رينيه ديكارت فيلسوف ورياضي فرنسي عاش بين سنتي 1596 و1650م، يعتبر واحدا من فلاسفة الحقبة الحديثة البارزين، كما عرف بمذهبه العقلاني وبشكه المنهجي.
يتنزل هذا الكتاب “القواعد” ضمن أرضية نقدية من رهاناتها توحيد المعارف كلها. فليست العلوم جميعا سوى الحكمة الإنسانية، وهي عينها تظل دوما واحدة مهما تنوعت المواضيع التي تبحث فيها. فديكارت يستعمل في القاعدة الأولى من كتبه مجاز “الشمس” للتأكيد على الترابط بين مختلف العلوم وتوحدها في مبدإ العقل، فينقد بذلك ما يقيمه الفكر المدرساني من مقارنة فجة بين العلوم والفنون من جهة أولى ثم التمييز بين العلوم بحسب تنوع موضوعاتها من جهة ثانية، وهو الخطأ عينه لأنه مهما اختلفت الموضوعات فإن مبدأ معرفتنا بها يبقى واحدا فيشع العقل بنوره على الأشياء مثله كمثل الشمس لا تتأثر بتغير هذه المواضيع أكثر مما يتأثر نور الشمس بتنوع الأشياء التي يضيئها، كما قال هو نفسه في مقدمة الكتاب الذي بين أيدينا "قواعد توجيه الفكر" (القواعد) هو عمل مبكر من كتابات ديكارت، أعاد صياغته طوال حياته، ولم يظهر إلا بعد وفاته. مع كونه نصا غير مكتمل، تنبثق منه العناصر التأسيسية لفكر ديكارت: البحث عن طريقة لبلوغ حقائق يقينية، النموذج الحسابي الهندسي، إلخ..
.يبني الفيلسوف رينيه ديكارت قواعد للفكر، فكلّما استطاع العقل أن يراجع مسلماته، كلّما احتاج إلى قواعد يسترفدها من العلوم والمعارف التي تسعى جميعها إلى تحصيل الحكمة الإنسانيّة. وإذا كان العقل لدى ديكارت ملكة نميّز بها تمييزا قيميّا ومعياريّا بين الخير والشر والقبيح والجميل، فإنّه أعدل الأشياء قسمة بين النّاس، وهو ما يستدعي تفكيرا متواصلا في أهميّته وطرائق استخدامه، وطرح سؤال كيفيّة التّفكير، فليس المهمّ أن نمتلك العقل، وإنّما تكمن الأهميّة في حسن استخدامه.
لقد حدد ديكارت في هذا الكتاب القواعد المختلفة لمنهج كوني لتوجيه الفكر عندما يسعى للوصول إلى الحقيقة.
القاعدة 1: يجب السعي إلى "إصدار أحكام راسخة وصحيحة حول ما يتبادر إلى الذهن
كانت هذه القاعدة بالنسبة لديكارت فرصة لتطوير فكرة مهمة: لا ينبغي للمرء أن يتبنى في العلم مبدأ التخصص، أي دراسة علم واحد.
مبدأ التخصص ضروري في الفن: يصبح المرء فقط معلما (عازفا على الكمان، مثلا) إذا كرس نفسه فقط لموضوع فنه: "لا يمكن ليدي نفس الرجل أن تعتادا على زراعة الحقول والعزف على آلة القانون"، كما يقول.
على خلاف ذلك، للوصول إلى الحقيقة، ليس من الضروري التخصص في علم واحد. يطور ديكارت هنا نقدا لتشتت العلوم - في عصره، كما في عصرنا الحالي- والتي يجب في الواقع إعادة إدماجها ضمن علم واحد.
تأتي وحدة العلوم من نقطة مشتركة أساسية؛ هي أم "كل العلوم ليست سوى الحكمة البشرية، التي تظل دائما واحدة ومطابقة لذاتها، كما رأينا مع مجاز الشمس.
لذا فإن الوحدة هي هذه الحكمة الكونية، والتي يسميها ديكارت أيضا الحس السليم.
لقد رأى الإنسان أنه من المناسب تقييد نفسه من أجل اكتشاف الحقائق من خلال التخصص في هذا المبحث او ذاك، بينما على العكس من ذلك، فإن كل حقيقة يتم اكتشافها تساعدنا على اكتشاف حقائق أخرى في مجالات أخرى.
يجب أن يكون الهدف من الدراسة هو هذه الغاية العامة (الحكمة الكونية)، وليس أي غاية معينة. المنفعة أو السعادة أمثلة على غايات معينة تسعى إليها بعض العلوم بشكل خاطئ. لا ينبغي دراسة العلم لغرض تحسين الوجود البشري.
هذا من شأنه أن يجعلنا، إذا كنا نبحث عن ذلك فقط، نحذف العديد من الأشياء الضرورية للوصول إلى معرفة أخرى، لأنها تبدو للوهلة الأولى خالية من الفائدة أو المنفعة. هكذا، مثلا، لن ندرس ما يحدث في هذه المجرة او في تلك لأنها بعيدة عنا جدا ولا يمكننا الوصول إليها أبدا، ونخلص من ذلك إلى أنها شيء عديم الفائدة للإنسان.
اذا ما اللذي يجب فعله؟ بخلاف ذلك، يجب أن نقنع أنفسنا بأن جميع العلوم مرتبطة في ما بينها ارتباطا وثيقا لدرجة أنه من الأسهل بكثير تعلمها جميعا بدلاً من فصل أحدها عن الأخرى.
يجب أن نفكر أيضا في تطوير النور الطبيعي لعقلنا. هذا سيسمح لنا بالتقدم بشكل أسرع بكثير من أولئك الذين يتعاطون لعلوم بعينها.
القاعدة 2: يجب أن نهتم فقط بالأشياء التي يبدو أن عقولنا قادرة على بلوغ معرفة بها مؤكدة وغير قابلة للشك فيها
يجب أن نتجنب المشكوك فيه والمحتمل وغير المؤكد. هذا المطلب، الذي نجده في "التأملات الميتافيزيقية"، أساسي عند ديكارت. إذا أدخلنا المشكوك فيه إلى تفكيرنا من خلال قبول الحجج
المحتملة فقط، فإن "الأمل في توسيع نطاق معرفتنا ليس كبيرا مثل خطر تقليصها"، على حد تعبير المؤلف.
على العكس من ذلك، يجب على المرء أن يسعى إلى البديهي، اليقيني، والضروري، وبالتالي، ان ينتقل من قضايا يقينية إلى قضايا يقينة، وأن يكتشف حقائق لا تقبل الشك.
لكن أليست المعارف اليقينية نادرة جدا؟ في الواقع، "هي أكثر بكثير مما يعتقده المرء وتكفي للاستدلال بدقة على قضايا لا حصر لها، لم تتمكن حتى الآن من ذكر أي شيء أفضل من الاحتمالات"، كما يقول فيلسوفنا.
ومع ذلك، يبدو أنه لا توجد فكرة تحظى بإجماع المجتمع العلمي، وأنه لا يمكن تقديم أي فكرة باعتبارها حقيقة كونية غير قابلة للشك.
في الواقع، هناك مجال واحد يوجد فيه مثل هذا القبول الشامل (على الأقل في زمن ديكارت): الحساب والهندسة. سيشكل هذا نوعا من النماذج: يتعين على العقل أن يسعى لتحقيق الحكمة البشرية، من خلال اعتماد نفس الإجراءات ونفس متطلبات اليقين التي نجدها في الرياضيات.
لماذا الحساب والهندسة أكثر يقينا من جميع التخصصات الأخرى؟
هنا يظهر ديكارت نفسه على أنه عقلاني، على عكس التجريبية التي سنجدها لاحقا عند جون لوك.
بالنسبة له، يأتي هذا من حقيقة أنهما وحدهما يتعاملان مع موضوع خالص وبسيط لدرجة أنهما لا يعترفان بعد ذلك بأي شيء على الإطلاق جعلته التجربة غير مؤكد، وأنهما يتمثلان بالكامل في استخلاص النتائج عن طريق الاستنباط العقلاني.
وبينما تعتبر الفلسفة الإمبريقبية التجربة مصدرا للحقيقة لأنها تمثل أصل معرفتنا، تكون بالنسبة للفلسفة العقلانية مصدرا للأخطاء (كما يتضح من مثال العصا القائمة في الماء والتي تبدو مكسورة)، إذ العقل وحده يتيح لنا الوصول إلى الحقيقة.
إن الأسبقية التي يعطيها ديكارت لهذين العلمين محدودة: لا ينبغي أن نستنتج من هذا أنه يجب على الإنسان دراسة الحساب والهندسة فقط، ولكن يجب عليه أن يهتم فقط بالأشياء التي يمكن من خلالها الحصول على يقين مماثل ليقين استدلالات الحساب والهندسة.
ولذلك فإن هذا النموذج لا "يبطل" التخصصات الأخرى، ولكنه يشكل نموذجا حقيقيا، يجب اتباعه ليصبح العلم علما حقيقيا.
في القاعدة الثالثة، يعرّف ديكارت الحدس والاستنباط بأنهما الملكتان القادرتان على تقديم حقيقة معينة، ورفض أي سلطة.
يقول: "يجب أن نسعى [فقط] إلى ما يمكن أن يكون لدينا عنه حدس واضح وبديهي، أو ما يمكننا استنباطه على وجه اليقين؛ لأنه ليس بطريقة أخرى يكتسب العلم".
ﻳﻌﺘﱪ ﺩﻳﻜﺎﺭﺕ ﺃﻥ ﺍﻷﻓﻌﺎﻝ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺍﻟﱵ ﲤﻜﻦ ﻣﻦ ﺑﻠﻮﻍ الحقيقة ﳘا: ﺍﳊﺪﺱ ﻭﺍﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻁ، ﻭﻳﻌﲏ ﺍﳊﺪﺱ ﰲ ﻧﻈﺮﻩ ﺇﺩﺭﺍﻛﺎ ﻋﻘﻠﻴﺎ ﺑﺴﻴﻄﺎ ﻳﺼﺪﺭ ﻋﻦ ﻋﻘﻞ ﺧﺎﻟﺺ ﻭﻳﻘظ، ﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻌﻪ ﺃﺩﱏ ﺷﻚ، ﺃﻣﺎ ﺍﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻁ ﻓﻬﻮ ﻣﺼﺪﺭ ﻏﲑ ﻣﺒﺎﺷﺮ ﻹﺩﺭﺍﻙ ﺍﳊﻘﺎﺋﻖ ﻳﺘﻢ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﺍﺳﺘﻨﺘﺎﺝ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺃﻭﱃ ﻣﻌﻠﻮﻣﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﺇﻥ ﱂ ﺗﻜﻦ ﺑﺪﻳﻬﻴﺔ، ﻓﺎﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻁ ﻳﻀﻤﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻂ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻱ ﺑﲔ ﺍﳊﻘﺎﺋﻖ.
ويرى مؤلف التأملات أنه يمكن أن تكون قراءة أعمال القدماء مفيدة بالتأكيد، لكن يجب أن نتذكر أنها قد تحتوي على أخطاء، وألا نأخذها على أنها حقيقة مثبتة. ينتقد ديكارت هنا التعليم المدرسي، الذي تلقاه كطالب، والذي يصرح بأفكار أرسطو على أنها حقائق إنجيلية. نحن نعلم أنه خلال المسابقات الخطابية التي شارك فيها فيلسوفنا تحت إشراف مثل هذه المدارس، تم أحيانا استخدام حجة السلطة "قال أرسطو" (هذا صحيح لأن أرسطو قال ذلك).
يرتبط هذا النوع من التدريس بالتاريخ أكثر من ارتباطه بالعلم في حد ذاته.
أصل كل أخطائنا هو الخلط بين اليقيني والاحتمالي. وقد حذرنا ديكارت من أنه يجب ألا نخلط تخمينا واحدا مع أحكامنا على حقيقة الأشياء. من هذا أيضا تنشأ الخلافات والنزاعات.
إذا لم نتمكن من العثور على حقائق معينة في الكتب والتعليم، فكيف يمكننا المضي قدما؟ ينبغي ان نقوم نحن انفسنا بالتفكير . لدينا في الواقع ملكتان، أو بالأحرى فعلان يتمان في فهمنا، يمكننا بواسطتهما الوصول إلى معرفة الأشياء دون أي خوف من الخطإ: الحدس والاستنباط.
لا ينبغي بالطبع أن يؤخذ الحدس بالمعنى الذي يُفهم به عادةً، أي ذلك الموجود مثلا في تعبير "الحدس الأنثوي"، أي استشعار شبه سحري لحدث مستقبلي.
يعرّف ديكارت الحدس على أنه تمثيل سهل للغاية ومتميز بحيث لا يوجد شك حول ما نفهمه منه، (تمثيل) ينشأ من النور الوحيد للعقل.
لذلك لا يوجد شيء غير منطقي في الحدس الديكارتي. يعطي ديكارت عدة أمثلة:
يمكن للجميع أن يرى بالحدس أنه موجود، وأنه يفكر، أن المثلث محدد بثلاثة خطوط فقط، والكرة بسطح واحد، [إلخ]..
وإذا كان الحدس بمعنانا الحديث نوعا من الهبة التي تمنح فقط لقلة مختارة، فإن الحدس الديكارتي يمتلكه الجميع.
لسوء الحظ، غالبا ما يتم تجاهل الحدس الديكارتي، لأن الحقائق التي يكشف عنها بسيطة. لكننا مخطئون تماما، لأنه موجود أيضا في قلب "فعل الفهم" الثاني الذي يجعل من الممكن اكتشاف الحقائق المعقدة: الاستنباط.
يجب بالفعل التحقق من صحة المراحل المختلفة للاستنباط واحدة تلو الأخرى من قبل العقل الذي يقوم بتشغيله. إنه يدرك، عن طريق الحدس، حقيقة كل مرحلة من هذه المراحل، وكذلك حقيقة الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
يعرّف ديكارت الاستنباط على النحو التالي: كل ما يستنبط بالضرورة من بعض الأشياء الأخرى المعروفة على وجه اليقين.
بفضل الاستنباط، يقال عن بعض المعارف إنها مؤكدة، بينما لا تكون بديهية في حد ذاتها: يكفي أن يتم استنباطها بيقين من أفكار أخرى بديهية.
لذلك فإن الحدس يثبت صحة كل خطوة من خطوات الاستنباط، من المبادئ الأولى إلى الاستنتاج، وهاتان هما الطريقتان الأكثر يقينا للوصول إلى العلم.
وفقا للقاعدة الرابعة، لا يمكن الاستغناء عن طريقة للبحث عن حقيقة الأشياء.
إن البحث عن الحقيقة بدون منهج يشبه البحث عن كنز بالحفر العشوائي. من المؤكد استحالة توقع نتيجة من خلال المضي بهذه الطريقة.
إذا نجح الأمر بمعجزة ما، فهذا يعود إلى الحظ وليس إلى العلم.
هذا هو السبب في أنه من الأفضل ألا تفكر أبدا في البحث عن الحقيقة حول أي شيء على الإطلاق، عوض القيام بذلك بدون طريقة.
هذه الأنواع المضطربة من التفكير تزعج النور الطبيعي للعقل. هذا التعبير، الذي يميز الفكر الديكارتي موجود في العديد من أعماله. فلأن لكل عقل بالتحديد وبشكل طبيعي مَلَكتان، هما الحدس والاستنباط، للتعرف على حقيقة يقينية يمكننا التحدث عن النور الطبيعي.
ما هو المنهج؟ إذا كان المنهج من الناحية الاشتقاقية هو نهج يجعل من الممكن الوصول إلى هدف، فإن ديكارت يعرفه بأنه مجموعة من القواعد اليقينية والسهلة، التي إذا لاحظناها ملاحظة دقيقة نكون على يقين من عدم الوقوع في خطإ بشأن حقيقة ما، ومن الوصول إلى المعرفة الحقيقية لكل ما يمكننا أن نكون قادرين عليه.
يجب أن يشرح المنهج كيف يجب علينا استخدام الحدس الفكري حتى لا ننزلق إلى الخطإ، وكيف علينا أن نجد مسارات استنباطية للوصول إلى معرفة كل الأشياء، كما يقول ديكارت.
عرض الطريقة التي يجب أن تجعل من الممكن الحصول على معرفة يقينية في أي تخصص، وبالتالي تكوينها كعلوم، هذه هي المهمة الرئيسية التي آل ديكارت على نفسه الاضطلاع بها في كتابه "القواعد".
لم يتم صياغة المفاهيم الخاصة بهذا المنهج من ذي قبل، لكنه مع ذلك أنتج بالفعل "ثمرتين تلقائيتين": الحساب والهندسة. لقد اتبع هذان التخصصان بالفعل عن غير قصد مبادئ هذا المنهج، وحققا نتائج ملحوظة.
لذلك، فإن ديكارت سيضع المفاهيم لشيء موجود بالفعل ولكنه مستخدم دون وعي. هنا تكمن مساهمته.
ميزة هذا المنهج هي أنه يمكننا استخدامه في شيء آخر غير الأرقام أو الأشكال الهندسية. لذلك لا يستخدم هذا المنهج فقط في الرياضيات. إذا فهم بشكل صحيح، فهو يسمح للحقائق بالظهور من أي موضوع.
وإذا استخدم ديكارت هنا أمثلة رياضية، فهذا لغرض التوضيح فقط، وسيكون من الضروري دائما تذكر أنه في الواقع يعرض تخصصا آخر.
إليكم الطريقة التي يقدمه بها:
"يجب أن يحتوي هذا العلم على المبادئ الأولية للعقل البشري، وأن يتطلع لإخراج الحقائق من أي موضوع؛ إنه أفضل من أي معرفة أخرى تنتقل إلينا بالوسائل البشرية، لأنه مصدر كل المعارف الأخرى".
هدف اللرياضيات أشياء يكون فيها الترتيب أو المقياس هما ما يتم فحصهما. هكذا يمكن تحديد "الرياضيات الكونية" على أنها العلم الشامل الذي يشرح كل ما يمكن البحث فيه من جهة الترتيب والقياس أيا كان الشيء الماخوذ بالاعتبار (أشكال، نجوم، أصوات وما إلى ذلك).
يتمثل المبدأ الأساسي للمنهج في البدء من الأشياء البسيطة، والارتقاء شيئًا فشيئًا نحو أشياء أكثر تعقيدًا، كما تعلمنا القاعدة الخامسة.
هذا هو المبدأ الوحيد الذي يتم فيه العثور على أساسيات جميع الموارد البشرية، وهو نوع من خيط أريان لكي يجد المرء طريقه في متاهة المعرفة.
لهذا انتقد ديكارت العلماء الذين على العكس من ذلك، كانوا يعالجون على الفور أكثر الأسئلة تعقيدا وصعوبة.
من هذا المنظور، تظل القاعدة السادسة، التي تفرض تحديد أبسط حقيقة في سلسلة من الحقائق المستخلصة من بعضها البعض، هي "السر الرئيسي في المنهج، ولا يوجد شيء أكثر فائدة في كل هذه الرسالة"(يقصد كتاب القواعد).
لماذا؟ لإنها تتوافق مع نوع من الرؤية للعالم، وهو أمر مذهل حقا، والتي وفقا لها "يمكن ترتيب كل الأشياء في شكل سلسلة [...] بحيث يمكن لها التعرف على ذواتها الواحدة انطلاقا من الأخرى".
لذلك فإن الأشياء إما مطلقة أو نسبية من وجهة نظر المعرفة. إنها مطلقة عندما تكون قابلة للمعرفة من تلقاء نفسها (يقول ديكارت: عندما تحتوي في نفسها، "في حالة خالصة وبسيطة، على الطبيعة التي عليها يقوم السؤال"، أو كذلك "الأبسط والأسهل، لأجل الاستخدام الذي نفرده لها في الجواب عن الأسئلة").
يشارك النسبي في أحد جوانب المطلق، الشيء الذي يسمح لنا باستنباط الأول من الثاني بالمرور عبر سلسلة.
يقدم ديكارت أمثلة عن المطلق: السبب، البسيط، الكوني، الواحد، المتساوي، المتشابه، الحق، إلخ.. وبالمثل يقدم امثلة عن النسبي: المركب، الخاص، المتعدد، غير المتكافئ، غير المتماثل، المائل، إلخ..
إليكم جوهر المنهج الذي تم الكشف عنه في كتاب القواعد:
هذه الحدود النسبية تبتعد اكثر عن المطلقة بحيث أنها تحتوي على المزيد من العلاقات من هذا النوع، التابعة لبعضها البعض؛ وتحذرنا القاعدة الحالية من أننا يجب أن نميز كل هذه العلاقات، وأن نحترم ارتباطها المتبادل باعتباره نظامها الطبيعي، حتى نتمكن من الانتقال من الحد الأخير إلى الأكثر مطلقية، مروراً بكل الحدود الأخرى".
على سبيل التلخيص، "سر المنهج بأكمله موجود هنا: في كل الأشياء، حدد بعناية ما هو الأكثر مطلقية".
لاحظ أب الفلسفة الحديثة أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الطبائع الخالصة والبسيطة، يمكن امتلاك حدسًا عنها على الفور ومن تلقاء نفسها. وهذه هي الطبائع التي يجب "تحديدها بعناية" لأنها توجد عند انطلاق كل سلسلة.
يواصل ديكارت عرض سلسلة من القواعد الثانوية التي تحدد فقط نقاطا معينة معينة من القاعدة الأساس المعروضة هنا.
وهكذا تصر القاعدة السابعة على حقيقة أن العلم المكتمل هو العلم الذي تحتضن فيه عبر حركة متواصلة كل سلسلة القضايا التي يتم استنباطها من بعضها البعض، ويجب أن يكون هذا التعداد كافياً ومنظمًا.
في الواقع، بمجرد نسيان الرابط، مهما كان غير مهم، تنكسر السلسلة على الفور، وينهار كل يقين الاستنتاج.
تحذر القاعدة الثامنة من التوقف في البحث إذا لم نجد حدسا مرضيًا بإمكانه إثبات صحة المرور من قضية إلى أخرى في استنباط (بمعنى آخر، في سلسلة من القضايا).
تعود القاعدة التاسعة إلى فكرة الاهتمام بالأشياء غير المهمة والسهلة بدلاً من المشكلات المعقدة. يتعلق الأمر بعكس رد الفعل النفسي الطبيعي للعالم.
يجب تشجيع العقل على التدرب على الأسئلة التي تم حلها بالفعل من قبل علماء آخرين، حتى يكتسب الحكمة (القاعدة العاشرة). يخبرنا ديكارت أنه تعاطى لهذا التمرين منذ سن مبكرة.
نجد في شرح القاعدة هذه الجملة الرائعة: "المنهج [...] ليس في الغالب شيئا آخر غير الملاحظة الدقيقة لنظام ما".
انتقد ديكارت مرة أخرى المدارس السكولائية، وخاصة الجدل الذي يتم تدريسه في هذه المدارس (السجال الذي يتم خلاله الدفاع عن أطروحة باستخدام المنطق أو القياس). يُظهر ديكارت بالفعل أن القياس المنطقي صوري بحت، وأن أي شخص يستخدمه لا يمكنه الوصول إلى حقيقة ما يستتبطه إلا إذا كان يعرف الإجابة بالفعل، أو الحقيقة المادية لهذه لأخيرةا. بمعنى آخر: القياس المنطقي عقيم.
في القاعدة الثانية عشرة ، يقدم ديكارت الخيال والحواس والذاكرة على أنها قادرة على "إنقاذ" الفهم أثناء البحث عن الحقيقة. ومع ذلك، يجب استخدامها بحذر ، لأنها يمكن أن تكون أيضا مصادر للخطإ: "صحيح أن الفهم وحده لديه القدرة على إدراك الحقيقة؛ ومع ذلك، يجب أن يساعده الخيال والحواس والذاكرة"، على حد تعبير ديكارت.
إنه يفحص الآلية العامة للإحساس، ويأخذ الصورة الأرسطية للشمع الذي تنطبع عليه أشكال الأشياء.
والمثير للدهشة أن ديكارت هنا (وليس في مقدمة محتملة) هو الذي وضع تصميم الكتاب. إنه يفرق بين القضايا البسيطة والأسئلة .
ينقسم هذا التصميم إلى ثلاثة أقسام. يتشكل القسم الأول من القواعد الاثني عشر الأولى، التي رأيناها للتو، تتعلق بقضايا بسيطة، بديهية من تلقاء ذاتها.
ويتكون الجزء الثاني من القواعد الاثنتي عشرة التالية، والتي تتعلق ب"الأسئلة المفهومة"، وإن " يك جوابها غير معروف".
يحتوي هذا الجزء، الأقل فلسفة، على أسئلة لا تظهر إلا في الحساب والهندسة؛ كما أنها ستبدو قليلة الفائدة لأولئك الذين ليسوا على دراية بهذه العلمين. لذلك لن تهمنا هنا.
الجزء الثالث، يأخذ على سبيل الموضوع الأسئلة "المفهومة بشكل غير كامل". لم يكتب عنه ديكارت ولو كلمة واحدة.
لذلك على كل شخص يريد أن يبحث بجدية عن حقيقة الأشياء ألا يقوم باختيار علم معين؛ بل عليه أن يفكر إلا في تطوير النور الطبيعي لعقله، وليس في حل هذه الصعوبة المدرسية أو تلك، ولكن حتى يظهر فهمه بمحض إرادته في كل مناسبة من حياته الاختيار الذي ينبغي القيام به.
يشكل "قواعد لتوجيه الفكر"، المؤلف بين عامي 1628 و1629 ، والذي نُشر بعد وفاته كما قلنا منذ البداية، أول نص فلسفي رئيسي بقلم ديكارت.
من خلال هذه القواعد، يهدف المؤلف إلى توضيح طريقة حل جميع الأسئلة التي يمكن أن تطرح على الإنسان، وإظهار الوحدة الأساسية للفكر، بطريقة تعلن عن "خطاب في المنهج" (1637).
تم تقديم المنهج في هذا الكتاب كترتيب للطبائع، كماتم عرض العمليات الرئيسية للفكر من حدس واستنباط. في نفس الوقت، صاغ ديكارت مشروع الرياضيات الكونية، هذا العلم الذي، باعتباره علمًا شاملا للنظام والقياس، يجب أن يجعل من الممكن حل جميع الأسئلة، وليس فقط تلك التي يمكن حساب حلها رياضياتيا بالمعنى الدقيق للكلمة. هناك العديد من الموضوعات التي تجعل دراسة القواعد تكملة لدراسة الخطاب حول المنهج.
لذلك ينتهي هنا عرضنا لهذا الكتاب، الذي لم يتم نشره إلا بعد وفاة مؤلفه. نص غير مكتمل يعود إلى فترة شباب ديكارت، أعاد صياغته طوال حياته. يمكننا أن نرى فيه أقدم صياغة للمشروع الديكارتي ككل.