نتفق بشكل عام على أن مساهمة جورج لوكاش (1885-1971) الرئيسية في فكر القرن العشرين هي أنه أعاد إلى طليعة التفكير الفلسفي أسئلة الاغتراب والتشيؤ، التي كشف هيجل وماركس عن أهميتها السوسيوتاريخية الاستثنائية. الدراسة حول التشيؤ، التي تشكل جوهر كتاب "التاريخ والوعي الطبقي" (1923)، أثرت على العديد من العقول، بما في ذلك الممثلين الرئيسيين لمدرسة فرانكفورت، من أدورنو وماركوز إلى هابرماس وخلفائه. كما أن صفحات هيجل الشاب حول المكانة المركزية لمفهوم الاغتراب في "فينومينولوجيا الروح" وحول الأهمية الحاسمة لانتقاده من قبل ماركس تركت آثارا دائمة على توضيح الأشكالية.
من ناحية أخرى، فإن التطورات الواسعة المكرسة في كتاب "علم الجمال" لـ "مهمة نزع الفيتيشية عن الفن"، وبالتالي للدعوة إلى لااغترابية النشاط الجمالي، أو وجهات النظر الأصلية حول "الاغتراب الذاتي وإلغائه" كنموذج لمعقولية الإبداع الفني، ولا سيما، الفصل الطويل عن الاغتراب الذي ينتهي به كتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي"، كل ذلك بقي بدون صدى ملحوظ، على الرغم من اهميته الكبرى.
في السيرة الفكرية للوكاتش، احتلت مسألة الاغتراب مكانة خاصة للغاية، وكانت خطا فاصلا حقيقيا في التحول نحو الفكر الماركسي الأصيل خلال فترة النضج. تحدث الفيلسوف في عدة مناسبات عن التأثير المحفز لاكتشاف "المخطوطات الاقتصادية والفلسفية" لماركس، في بداية الثلاثينيات، عندما عرض عليه ريازانوف، عند وصوله إلى موسكو، نصها الذي ظل مدفونا لعقود بين أوراق ماركس، التي لم يكلف أحد نفسه عناء قراءتها.
إن النقد الماركسي للمفهوم الهيغلي للاغتراب، ولا سيما الطعن في مماثلة الاغتراب بالتشيؤ، قلب تفكير لوكاتش: تحطمت بنية الفكر الموضوعة في "التاريخ والوعي الطبقي"، وسقطت مقاييس المثالية الهيجلية من عينيه وفهم لوكاتش نطاق مادية ماركس، وكذلك الأهمية الحاسمة للتمييز بين التشييئ والاغتراب.
إن قرار إعادة صياغة تفكيره على أسس جديدة، بمجرد التخلص من الخطأ الفادح المتمثل في مماثلته، على خطى هيجل، الاغتراب بالتشييء، ومشروع تناول الاغتراب كعملية خاصة، مرتبطة بظروف سوسيوتاريخية دقيقة، وليست نشاطا تأسيسيا للعقل، ذا طبيعة ميتاتاريخية، تشكلت من هذا المنعطف في أوائل الثلاثينيات.
إن التعبير الأكثر نضجا عن هذا التفسير المادي المتجدد الصارم للظاهرة موجود في الفصل الذي عنوانه "الاغتراب"، وهو تتويج لكتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". تم العثور على الاعتبارات التركيبية حول نفس المشكلة، بناءً على النتائج التي تم الحصول عليها في فصل "الأنطولوجيا"، توجد مرة أخرى في "مقدمات إلى أنطولوجيا الوجود الاجتماعي"، آخر نص فلسفي صاغه المؤلف عن عمر 85 عاما، وهو العمر الذي كتب فيه هذا النص، لم يتوقف لوكاتش أبدا عن تنقيح تفكيره في مسألة بدأت تقلقه قبل 60 عاما، عندما ألف كتابه الأول "تاريخ تطور الدراما الحديثة" (1909-1911)، وعندما بدأ، تحت تأثير جورج زيمل وكتابه "فلسفة المال"، في التساؤل عن آثار "تشييء" أو"تسليع" الوجود البشري.
الصمت الذي يلف هذه المرحلة الأخيرة من تفكير لوكاتش في الأدبيات الفلسفية، على الرغم من ثراء التراث المفاهيمي الذي صاغه مؤلف كتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" لتحديد خصوصية ظاهرة الاغتراب، يتم تفسيره من خلال مجموعة من الأسباب التي يجب الوقوف عليها للحظة، لأنها جزء من الأعراض الأيديولوجية لعصرنا.
القراء الأوائل لمخطوطة (Opus postumum) للوكاش كانوا هم الفلاسفة المجريين الأربعة الذين ينتمون إلى دائرة المقربين إليه، ومن بينهم أنيس هيلر وزوجها فيرينك فيهر. انتهى لوكاتش من كتابة الفصل الأخير، الذي يتعلق بالاغتراب، في نهاية ربيع عام 1968 (كما أوضح ذلك في رسالة بتاريخ 25 مايو 1968 إلى سيزار كيسز) وكان ينوي مراجعة المخطوطة بأكملها.
قبل الشروع في هذه العملية، أوكل النص إلى تلاميذه المقربين، وفي المناقشات التي جرت في شتاء 1968-1969، علم بملاحظاتهم واعتراضاتهم. تم نشر الرباعي المعني (هيلر، فهر،ماركوس، فاجدا)، بعد سنوات قليلة من اختفاء المفكر (عام 1971) ولكن قبل ان يطبع وينشر النص الكامل ل"الأنطولوجيا" (ظهر الجزءان في عامي 1984 و 1986 كمجلدين الحادي عشر والثاني عشر من أعمال لوكاتش الكاملة التي ظهرت في ألمانيا الفيدرالية)، وهو نص يجمع اعتراضاتهم وانتقاداتهم. لم يكن من الممكن لأي شخص تكوين فكرة عن أهمية ملاحظاتهم إلا بعد الوصول إلى العمل بأكمله.
تم في موضع آخر ذكر الطابع المزعج للغاية لمبادرة الفلاسفة الأربعة الذين سارعوا لنشر نصهم قبل أن يصبح كتاب "الأنطولوجيا" معروفا (صحيح أن اللوحة الماركسية للوكاش أصبحت ثقيلة جدا على التلاميذ السابقين الذين أرادوا شق طريقهم إلى المؤسسة الفكرية والأكاديمية الغربية)، وبالتالي ساهموا في خلق حكم مسبق غير ملائم حول العمل.
في ما يتعلق هنا على وجه الخصوص بالفصل الخاص بالاغتراب، لا يمكن لنا أن نستبعد الانطباع، بعد قراءة الملاحظات الواردة في النص المذكور أعلاه (والذي يظهر أيضا في المجموعة المعنونة ب"لوكاتش المعاد تقييمه" والمنشورة من طرف المنشورات الجامعية الكولومبية سنة 1983)، بأن الرباعي آنف الذكر بقي أصمً واعمى عن النطاق المبتكر لاعتبارات لوكاتش. يكفي أن نتذكر عتابهم المركزي الذي وفقا له كان لوكاتش في "الأنطولوجيا" قد حول مركز الثقل لظاهرة الاغتراب نحو الجوانب الذاتية للعملية بينما، في كتابه عن "هيجل الشاب" أو في دراسته عن ماركس الشاب ، تم التركيز بشكل رئيسي على الطابع الموضوعي والسوسيوتاريخي للظاهرة (أو وفقا للغتهم: في "الأنطولوجيا"، سيتم التعامل مع الاغتراب على أنه "تصنيفات شخصية"، مع التركيز على التجربة الحية للأفراد، وليس "كمقولة فلسفية"، باعتبارها مقولة تاريخية فلسفية).
حتى القراءة السطحية للفصل المعني تُظهر أن لوكاتش يعارض ذلك التعبير عن أي تفكك للحظات الموضوعية والذاتية، مع الأخذ في الاعتبار باستمرار قطبي الحياة الاجتماعية: المجتمع ككل وتجربة الأفراد الخواص.
الاعتراض الذي تمت صياغته بمثل ذلك التأكيد هو أكثر إثارة للدهشة لأن مؤلفي نص "ملاحظات حول أنطولوجيا الرفيق لوكاتش"، خاصة منهم هيلى وفيهر، أكدوا لاحقا أن ما نفرهم من "الأنطولوجيا" كان مشروع توليفة شاملة (أو وفقا للغتهم، المستعارة من الصيغة الما بعد حداثية، مشروع "الحكاية الكبرى")، تعيد إصدار طموحات الأنساق العقلانية الكبرى وفلسفات التاريخ في الماضي. كان يورغن هابرماس هو أول من أبدى ترددا مربكا في مواجهة مثل هذا المشروع، عندما أصبح على دراية بمشروع العمل في الستينيات، وفقا لعرض بنية العمل الذي قامت به أنياس هيلر. من خلال الوثوق بهذا العرض المبسط للأشياء، يبدو أنه قد تخلى عن الاهتمام بـالمؤلف الصادر بعد موت لوكاتش.
كيف يمكن التوفيق بين اللوم الناتج عن مواجهة مشروع عفا عليه الزمن حول "فلسفة التاريخ" أو "الحكاية الكبرى" والانتقادات الموجهة إلى الفصل الخاص بالاغتراب والتركيز على التجربة المعاشة للأفراد؟ وليس على البنيات عبر الشخصية؟
الحقيقة هي أن لوكاتش كان يطور فينومينولوجيا ذاتية حقيقية لفهم خصوصية الاغتراب: لقد صاغ فروقا دقيقة بين التشييء والتخارج، بين تكاثر الكفايات أو القدرات وتآزرها في تكوين الشخصية، بين خصوصية الجنس البشري في حد ذاته وخصوصية الجنس البشري لذاته.
كما حددنا سابقا، بعيدا عن وضع العوامل الموضوعية للاغتراب في الخلفية، فقد عمل على المسك بطرفي السلسلة: قطب كلية الوجود الاجتماعي، بمطالبه وضروراته، وقطب تفرد الأفراد، الذين أكد على وزنهم الذي لا يمكن تعويضه. فكون تفكيره يعطي مكان الصدارة لجوانية الذات، من خلال التأكيد على الفضاء الداخلي، وباكتشاف العتبات المختلفة للذاتية في علاقات التوتر الديالكتيكي بالموضوعية (سيميز ليس فقط بين التشيؤ والتخارج، ولكن أيضا بين التسليع والاغتراب، على الرغم من الروابط بين الاثنين) شكل ميزة كبيرة لتحليلاته، والتي ظل التلاميذ المتسرعين غير ذي إحساس بها بشكل غريب.
وغني عن البيان أن فكر لوكاتش الأخير ، بتحديثه القوي لمفاهيم الجنس البشري وخصوصيته، لم يتمكن من أن يحظى بأدنى تلق سواء من لدن التوسير وتلاميذه.، حيث تنتمي مفاهيم "النوع البشري" أو "الاغتراب" إلى تراث فيورباخي أو مثالي هيغلي قد ولى؛ ولا من لدن محبي فكر الشاب لوكاتش، الذين ظلوا مجمدين في إعجابهم ب"التاريخ والوعي الطبقي"، غير قادرين على قياس خصوبة المسار الذي سلكه منذ طفولته بدء بكتابه عن "هيجل الشاب" ومؤلفيه عن "خصوصية علم الجمال" و"انطولوجيا الوجود الاجتماعي"، ولا حتى من قبل خلف مدرسة فرنكفورت المتوقف عند إعجابه الحصري ب"التاريخ والوعي الطبقي" (تأكيد ينطبق على هابرماس كما على أكسيل هونيث) والمقتنع بأن الطريق التي سلكها لوكاتش بعدما فك الارتباط بكتابه الذي ألفه في مرحلة شبابه لم تؤد (الطريق) إلى نتائج فلسفية مماثلة لتلك التي توصل إليها في كتابه الصادر سنة 1923.
يبدو واضحا لنا، مع ذلك، أن بنية الفكر الموضوعة في العملين التركيبيين "علم الجمال" و"أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" (والذي، حتى لا ننسى، يُنظر إليه على أنه مقدمة للأخلاق) كان لها نطاق فلسفي مختلف تماما عن تلك التي هي أساس كتابه المؤلف في مرحلة شبابه.
رفع لوكاتش الأخير تفكيره إلى مستوى العالمية، من خلال اقتراح احتضان مجمل الأنشطة البشرية ورسم التكوُّن الجيني وتكوين الوعي من أجل رسم المسار الذي يؤدي إلى تقرير مصير الجنس البشري.
تعبر الأسئلة التي تمس الاستقلالية واستقلالية الذات كتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". هذا رد فعل حقيقي على الإشكالية التي طورها هايدجر في "الوجود والزمان"، لأن "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" يتحدث بوضوح عن "أنطولوجيا للذات" قادرة على أن تحل بشكل نهائي محل "أنطولوجيا الدازاين".
إذا اكتفينا بمسألة الاغتراب، التي تؤدي كذلك دورا اساسيا في "الوجود والزمان"، فمن الواضح أن مقاربة المسألة في "علم الجمال" وفي "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" لها افق اوسع من أفق "التاريخ والوعي الطبقي"؛ هذا الكتاب العائد إلى مرحلة الشباب يركز على تسليع الوعي كنتيجة لمعمار الذات في مملكة السلع، بينما يطور كتاب "الأنطولوجيا" نظرية عامة عن الاغتراب، والتي تضم التخلق المتوالي للظاهرة واللحظات الحاسمة التي تتخلل تطورها، من خلال اللجوء إلى كل من مؤلفي "الطرواديات" و"أندروماخيه" ليوربيديس (480 ق.م.- 406 ق.م.) عندما يتعلق الأمر بتجسيد اغتراب النساء في المجتمع القديم، وكذا إلى كتب السوسيولوجيا الأمريكية الحديثة، خاصة أعمال رايت ميلز ودفيد ريسمان ووايت، عندما يتعلق الأمر بتوضيح الآثار المتطرفة للاغتراب على المجتمع البرجوازي المتأخر .
من خلال التساؤل عن خصوصية النشاط الجمالي في أطروحته الضخمة حول "علم الجمال"، انقاد لوكاتش إلى التأكيد على مهمة الفن المتمثلة في تذويب "الفيتيشيات" التي تجمد الوعي على مستوى الممارسة اليومية؛ مهمة الفن لنزع الطابع التسليعي والاغترابي معبر عنها بحقيقة أن "الحواس يصبحون (...) في ممارستها منظريها" وفقا لصيغة ماركس الشاب، من خلال تحرير نفسها من الخضوع لمبدإ الامتلاك (داز هابن ) باسم ازدهار مبدإ الوجود ( دازاين ).
ظهرت ثنائية الامتلاك-الوجود بصراحة في كتابات ماركس الشاب عندما تساءل عن آثار الاغتراب على سطوة "الملكية الخاصة".
في "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي"، تم تحليل التسليع والاغتراب على أنهما نشاطان عالميان للوعي، نظر إليهما في تطورهما التاريخي. يكفي قراءة الصفحات المخصصة للدين في الفصل الخاص بالاغتراب من "الأنطولوجيا" لإدراك النطاق الكوني للظاهرة .
يدور التأويل الماركسي الذي ينبثق من تفكير لوكاتش الأخير حول مفهوم محدد للشخصية البشرية: عندما يعرّف الاغتراب بأنه التناقض بين تعدد الصفات أو القدرات وتآزرها في الوحدة التركيبية للشخصية، فإنه يقوم على فكرة عبر عنها ماركس في "نظريات حول فائض القيمة". لقد دافع مؤلف "رأس المال" عن ريكاردو ضد سيسموندي، مشيرا إلى الطريقة التي تم بها اكتساب تنمية قدرات الجنس البشري على حساب غالبية الأفراد: تفتح الفردية الذي تم الحصول عليه من خلال عملية يتم فيها التضحية بالأفراد يثير في نظر لوكاتش مشكلة التطابق بين تنمية قدرات الفرد وتآزرها في الوحدة التركيبية للشخصية.
يمكننا التذكير بأن لوكاتش، في كتابه عن "هيجل الشاب"، أثار أطروحة ماركس حول عدم التوافق بين تنمية القدرات وتفتح الشخصية لتوضيح أحد أصعب نصوص هيجل وأكثرها باطنية: صفحات مقال عن القانون الطبيعي (1802) من "مأساة الأخلاق".
وفقا للوكاتش، فإن الصراع الذي عبر عنه كتاب "مأساة الأخلاق" يتشخص في كون "المأساة التي يلعبها المطلق إلى الأبد مع نفسه" تعكس على مستوى الكوني الصراع الذي حلله هيجل في الصفحات التي تسبق الاعتبارات المتعلقة بمأساة الأخلاق والذي يتمثل في التناقض بين سطوة الاكتساب (التي يجسدها "البرجوازي"، تحدث هيجل عن "البطلان السياسي" للبرجوازي) وسطوة الأخلاق. أثار هيجل الازدواجية بين المواطن والبرجوازي، وسطوة الاكتساب (وهي سطوة تعدد الصفات والقدرات) تحتاج إلى أن يتم تدجينها (gezähmt) من قبل سطوة الأخلاق (حيث يتم إتقان هذه الصفات تحت علامة الانسجام).
إن الصراع الذي رسمه هيجل بين القوى "الجوفية" أو "غير العضوية" والقوة "الإلهية" سوف يترجم، وفقا للوكاتش، على مستوى تخميني، الصراع الذي سبق تحليله بين سطوة "البرجوازي" وسطوة "المواطن": يمكن بالتالي قراءة صفحات الشاب هيجل حول مأساة الأخلاق كتوقع لنظرية الاغتراب المنصوص عليها في "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي".
لقد رأينا أن التمشي في "الأنطولوجيا" اقتضى الأخذ في الحسبان وباستمرار لفرادات الأفراد، من الحركة ولذاتها بين الاثنين. إن الارتدادات في ذاتية الحركات التي تتطور على المستوى العياني توجد في مركز التحليل. الاعتبارات حول المرور من "صمت" حياة الجنس في عالم الحيوان إلى الأنشطة الغائية التي تميز حياة الجنس البشري، حول انتقال الجنس البشري في حد ذاته، حيث يعمل الأفراد كوكلاء لإعادة الانتاج الاجتماعية، تحت علامة الإكراه و"تحت وطأة الغرق" (حسب تعبير ماركس)، محكوم عليهم بالبقاء متجذرين على مستوى "الخصوصية"، إلى الجنس البشري لذاته، حيث يحتل تأكيد الذات القمة، الاعتبارات حول تفتح الشخصية من خلال العلاقات مع الآخرين القائمة على التبادل والتحرر، تتطور على خلفية هذا التوتر الديالكتيكي بين موضوعية الكلية الاجتماعية والمتطلبات غير القابلة للاختزال للذاتيات. لا يوجد تقارب ضروري بين القطبين، لأن نتائج الأنشطة الغائية الفردية تتجاوز حتما الأهداف المنشودة، بحيث يكون التجميع قادرا على الانقلاب ضد المشاريع الأولية؛ أطروحة لوكاش هذه هي إحدى أسس مفهومه عن الاغتراب.
يسعى لوكاتش في باطن الذات إلى تداعيات الطفرات التي حدثت في بنية الوجود الاجتماعي. إذا وضعنا مثل هذا التركيز القوي على حضور "فينومينولوجيا الذاتية" حقيقية في "الأنطولوجيا"، فذلك لأن هناك ميلا إلى ربط مفهوم الأنطولوجيا بمفهوم الفكر الموضوعي. من المؤكد أن نظرية الوجود الاجتماعي التي طورها لوكاتش تستند إلى عقيدة حول مقولات الوجود (العلاقة بين الغائية والسببية التي تؤسس مفهومه عن العمل هي مشكلة وجودية بارزة) ولكن الغاية من تحليلاته هي التحرر من الذاتية.
يخترق السجال ضد التفسيرات المفرطة في الموضوعية والضرورية للماركسية (تلك التي هيمنت على ماركسية الأممية الثانية، وكذلك على الماركسية الستالينية، وليس من قبيل المصادفة أن يدينهما لوكاتش معا) في "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". لذلك يتطلب الأمر جرعة جيدة من سوء النية للمثابرة على التأكيد على أن "لوكاش الأخير" "تميز إلى حد ما بالستالينية".
لقد رأينا أن مؤلف كتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" يستمد من ماركس، مؤلف "نظريات حول فائض القيمة"، مفهوم الفردانية المتفتحة [تحدث ماركس عن "التطور العالي للفردانية" (die höhere Entwicklung der Individualität)، مع الإشارة أيضا في نفس المقطع إلى مفهوم الجنس البشري [Gattung Mensch]. وبالتالي، فإن تنصل ألتوسير الواضح في هذا السياق له ما يبرره تماما. تم تطوير مفهوم خصوصية الجنس البشري لذاته (Gattungsmässigkeit für sich) انطلاقا من المقطع الشهير في نهاية المجلد الثالث من "رأس المال" حيث يعرض ماركس وجهات نظره حول الانتقال من سطوة الضرورة إلى سطوة الحرية. سوف تجد الماركسية الألثوسيرية صعوبة في التخلص من هذه الحجج، التي توجه ضربة خطيرة للأطروحة الشهيرة حول "القطيعة الإبستيمولوجية" بين ماركس "الإنساني" وماركس "العلمي".
يقدم الاهتمام المتجدد بالأدبيات الفلسفية الحالية حول إشكالية الاغتراب والتسليع مشهدا مذهلاً لعن الإحالة المستمرة والوافرة أحيانا إلى التحليلات التي طورها لوكاتش في "التاريخ والوعي الطبقي" والتي تعتبر كلاسيكية، ولكنه يتجاهل الاعتبارات الأكثر نضجا والمفصلة بصلابة والتي تم شرحها حول نفس الموضوع في "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". لذلك من المهم إلقاء المزيد من الضوء على الجديد القاطع الناجم عن تفكير لوكاتش الأخير على هاتين المسألتين الحاسمين في نظرية الوجود الاجتماعي.
مارس لوكاتش في مؤلفه الكبير ذي التركيب الفلسفي مقاربة جينية لتكوينات الذاتية، ما سمح له بأن طور، مثلا، تحليلا متمايزا لأشكال التسليع، عن طريق فصل التسليعات "البريئة" عن التسليعات "المستلبة". نفس المقاربة الأنطولوجية-التكوينية قادته إلى التمييز، كما ذكرنا سابقا، في كل "وضع غائي" (الوضع الغائي المجسد في حركة العمل، وفقا ل"الأنطولوجيا" الخاصة به هو الخلية المولدة للحياة الاجتماعية) بين لحظة التشييء ولحظة التخارج: فانطلاقا من أفعال تخارج الذات، حيث يتم التعبير عن سمات الذاتية التي لا تمحى (مهارة معينة، مثلا)، تتداعى ظاهرة الاغتراب إلى أن تفهم، وبصورة أدق سيرورة تحويل الذاتية، المخصصة لأهداف غريبة عن تأكيدها الذاتي.
إنما التاويل الأنطولوجي-التكويني لصيرورة الذاتية، معتبرا في تعدد اشتراطاته الموضوعية (الفسيولوجية والاجتماعية)، هو الذي سمح للوكاتش بالتمييز بين تخارج غير مستلب وتخارج مستلب، علما بأن الاغتراب ليس سوى حالة خاصة من التخارج، المرتبط بظروف تاريخية محددة.
إنها نفس المقاربة التكوينية- الأنطولوجية التي تسمح للمفكر بتعريف التسليع على أنه اللحظة التي تتحول فيها طبيعة سيرورة وصيرورة الواقعي إلى تكوينات شيئية، علما هنا مرة اخرى بأنه من الضروري التمييز بين تثبيت ذي طبيعة شيئية تسمح للذاتية بتأكيد سيطرتها على الواقعي (يلعب "التسليع" دورا إيجابيا في هذه الحالة، كما هو الحال مع العديد من الأشياء التقنية، وبالتالي فهو "بريء" فيما يتعلق بالاغتراب)، عن "التسليعات المستلبة"، حيث تصبح صيرورة-شيء الذاتية بمثابة سند لسيرورة تخضع فيها لضرورات أجنبية. يشير لوكاتش إلى ظاهرة العبودية، مع اختزال الفرد إلى أداة صوتية، كمثال رئيسي على "التسليع المستلب". إن تحويل قوة العمل إلى بضاعة، خاضعة لمتطلبات رأس المال، لن يكون إلا شكلاً "مصقولا" من نفس التسليع المستلب.
يمكن لنا قياس حجم التغييرات التي حدثت في فكر لوكاتش بعد أن تحرر من التاويل ذي النمط الهيجلي للاغتراب، السائد في "التاريخ والوعي الطبقي"، والذي يماثل الاغتراب كما التسليع بالتشييئ (تم تشبيه الوعي بنموذج العقل الذي فقد وحدته - اغترب عن ذاته - وهو يتشيئ) والتقدم الحاسم الذي يمثله تحوله نحو أنطولوجيا مادية بالنتيجة ونحو التحليل الأنطولوجي-التكويني لظهور أنشطة الوعي.
حملت واقعيته الأنطولوجية لوكاتش أولاً على التمييز بحزم بين التشيؤ (Gegenständlichkeit) والتشييء (Vergegenständlichung): الأول يعبر عن الاكتفاء الذاتي الأنطولوجي للوجود في حد ذاته، غير مبال بحكم التعريف بأفعال التخوف (الإدراكية أو العاطفية) للذات، والثاني من ناحية أخرى هو بشكل ظاهر نشاط الوعي، الذي يطبع غاياته الخاصة على الأشياء. يتم التعامل مع الشيء ذاته كمقولة وجودية، معبرة عن التكوينات القارة في صيرورة الظواهر، عن الترسبات ذات الثبات النسبي في سيولة الصيرورة. ينتهي الوعي إلى تسليع نفسه، إلى صب داخليته في خارجية الأشياء (سارتر)، بهدف زيادة تحكمه التقني في الواقع.
بقدر ما تتعدد وتتكاثف الأنشطة التسليعية للوعي، بشكل أكثر دقة بقدر ما يتطور التلاعب التقني بالأشياء (يذكر لوكاتش كمثال استبدال الحودي بالسائق أو ظهور المصنع، مع تكاثر الأنشطة الميكانيكية، التي يصاحبها إنقاص وزن "التخارج") تنشأ الارضية المواتية لظهور ظواهر الاغتراب. وهكذا يخضع تعدد الكفايات والقدرات لعمل بنية مفروضة وليس للتأكيد الذاتي للشخصية . استقلالية الذات، إن وجدت، هي "استقلالية ممنوحة" أو "استقلالية متحكم فيها"، مُحددة مسبقا بحدود ثابتة بشكل صارم، وليست "استقلالية متحققة"، كنتيجة لاختيار حر بديل للذات (صاغ جان بيير دوراند التمييز بين نوعي الاستقلالية في كتابه الأخير). إنه مشهد ظهور الأطر أو العمال الذين يتمتعون بمجموعة واسعة من الكفايات في المؤسسات الصناعية الحديثة الكبيرة لكنهم محرومون من صفة صانعي القرار الأحرار؛ الشيء الذي ربما اقترح على لوكاتش تعريفه للاغتراب بأنه التناقض بين تطوير الكفايات والقدرات ومتطلبات الشخصية. في "مقدمات إلى أنطولوجيا الوجود الاجتماعي"، يقترح بهذا المعنى، من خلال مقارنة محفوفة بالمخاطر إلى حد ما، مواجهة أنتيجون سوفوكليس او أندوماخيه يوربيديس براقنة اختزال حديثة، من أجل إظهار أن الطيف الواسع من الكفايات لدى هذه الأخيرة بعيد عن أن يكون بالضرورة مصحوبا بجوهر أخلاقي حقيقي، يضاهي مهارات البطلات القديمات.
والآن حان أوان الوقوف على تأثير لوكاتش على سارتر وميرلو بونتي. لقد حظي مفهوم التسليع، كما روج له لوكاتش بقوة في الفصل المركزي من كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، باهتمام كبير بين المفكرين الذين جاءوا أحيانا من آفاق مختلفة تماما عن أفقه. إذا كان تأثيره على رواد مدرسة فرانكفورت معروفا جيدا، فإن الأصداء التي يمكن أن تجدها تحليلاته لدى فلاسفة مثل سارتر وميرلو بونتي ربما تكون أقل إدراكا على نطاق واسع.
في تقديمه لكتاب لويس دالماس عن "الشيوعية اليوغوسلافية"، الذي حرر عام 1950 وأعيد نشره في Situations VI تحت عنوان "Faux savants ou faux lièvres"، لجأ سارتر لأول مرة إلى مفهوم التسليع (لم يستعمله لا في "الوجود والعدم"، ولا في "دفاتر من أجل الأخلاق")، وتحت تأثير لوكاتش بدأ في استخدامه حتى طور تحليلات معمقة للظاهرة في "نقد العقل الجدلي". من خلال رد الفعل ضد التلاعب المعمم بالذوات في النظام السوفيتي وضد أساسه النظري، صاغ سلرتر مفهوم "النزعة الموضوعية الستالينية"، حيث كتب قائلا: "أعني بالنزعة الموضوعية هنا موقفا ستالينيًا على وجه التحديد يدعي تاويل الممارسة البشرية، في أسبابها كما في آثارها، من حيث الموضوعية الصارمة. الشيء الذي يعني جعل الذاتية أثرا مطلقا، أي اثرا لن يتحول أبدا إلى سبب".
اعتمد سارتر على التحليل اللوكاتشي للتسليع من أجل إدانة ممارسات إبادة الذاتية في نظام شمولي والدفاع عن عدم قابليتها للاختزال. ورغم المواجهة التي حدثت بين المفكرين في عام 1949 على صفحات مجلة Combat، عندما كان لوكاتش في باريس لإلقاء محاضرته عن هيجل بدعوة من الجمعية الفرنسية للفلسفة، لم يتردد سارتر في اللجوء إلى نصوص خصمه عندما تعلق الأمر بإعطاء تفاصيل دقيقة المحتوى إلى المفهوم الجدلي للتسليع. يمكننا أن نتذكر الحكاية التي تقول، في هذا السياق، إن سارتر لام لينين لأنه نسي كلمة Verdinglichung (التسليع). عندما أكد أن بنية الحزب مصممة على غرار بنية المقاولة الحديثة. قال سارتر: "لينين محتال"، مذكّرا بأن المذهب التيلوري للمصنع الحديث اختزل الأفراد إلى آلات: بدا له تأكيد لينين على أنه الضمانة المثالية للتسليع. كل هذا لم يكن ليسعد لوكاتش الذي حاول بدقة في "التاريخ والوعي الطبقي" أن يؤسس عقيدة الحزب الثوري من النمط اللينيني كأداة للتحرر واللااغتراب.
تتطلب المواجهة بين آراء سارتر وآراء لوكاش حول المسألتين الأساسيتين المتمثلتين في التسليع والاغتراب إعادة بناء دقيقة للتحليلات التي طورها الأول في "نقد العقل الجدلي" والثاني في "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". لقد تمكنا من إثبات أن سارتر كان حساسا لاعتبارات لوكاتش بشأن التسليع Verdinglichung (دون أن نتمكن من تحديد متى علم الفيلسوف الفرنسي بالكتاب الصادر سنة 1923، والذي لم تكن نسخته الفرنسية موجودة في عام 1950). يمكن لنا أن نتذكر في هذا السياق الإشادة المؤكدة التي قدمها ميرلو بونتي عن الكتاب الماركسي الأول من قبل لوكاتش، والذي يشهد عليه الفصل عن الماركسية "الغربية" من كتاب مغامرات الديالكتيك" (1955) والذي يحتل فيه نقد التسليع مكانة بارزة.
من المحتمل تماما أن يكون ميرلو بونتي أحد المعجبين بلوكاتش، هو الذي نقل إلى سارتر نص لوكاتش (رسالة طويلة موجهة في عام 1946 - حملت الرسالة عنوان الأزمنة الحديثة - من ميرلو بونتي إلى فيلسوف بودابست، فيها تحدث عن حقيقة أن "التاريخ والوعي الطبقي" كتاب لوكاتش الوحيد "المعروف قليلاً" في باريس رغم وجود نسخ قليلة" منه وأنه "ينتقل من يد إلى يد"، يقدم دليلاً على الاهتمام القوي لمؤلف "فينومينولوجيا الإدراك" بلوكاتش، مفكر الذاتية). تكمن المشكلة التي تهمنا هنا في معرفة إلى أي مدى تلائم تحليلات سارتر في النقد نفس الانتقادات التي وجهها لوكاش إلى أخطاء كتابه المؤلف في مرحلة شبابه، وبشكل أكثر تحديدا، إلى أي مدى كان سارتر يميل، مثل لوكاتش في "التاريخ والوعي الطبقي"، إلى مماثلة التسليع، وفوق كل شيء الاغتراب، بالتشييئ.
عندما ظهر للوكاتش عام 1948، كتابه بعنوان "الوجودية أو الماركسية؟" عن دار النشر Nagel بباريس، ركز نقده القاسي للوجودية بشكل طبيعي على :"الوجود والعدم"، كامتداد للتنصل من الكتاب-المصفوفة "الوجود والزمان"، مع الأخذ في الاعتبار كذلك النصوص اللاحقة مثل المحاضرة حول "الوجودية نزعة إنسانية" أو كتاب "المادية والثورة" ( 1946).
لقد كان مستبعدا في ذلك الوقت الشك في أن سارتر سوف يتطور نحو التزام مذهل بأطروحات المادية التاريخية، وذهب إلى حد أن وصف في "مسائل في المنهج" (1957) فكر ماركس بأنه "فلسفة عصرنا"، "لا يمكن تجاوزه" طالما لم يتم التغلب على الظروف التي ولّدته. لذلك رحب الفيلسوف الماركسي باهتمام شديد بنشر " نقد العقل الجدلي" في عام 1960، وهو توليفة عظيمة لمرحلة جديدة من تفكير سارتر، وشعر في البداية بانه يدفعه لكتابة تعليق على عمل كان علامة على تحول سارتر نحو فكر لطالما انتسب هو نفسه إليه.
ومع ذلك، لم يتحقق هذا المشروع، وربما لم يكن التنازل عنه غير مرتبط بكون الاغتراب مسألة صعبة (vexata quaestio)، وهو خط فاصل حقيقي بين "الفلسفة الوجودية" والفكر المستوحى من ماركس. يجب أن نوضح على الفور أنه وفقا لشهادته الخاصة، لم يثابر لوكاتش في قراءة نقد سارتر (قرأ المئتي صفحة الأولى)، ووجد الكتاب "صادقا جدا" ( sehr anständig )، ولكنه "مربك للغاية وممل".
يمكننا أن نضيف أنه وفقا لشهادات أخرى للمعني بالأمر، صُدم لوكاتش بحقيقة أن سارتر دافع في تاويله للمواقف الماركسية التي كانت تشبه في بعض الأحيان كثيرا تلك التي عبر عنها بنفسه ذات مرة في "التاريخ والوعي الطبقي"، وبالتحديد تلك التي كان من المفترض أن يكون قد صححها وتجاوزها بشكل نهائي طي كتابيه "علم الجمال" و"أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". وفي ما يتعلق بمسألة ديالكتيك الطبيعة، مثلا، أو حول الطابع الأنطولوجي للمادية الماركسية، أو في ما يخص غاية عدم التلقي في تعارض مع نظرية الانعكاس، انضم سارتر، دون أن يعرف ذلك، إلى مواقف الشاب لوكاتش، التي رفضت بصرامة وتعرضت للنقد من طرف فكره الناضج. وفي تقديمه المخصص للطبعة الثانية (1967) لكتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، صاغ لوكاتش التأكيد المتناقض بجلاء والذي مفاده أن الحظوة الكبيرة التي نالها كتابه المبكر تعود إلى حد كبير إلى أطروحاته الخاطئة، كان يفكر بالتأكيد أيضا في استعادة الوجوديين الفرنسيين للمماثلة الشهيرة للاغتراب بالتشييئ.
من اتصاله ب"نقد العقل الجدلي" وتحول سارتر إلى المادية التاريخية، اكتسب لوكاتش الاقتناع بأنه على الرغم من التغييرات الكبيرة التي حدثت في فكر سارتر منذ "الوجود والعدم"، فإن الفيلسوف الفرنسي لم يحرر نفسه حقا من المفهوم الهايدجري عن Geworfenheit (عن الإنسان كوجود - مقذوف به - في - العالم). لقد كان التعايش في فكر سارتر الثاني بين الأنطولوجيا الوجودية القديمة والالتزام الصادق والمدروس بأطروحات المادية التاريخية هو ما أثار غضب لوكاتش وشارك مع مراسليه شعوره بأن فكر سارتر ظل مخترقا ب"تمزق" بصمه بعلامة "انتقائية" معينة (هكذا تحدث في رسالة بتاريخ 6 يونيو 1963 إلى آدم شاف عن "اضطراب انتقائي"
(eklektische Zerrissenheit) في فلسفة سارتر الأخير، وفي رسالة وجهها بعد بضعة أشهر إلى البرازيلي كارلوس نيلسون كوتينيو، حدد فكرته، مشيرا إلى عدم التوافق Geworfenheit بين (القذف) الهايدجريّ والأنثروبولوجيا الماركسيّة.
إن فحص مفهوم سارتر عن الاغتراب، كما يظهر من "نقد العقل الجدلي" أو قبل ذلك من "دفاتر من أجل الأخلاق"، من خلال مواجهة مع وجهة نظر لوكاتش، من شأنه أن يفترض اختبارا لأهمية انتقادات لوكاتش المنصبة على استمرار رؤى هايدجر لدى سارتر حول الشرط الإنساني (لمفاهيم "الوجودفيالعالم"، "المشروع" - "Entwurf" (المسودة) - وخاصة " الوجودالمقذوف به"، (Geworfenheit) وانطلاقا من هناك، حول وجود ميل لدى سارتر إلى مماثلة الاغتراب بالتشييء. تبين مقاطع دالة من "دفاتر من أجل الأخلاق" أو "نقد العقل الجدلي" أن مثل هذا التساؤل لا يفتقر إلى التبرير. ولكن، في الوقت الحالي، فإن مثل هذه المواجهة بين سارتر ولوكاتش حول السؤال الدقيق عن الاغتراب توجد خارج نطاق اعتباراتنا. من الضروري الأولى تحليل التصور الهايدجري للدازاين واغترابه (التصور الذي، وفقا للوكاتش، كان سيطبع فكر سارتر حتى في الفترة "الماركسية" من تفكيره)، نحن نفضل تكريس الجزء الأخير من هذا النص لمقاربة هذا المسألة المثقلة لتحديد موقف سارتر.
يمكننا أن نعتبر كحقيقة ثابتة اليوم أنه عندما نشر لوكاتش دراسته الشهيرة عن التسليع، من خلال إحياء إشكالية الاغتراب في مجال الفلسفة الماركسية (لم يفكر ماركسيو الأممية الثانية، بمن فيهم كاوتسكي أو بليخانوف، في قراءة ماركس من هذا المنظور ولوكاتش نفسه جادل في هذه الإشكالية دون معرفة نصوص ماركس الشاب التي احتل فيها مفهوم الاغتراب مكانة مركزية)، كان هايدجر في طور تطوير وصقل مفهومه الخاص عن "الاغتراب"، الذي سيظهره في صورة مكتملة عام 1927 في "الوجود والزمان".
إن تكرارات كلمة الاغتراب في هذا الكتاب، حتى لو لم تكن عديدة، لها أهمية حاسمة في تحديد خصوصيات "أنطولوجيا الدازاين"، خاصة إذا ربطناها بالتطورات الوافرة حول لاأصالة (Uneigentlichkeit ) وأصالة (Eigentlichkeit) الكائن-هنا. كما أشرنا في مكان آخر، فإن العناد الذي حاول به لوسيان جولدمان لعقود من الزمن اعتماد الأطروحة التي بموجبها كان هايدجر قد نقل في "الوجود والزمان" اعتبارات لوكاتش حول التسليع، وبشكل أكثر دقة الأطروحة التي مفادها أن كتاب الفيبسوف الألماني سيحتوي في مواضع حاسمة على ردود على "التاريخ والوعي الطبقي"، لم يؤد إلى النتائج المتوقعة، وتحول بناء جولدمان في النهاية إلى رؤية عقلية.
مع ذلك، كان لفرضيات جولدمان (التي قدمها باعتبارها حقائق مؤكدة) تداعيات واسعة (يمكننا أن نلاحظ أنه في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، تحدث فيلسوف تم نسيانه الآن إلى حد ما، ماكسيميليان بيك، مدير مجلة "دفاتر فلسفية"، عن التقارب الذي كان هو نفسه قد وصفه بأنه "مذهل" بين هايدجر ولوكاتش وأن الفيلسوف الألماني الشرقي، جورج ميندي، طرح لاحقا في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية"، الذي نُشر عام 1956 في برلين، نفس الحجج التي تهدف إلى اكتشاف ردة الفعل على الماركسية اللوكاتشية في "الوجود والزمان") وكان لا بد من نشر محاضرات هايدجر وكتاباته غير المنشورة التي تنتمي إلى الفترة التي سبقت نشر كتاب لوكاتش لإدراك أن استخدام مفهوم Verdinglichung وإشكالية الاغتراب بشكل عام كان حاضرا لدى هايدجر قبل وقت طويل من نشر لوكاتش لكتابه .
يبدو أن لوكاتش نفسه قد حاول لبعض الوقت النظر إلى حجة جولدمان وميندي على أنها "معقولة"، كما يظهر من رسالة إلى ناشره فرانك بنسلر بتاريخ فاتح ماي 1961. بعد ذلك بعامين، عندما رد على رسالة من كاريل كوسيك سأله تحديدا عن احتمالية رد فعل هايدجر في كتابه "الوجود والزمان" على كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، كان أكثر حذرا، حتى أنه صاغ الملاحظة الصحيحة جدا بأن حضور مفهوم "Verdinglichung" في عمل هايدجر لم يكن حجة كافية على الإطلاق لدعم مثل هذه الفرضية. أخيرا، في التقديم الذي كتبه عام 1967 خصيصا ل "التاريخ والوعي الطبقي"، قام ببساطة بوضع سؤال وصفه بأنه "فقه لغوي" بين قوسين (رفع مستوى المناقشة التي بدأها جولدمان من خلال التأكيد على أن أسئلة "التأثيرات" ثانوية في نهاية الأمر) واقتصر على تحديد أن مسألة الاغتراب كانت ضمن "روح العصر" عندما ظهر الكتابان، ما يفسر وجودها المركزي في كليهما. يبدو جوهر المشكلة بالفعل بالنسبة لنا في مكان آخر: في مقالته النقدية بعنوان "Heidegger redivivus" (إعادة قراءة هايدجر)، التي ظهرت سنة 1949 في كتابه "المعنى والشكل" وفي الترجمة الفرنسية التي نشرت في مجلة "أوروبا"، وكذلك في الصفحات المخصصة لهايدجر ضمن كتاب "تحطيم العقل"، تقدم لوكاتش بأطروحة مفادها أن التحليلات التي غدت شهيرة والمكرسة في "الوجود والزمن" للوجود المغترب سوف تمثل المقلوب "الأنطولوجي" لنقد النزعة الفيتيشية الذي طوره ماركس.
في "إعادة قراءة هايدجر"، من خلال الإشارة إلى الاستنتاجات التي صاغها باحثون مختلفون حول هذا الموضوع (ربما كان يفكر في جولدمان، وربما أيضا في ماكسيميليان بيك)، وصف "الوجود والزمن" بأنه "مواجهة عظيمة" (eine grosse Auseinandersetzung) مع أطروحات ماركس حول النزعة الفيتيشية، وفي كتابه "تحطيم العقل"، أول الكتاب على أنه رد فعل قوي ضد الفكر الماركسي وضد صعود الاشتراكية (وضع "الوجود والزمن" ضمن امتداد "تجاوز" المادية التاريخية عند زيمل، من خلال الكشف فيه عن نفس منهجية "التسامي الأنطولوجي" للمعطيات التاريخية-الاجتماعية).
إن عدم ذكر اسم ماركس أو غياب أي إشارة إلى فكره في "الوجود والزمن" أكدهما لوكاش، لكنه لا يرى فيهما حجة من شأنها أن تبطل أطروحته، لأن المرور على الماركسية في صمت كان في نظره شيئا معتادا في الإنتاج الفلسفي لذلك الوقت، ومن ناحية أخرى، كما كتب إلى كوزيك، بدا له أنه من غير المحتمل أن هايدجر لم يصادف الماركسية في طريقه (لتبرير تخمينه، قام بالتوازي بين مساري ماكس شيلر وياسبرز: الأول كان سيجد الدعم لفكره حول المجتمع في كاثوليكية تلك الفترة، بينما تميز الثاني بتراث ماكس فيبر، في حين كان من المعقول أن هايدجر، عبر بناء أنطولوجيا اجتماعية في "الوجود والزمن"، بدون مرجعية لاهوتية، كان سيصادف الماركسية في طريقه).
ظهر مفهوم الاغتراب (Entfremdung) لأول مرة عند هايدجر في محاضراته التي ألقاها خلال موسم1921-1922 وفي مخطوطة عن أرسطو المرسلة إلى ناتروب عام 1922 والتي تم اكتشافها فقط في نهاية الثمانينيات ونشرت في كتاب بعنوان: Dilthey-Jahrbuch؛ وظهر مرة أخرى في أماكن مختلفة في "الوجود والزمان"، في سياق التحليلات المكرسة للاأصالة. المعارضة التي أقامها لوكاتش بين مقاربته لسيرورات الاغتراب، التي يصفها بأنها اجتماعية-تاريخية بشكل بارز، وتلك الخاصة بهايدجر، والتي وصفها بـ "التسامي الفلسفي" أو "الأسطرة الأنطولوجية" (المعنى الضمني الذي يفيد تحريفا تأمليا للظواهر التي تنتمي إلى الملموس السوسيو-تاريخي) اثارت المسألة المثيرة جدا، والقليلة الوضوح في النهاية، حول تجذر عمل هايدجر الرئيسي، "الوجود والزمان"، في السياق السوسيو-تاريخي لتكوينه.
هل يمكننا فك رموز الأوصاف اللافتة للنظر لوجود هايدجر اللاأصيل كصورة منمقة ودقيقة لسيرورات الاغتراب الخاصة بالمجتمع الرأسمالي الحديث، ك"تسام فلسفي" لـ "النزعة الفيتيشية"، التي كان ماركس سيكشف عن نوابضها الاقتصادية-الاجتماعية الحقيقية؟ هذا ما أكده لوكاتش.
إن نشر سائر الدروس تقريبا التي قدمها هايدجر خلال الفترة الممتدة من 1919 إلى 1927، ناهيك عن نشر مخطوطات غير منشورة مثل المخطوط عن أرسطو أو المحاضرات مثل تلك التي تناولت موضوع الزمان، بوتقة حقيقية للأفكار جعلت من الممكن إعادة بناء نشأة "الوجود والزمان"، يوضح الكثافة التي ركز بها تفكيره على ظاهرة الاغتراب. درس 1921-22 بعنوان "الشروح الفينومينولوجية. مقدمة في البحث الفينومينولوجي"، المنشور سنة 1985 كمجلد 61 من الأعمال الكاملة، بلور عددا كبيرا من المفاهيم التي تقترح تقييد سيرورات فقدان الذات والهوية الذاتية لصالح آخرية العالم (في هذا الدرس، يستخدم هايدجر المصطلح القوي "Ruinanz" لتعيين الاغتراب الذاتي).
في مواجهة هذا التضخم في المفاهيم (قدم جون فان بورين قائمة تنويرية بها في كتابه عن هايدجر الشاب)، نتذكر صيغة بنديتو كروتشي، الذي استخلص من قراءة "الوجود والزمان" مع تنويعاته المتعددة في التحليلات الفينومينولوجية للدازاين، صورة "كاتدرائية بروست". الشيء الضروري لغرضنا هو أن هايدجر وصف "الانحطاط" ( Verfallen) أو "الاغتراب" (Entfremdung) باعتباره قدرا أنطولوجيا للشرط الإنساني، يخرق بالضرورة كل تنسيب سوسيو-تاريخي. إن الواقع الإنساني ينغمس بطبيعته في عالم يحرمه من أصالته: الانحطاط ملازم للوجود هناك، "الوجود-في-العالم" بمصادرة الذات من طرف المطالب الدنيوية؛ للوهلة الأولى وفي أغلب الأحيان ( zunächst und zumeist) يتم تسليم الذات إلى القوى المسؤولة عن اغتراب الإنسان. لذلك لم يكن لوكاتش مخطئًا عندما وجه نقده إلى "التسامي الأنطولوجي" للاغتراب عند هايدجر. يكمن الدليل على صحة هذا النقد، في رأينا، في حقيقة أن مؤلف كتاب "الوجود والزمان دحض بصراحة أي محاولة للحد من الاغتراب في حالة تاريخية محددة، يمكن تعديلها والقضاء عليها بشكل نهائي بفعل قوى "التقدم": الطريقة التي سخر بها من كلمة "تقدم" ذاتها، مستنكرا أوهام أولئك الذين يثقون في "مرحلة من الثقافة الإنسانية" يمكن فيها القضاء على الاغتراب، تمثل بشكل موضوعي كذلم رفضا قاطعا للمفهوم الماركسي عن التاريخ. لذلك فإن تاويل "الوجود والزمان"، كما اقترح لوكاتش، كآلة حرب قوية ضد الهيجلية-الماركسية، لا يبدو لنا خيالا أيديولوجيا.
ومع ذلك، إذا كان الأمر يتعلق بفك الشفرات في فينومينولوجيا الهايدجرية حول "الإنسان" ردا على التحليلات الماركسية لـ "فيتيشية السلع" (تحدث لوكاتش في "تحطيم العقل" عن ردود الفعل الذاتية للفيتيشية التي كان هايدجر يستهدفها في توصيفاته النقدية، وهو ليس نفس الشيء تماما)، سنكون أكثر ترددا، خاصة بعد التعرف على المقاربات المتتالية للتسليع والاغتراب في دروس ومخطوطات هايدجر خلال عشرينيات القرن الماضي.
لا يخلو من الاهتمام أن نذكر حقيقة أنه في نهاية حياته، بعد أن حاول في لحظة معينة ليأخذ بجدية أطروحات جولدمان وجورج ميندي حول التأثير المحتمل ل"التاريخ والوعي الطبقي" على "الوجود والزمان"، والتحدث بطريقة محفوفة بالمخاطر في رأينا عن هايدجر الذي يرتبط "بشكل واضح" بأطروحات ماركس، تخلى لوكاتش نفسه تماما عن هذا التخمين.
خلال إحدى المقابلات الأخيرة معه، في مارس 1971، أخبرنا عن شكوكه في أن هايدجر ربما كان مهتما في ذلك الوقت (في منتصف العشرينات) بكتاب "التاريخ والوعي الطبقي" الذي راى النور في برلين عام 1923 من قبل ناشر يساري متطرف يدعى مالك فيرلاج. وفقا للوكاتش، الأستاذ الجامعي الألماني بهياة مثقف وعقلية هايدجر، من غير المرجح أن يكون مهتما بكتاب صادر عن دار نشر كهذه. قد تبدو حجته عشوائية تماما، لكن يمكننا أن نثق في البصيرة الإيديولوجية لواحد من مثيري القضية الرئيسيين.
من جانبه، نفى هايدجر دائما، كما نعلم، أنه كان لديه معرفة بكتاب لوكاتش (انظر مثلا إجابته على السؤال الذي صاغه بهذا المعنى فريديريك دي تورنيكي في مجلة Cahiers de l Herne، العدد الخاص بهايدجر، ص: 162).
لم يكن مصدر استلهام مفهوم الاغتراب الهايدجري هيغليا على الإطلاق، كما هو الحال مع ماركس وعبر ماركس مع لوكاش. نشر الفيلسوف الإسرائيلي ناثان روتنستريتش في الثمانينيات مسحا رائعا لتاريخ مفهوم الاغتراب، منطلقا في بحثه عن المصادر من أفلوطين والقديس أوغسطين. في دروس هايدجر التي ألقاها خلال موسم 1921–22 المذكور أعلاه، ارتبطت الاغتراب بالمحاولة، بالاطمئنان، بالسلب، كواحدة من اللحظات الأربع المحددة لـ "الانشغال المهموم بالعالم". كان تأثير كتابات التصوف وعلم اللاهوت القرووسطى قوياً في ذلك الوقت لدى هايدجر. إن فهمه لسيرورة الاغتراب، الذي حدد الأخير بتفوق العالم على الذات في الوضع الثنائي للوجودفيالعالم، اكتسى تلوينا لاهوتيا قويا.
إن الإصرار الذي أكد به هايدجر في دروسه التي ألقاها في أوائل العشرينيات من القرن الماضي وقبل كل شيء في مخطوطة عام 1922 على أن "الانحطاط" ( Verfallen) يشكل جزء من الوجود البشري، وأن مصدر الاغتراب متأصل في الوجود الدنيوي باعتباره كذلك، بقدر ما تسمح الذات لنفسها بأن يتكفل بها العالم (وبالتالي يبدو بالفعل أنها تماثل الاغتراب بالتشييء!)، والطاقة التي بها تتنصل من اولئك الذين يثقون في "اكتمالية" الطبيعة البشرية وفي إمكانية تجاوز الاغتراب في "عصر أكثر سعادة في الثقافة الإنسانية"، يذكران بطرق عديدة بالعقيدة المسيحية عن "الخطيئة الأولى" (حتى لو دافع هايدجر عن نفسه بشكل طبيعي في "الوجود والزمان" لتحديد الوجود "المنحط") ويبرران تاويل فكره على أنه لاهوت معلمن (ذهب كارل لوفيث و لوكاتش في هذا الاتجاه).
تكون أوجه التشابه أكثر وضوحا عندما نلاحظ أن الاغتراب من جانب "الإنسان" يتطابق مع الوجود المريح والآمن، والذي يسمح لنفسه بأن تلفه إغراءات العالم (يرتبط الاغتراب صراحة بالغواية - Versuchung - وبالتهدئة - Beruhigung ) وأن الحركة المضادة التي تهدف إلى انتزاع الوجود-هناك من الاغتراب تتم مماثلتها مع لاطمأنينة الوجود: الوجود المريح ("البرجوازي") مرادف لاحتجاب الوجود الأصيل ( Verdeckung - الاحتجاب - هو فعل يتكرر كلازمة في "الوجود والزمان" للإشارة إلى الوجود المنحط). نحن نفهم كيف أن تمسك هايدجر بحركة سياسية مدعوة في نظره إلى تجسيد هذا التكفل ب"الصلابة والثقل" (اللذين تحدث عنهما في المحاضرات التي ألقاها خلال موسم 1921-1922) اندرج ضمن الخطوط الداخلية لفكره.
أكد لوكاتش بحق على الدور الذي لعبه منتقدو مقولة "الأمان" في الصعود القوي لإيديولوجيات اليمين المتطرف (ذكر بأن الأمان كان مقولة مهمة في النزعة الإنسانية الألمانية الكلاسيكية وأن فيلهلم فون هومبولت كان أول من صنفها على هذا النحو) وهو لم يغفل ذكر مساهمة فكر هايدجر وياسبرز في "اضطراب" أيديولوجية الأمان.
ظهر مفهوم الاغتراب بطريقة مذهلة عند هايدجر في مقطع ذكر مرارا من كتاب "رسالة في النزعة الإنسانية" (حرر في خريف عام 1946) وهذه المرة بإشارة مباشرة إلى ماركس. إذا كان من غير المرجح أن لهايدجر علما بنصوص ماركس أو بالنصوص الماركسية في الوقت الذي كتب فيه "الوجود والزمان" (رأينا أن لوكاتش نفسه تخلى عن فكرة أن الفيلسوف الألماني كان مهتما بكتاب مثل "التاريخ والوعي الطبقي")، فلدينا يقين أنه في عام 1932 اكتشف نصوص ماركس المبكرة من خلال قراءة المختارات التي نشرها في العام نفسه سيجفريد لاندشوت تحت عنوان "الاقتصاد الوطني والفلسفة" (كرونر فيرلاغ). لقد لاحظنا في مكان آخر وجود صدى مباشر لقراءته للمجلد في ملحق محاضرة 1932 حول النظرية الأفلاطونية عن الأفكار. يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار تأكيد هايدجر في رسالة رده على كارل لوفيث، حيث أقر باستلام كتيب بعنوان "ماكس فيبر وكارل ماركس"، الذي نُشر في عام 1932، حيث أسر لمراسله بأنه لا يعرف كارل ماركس (قد نذكر بشكل عابر أنه في كتابه كال لوفيث عدة مرات المديح ل "التاريخ والوعي الطبقي").
لذلك، من خلال مختارات لاندشوت اكتشف هايدجر الوزن الثقيل لمشكلة الاغتراب في فكر ماركس ونطاق حواره النقدي مع هيجل؛ ذلك ان المقطع من "رسالة حول النزعة الإنسانية"، حيث يذكر هايدجر أهمية أطروحات هيجل وماركس حول الاغتراب، بل يطرح فكرة التفوق التي تعود في هذه النقطة الحاسمة إلى الفكر الماركسي حول التاريخ في علاقة بفلسفة هوسرل أو سارتر، هو بمثابة صدى لهذا الوحي المتأخر ويظهر مدى حساسيته لاكتشاف تقارب في الإشكالية مع فلسفته الخاصة.
انطلاقا من هذا الموقف المبدئي، (كان كارل ياسبرز منزعجا جدا، لأنه رأى فيه تنازلا "غير مسؤول" لصالح الفكر العدو)، إذا توخى كاتب الرسالة "حوارا مثمرا" مع الماركسية، يجب التذكير برد الفعل الحاد للوكاش في "إعادة قراءة هايدجر" الذي، بينما وجد هذه الإحالة المباشرة الأولى إلى ماركس "مثيرة جدا للاهتمام" في نص نشره هايدجر، حذر من أي تقارب في الموقفين.
لطالما فسر لوكاتش اللاحتمية الأساسية التي تأثر بها "الإنسان" الهايدجري، في "الوجود والزمان"، بسماته السلبية التكوينية: التسوية، الرداءة، الاقتلاع، كإفساد لمصداقية الاجتماعية باعتبارها كذلك، بينما تكشف في الوقت نفسه عن صورة دقيقة ومنمقة للتلاعب المعمم الذي يتعرض له الأفراد في المجتمع البرجوازي الحديث. انصب جوهر تصويره الإشعاعي النقدي لفكر هايدجر على الطريقة التي غير بها هيأة مؤلف كتاب "الوجود والزمان" من الناحية الوجودية، أو بشكل أكثر دقة أضفى الطابع الكوني على وضع تاريخي خاص، وضع مثقف ألماني محافظ في مواجهة استفحال ظواهر الاغتراب و"الانحطاط" في الحياة العامة لذلك الوقت. وهكذا افتتح لوكاش قراءة تاريخية ل"الوجود والزمان" (في مجموعته المنشورة بعد وفاته عن هايدجر، شرع غونثر أندرس أيضا في هذا المسار، واصفا فلسفة هايدجر الأول بـ "فلسفة التحدي"، "فلسفة رغم انف ...") التي ستعاود الظهور في الأدبيات النقدية الحديثة التي أثارها الجدل حول هايدجر والنازية. لا شيء أفضل يوضح هذا التأطير السياقي النقدي ل"الوجود والزمان") عند هايدجر من غاية اللاتلقي المعارضة لـ "الديمقراطية": كون هايدجر يصف "غياب" "المسؤولية" كخاصية تكوينية للوجود العام يذكر منتقده باللعنات التي ألقاها اليمين المحافظ على الديمقراطية باعتبارها عهدا من اللامسؤولية تحت استبداد الأغلبية الحسابية.
ما وضعه لوكاتش موضع تساؤل في "التسامي" الأنطولوجي للتحديدات التاريخية-الاجتماعية التي قام بها هايدجر (يمكننا أن نتذكر أن الاغتراب الذي تحدث عنه هايدجر الأول يصبح "غيابا للوطن" و "نسيانا للوجود" لدى هايدجر الثاني)، كان حجبا للتكوين التاريخي-الاجتماعي الحقيقي لـ "الوجوديات" الذي تم استحضاره ، وتحييدا للديالكتيك التاريخي الحقيقي بهذه الوسيلة وإنعكاسا لنوع من الاغتراب بواسطة مسلك أسطوري بحت ثبت، في الملموس التاريخي-الاجتماعي، أنه حامل لأسوإ المخاطر. سيسمح الكائن المغترب لنفسه بأن يُعاد فهمه من خلال "بداية أخرى" ( البداية الأخرى مفهوم رئيسي في فكر هايدغر الثاني): حدد لوكاتش في "التاريخ والوعي الطبقي" هذه الطريقة في "التعميق" الوجودي للسيرورات التاريخية-الاجتماعية من خلال التحدث عن "التسطيح بواسطة "العمق"، و لم يتوقف أدورنو عن استحضار صيغة لوكاتشية بدت له أنها توضح جيدا استراتيجية تفكير خصمهما المشترك.