بالطريقة التي بها خفّفتم منها، ولم يتناول حتّى المشكل الحقيقيّ، ولكن هل هو فعلا مشكل؟ للأسف، لقد انقاد الفلاسفة منذ أربعة قرون إلى التعلّم بل إلى السير في ركاب العلماء. فهم لم يدركوا أنهم بهذا يخونون مَهمّتهم. فإذا لم يكن مخوّلا لرجل العلم فحسب بل أن يبرّر على أوسع نطاق ممكن، استبدال اعتبار الألم ذاته بالإصابة التشريحيّة أو الوظيفيّة التي ينتجها، فليس للفيلسوف من جهته أن يمنع هذا الاستبدال الذي ليس مبرّرا إلاّ من حيث مزاياه العملية. العزيزة إليزابيت، إنّ طبيبكم أو بالأحرى طبيبكم الجرّاح له الحق، إلى حدّ ما، بالتعامل معكم بوصفكم حالة، والتعامل معكم بوصفكم الحالة رقم 11754 (بالرغم من أنّه ربّما، إذا ما توقّف عند هذا، وحتّى من منظور علاجي بحت، فإنه يحرم نفسه من بعض الحظوظ ويتخلّى دون شك في ذلك عمّا قد تهبينه إياه من عطايا لو تعامل معكم بوصفكم حالة متفرّدة، وبوصفكم مصيرا خالدا؛ ولكن دعينا من هذا). ومّما لا شك فيه، هو أنه ليس للفيلسوف الجدير بهذا الاسم خيار: فما يجب أن يعنيه حصريا هو هذا الحدث الذي حصل لكم، أنتم صنيعة الإله، هذا الابتلاء الذي هو منذئذ قسمتكم؛ وفي هذه العلاقة الغريبة - هذه العلاقة مع رجل العلم الخالص الذي لا يمكن تصوّره- بينكم وبين ألمكم الذي يجب على رجل العلم هذا أن يحاول التعرّف عليه.
ألمكم، يا إليزابيت. لقد أدركت منذ حين قمت بإعادة قراءة ما كتبتُ، بأنّني استسلمت للإغراء، لقد قلتُ: يوجد الألم. لكن لا، في الحقيقة لا، لا يوجد الألم؛ ما يوجد، هو ألمك وألمي، وهذا الألم الآخر، ثمّ هذا الآخر أيضا. وحينما نحاول المزج بينها ( أي هذه الآلام) في وحدة فريدة، نكفّ عن عدم التفكير في أيّ شيء؛ وهذا الألم - الجوهر- الذي، لكونه ليس ألمَ أيّ أحد، ليس إلاّ صورة مجرّدة وكاذبة- من الواضح جدا أننا نستطيع أن نقول أيّ شيء: وهذا ما لم يحرم الفلاسفة أنفسهم منه البتّة. لا يوجد الألم إذن إلاّ بشرط أن يكون ذاك الألم؛ مثلما لن يكون الإنسان في الواقع إلا من حيث هو ذاك الإنسان الخاص: قريبي mon prochain. حينما يفكّر الرياضي في المثلث، فليس له أن يأخذ بعين الاعتبار خصائص أو أبعاد معينة واعتباطية لمثلث خاص سطّره على السبورة السوداء: فهو لا يرى هذا المثلث بالذات، وله الحقّ في أن لا يراه. لكن غالبا ما يجد الفلاسفة هنا المثل الأعلى لكلّ معرفة؛ لقد أخطؤوا. توجد معارف، الأكثر حيوية منها دون شكّ، غير ممكنة إلاّ حينما نُعرض عن هذا المثل الأعلى. لقد قاموا بخطأ آخر : غالبا ما تخيّلوا أنّه لمعرفة شيء في خُلُوصِه فلابدّ من القدرة على النظر إليه من خارج دون التأثر به (أي موضعته- objectivation). ليس هذا حقيقيّ أيضا إلاّ جزئيّا. فمن لم يتألّم فلن يعرف الألم. لقد حدّثتموني غالبا عن هذه الهوّة التي تفصل المرضى عن الأصحّاء وكون الإرادة الخيّرة لا يمكن أن تسدّها. وبالفعل لا يمكن لها أن تأخذ في اعتبارها الخبرة؛ وحده الخيال الحدْسيّ الذي لا يملكه سوى الشعراء - ويوجد من لم يكتب في حياته سطرا- يمكنه بشكل استثنائي أن يملئها. لأجل هذا لا يمكن لي تناول ألمكم حرفيّا إلاّ انطلاقا من ألمي الخاص- وبشرط أن يكون ما يخصّك يخصّني أيضا، أن يصبح لي أو بشكل أدقّ لنا. وإذا كان "الخطاب حول الألم" ممكنا، فلن يكون سوى على قاعدة مشاركة فعليّة، معيشة.
لقد فرضت هذه الفكرة نفسها عليّ يوم أن استمعت لقسّ (5) يتحدّث دون تحفّظ عن الصلة التي تربط الألم بالخطيئة. وهذا ما ألاحظه بشأن هذا القول. " لا أقدر مطلقا، في حضور من يتألم، أن أقول:" إنّ ألمكم هو جزاء خطيئة ما قابلة للتعيين على الأقلّ على صعيد الحقّ والتي يمكنكم علاوة على ذلك أن لا تكونوا أنتم بالذات من اقترفها". لكنّ هذا زيغ من وجهة نظر دينيّة. نحن في الواقع في مجالِ ما لا يسبر غوره؛ يوجد بعض الشيء الذي يجب التوصّل إلى توضيحه فلسفيا؛ شيء غريب، ليس للألم قابلية أن يَحمل معنى ميتافيزيقيا أو روحيا إلاّ من حيث أنّه يعني لغزا يتعذّر سبر غوره. لكن غالبا ما يكون الفيلسوف مغرورا، ولا يوجد بالنسبة إليه ما يتعذّر سبر غوره. كم من فيلسوف يقدّم نفسه بمثل مجسّات محمولة شائعة الاستخدام، وبالتالي قاصرة عن أداء وظيفتها الأساسية وهي التعرّف على الواقع من حيث هو كذلك. لقد بيّن السيد روني لوسان (6)، وهو أحد المفكرّين الأصيلين القلائل في زماننا، في كتاب رائع ولكنّه صعب ولابدّ من جعل خلاصاته الجوهرية في المتناول، بينّ بطريقة رائعة بأنّ ما تختصّ به الأنشطة العليا هو روحنة spiritualisationالعائق. لكن الألم هو نموذجٌ – مثالٌ (modèle- type) للعائق، الذي نصطدم به. كيف تتمّ هذه الروحنة هنا؟ يبدو لي أن الألم يضع النفس أمام خيارٍ، نعم، يفيض منها ضِعْفٌ، دعوة متناقضة؛ فمن جهة يقذف بي الألم إلى نفسي؛ أيّ كان الألم، وإغراء الانطواء على نفسي كبير؛ يفصلني الألم إذن عن الآخرين؛ فلا أقدر أن أقول لنفسي بأنّه لا تواصليّ، ويتعذّر على الآخرين تخيّله، وفي هذه الحالة ألا يصبح مبدأ للفخر؟ قد أجد ضربا من الفرح غير الصافي أتلذّذه فيما يتفرّد به؛ يقينا لا أحد بالمرّة تألّم بهذه الطريقة - ولا أحد إذن يمكنه أن يضع نفسه مكاني. لكن يمكن لهذا الشكل من الألم أن يدعوني بنداء آخر - أكثر سريّة. ويتّضح سوء حظّ آخر على ضوء سوء حظّي الراهن، فألوم نفسي اليوم على أنّي، حينما وُصف لي، لم أعرف سوى أن أكوّن صورة مجرّدة عنه؛ و تضحى آلام مختلفة بالنسبة إليّ، بفعل ضرب من الانبساط التدريجي، واقعا لا أشكّ فيه أبدا. بحيث إنّ تجربة، تبدو لي أوّلا مقيّدة بقسوة و مختزلة، تصبح على العكس بالنسبة إليّ وسيلة للفهم، ولتجاوز ذاتي، ومشاركة حيوات قاصية تضحى قريبة منّي. وبالتأكيد لن يكون لي أيّ حذر من القول: إنّ ذلك من أجل أن أقدر على استخدامها( أي التجربة) بالطريقة التي حدثت لي بها هذه المحنة؛ إنّي أعرف، وأرى بوضوح أنّني لا أملك لا الجواب عن هذا السؤال : لماذا؟ ولا حتّى طرحه. إنّ ادّعاءً كهذا لا يتماشى مع وضعي كمخلوق مثلما يمكنني التفكير فيه. ولكن يبدو لي أنّني أتخلّص منه بعدُ، إذا ما كنت حقّا أردّ هذا الألم إلى وظيفة وضعيّة (موضوعية)؛ فلا يمكنني أن أقول ببساطة بأنّني أتأثر به؛ ويبدو لي أنّني أتحرر منه باستخدامه. ليس هذا وجهة نظر للفكر؛ بل هو تجربة أمكن لي خوضها، تجربة تعيشونها يوميا أنتم أيضا، إليزابيث؛ تجربة فيها بعدُ ما يشبع هذا النهم الذي فينا؛ مّما يجعلنا نشعر على الأقلّ بأنّه يوجد جواب وهو الوحيد، وأنّه بتركنا لشأننا، لقوّتنا فقط، فلن يكون بوسعنا إدراكه فحسب. أنا أعرف هذا جيّدا هنا، فأنا أتقدّم إلى ما هو أبعد مّما يمكنكم منحه لي أيضا. وإذا ما سمحتم لي، سأحاول، يوما آخر، التقدّم معكم على هذا الساحل الرملي حيث تتردّدون بعدُ في خوض مغامرة التقدم فيه؛ وربّما.....
المصدر: (مجلة "كليزيس" KLESIS مجلة فلسفية: الألم. أكتوبر 2006).
https://www.revue-klesis.org/pdf/ GabrielMarcel.pd
http://www.revue-klesis.org/
هوامش:
* -( فضلت ترجمة عبارة scandale بتهديد أو خطر ( menace وذلك أن المقصود بعبارة menace عند مارسال هو الوضعية التي " لا أملك فيها مراقبة القوى الخارجة عنّي، ففي غياب أي إمكانية للتحكّم يكمن التهديد أو الخطر وهو المقصود بـ scandale في النص - المترجم)
1- رسالة ظهرت في " حوار مع الألم"، س، فوشي (طبعة) باريس، spes " إيمان حي"Dialogues avec la souffrance (Foi Vivante) "، 1968 ص، 64-70. ( هوامش الرسالة من إعداد س. كاميللري).
2- سنجد هذا النقد في ثنايا الرسالة. كلما أثار مارسال الخطوات غير الموفقة والتوجهات الخاطئة "للفلاسفة" وهو يحيل في هذا إلى أساتذة السوربون. وقد وجد مارسال في الرسالة حول الألم مناسبة لفضح لامبالاتهم تجاه المشكلات الوجودية بوجه عام. وللنظر في الطريقة التي يبدو بها منزعجا من هؤلاء "الفلاسفة "، يمكن الرجوع إلى أ. فوييوّا E,Fouilloux " فيلسوف أصبح كاثوليكيا في 1929)، قابريال مارسال ( ملتقى 1988).المكتبة الوطنية،1989 ص104" ميتافيزيقا الصيرفي، الفكر البورجوازي: مارسال لا يتردد في كلامه عن هذه المثالية بلا جسد".
3- أسسها ماري باكر إيدي Mary Baker Eddy حركة بروتستانية محدثة بطابع مذهبي تعني أولئك الذين يملكون فنّ الشفاء بالإرادة و الذين يدعمون بالتالي القول بان شفاء المرضى يعود فقط إلى الامتثال للقوانين الإلهية.
4- نفترض أن مارسال يحيل هنا إلى جون هيبوليت Jean Hippolyte المختص في الدراسات الهيجيلية. فمقولة" كل ما هو واقعي عقلي "هي كما نعلم، عبارة تميّز نظرية الشمول الهيجيلية.
5- لا نعرف جيدا إلى من يحيل مارسال هنا. ربما إلى قريب أو على الأقلّ إلى أحد معارف مارك بوقنارMarc Boegner صهر مارسال وهو قسّ.
6- روني لوسان René le Senne (1882-1954), أستاذ الفلسفة في السوربون، والذي يعتبره مارسال قريبا منه في نقاط عديدة.ويبدو أن مارسال يحيل هنا إلى كتاب " العائق والقيمة" (1935). ونضيف أيضا أنه في سنة 1934 أسس مارسال بمعية روني لوسان ولوي لافال (1883-1951) سلسلة مختصة "بفلسفة الفكر أو الروح " لدى أوبيي.Aubier
.
.