يشكل الجسد محوراً قوياً في فكر ميشيل فوكو. في عام 1963، قدم كتاب «ولادة العيادة» نفسه باعتباره تاريخا للتوزيعات المكانية التي تجريها النظرة الطبية على الأجسام. إنما بعد ذلك في السبعينيات، وخاصة عندما أعطى التحول الجينيالوجي الذي أحدثه فوكو للجسد أهمية أساسية: شكل الأخير آنذاك نقطة البداية لتحقيق كان يرتكز على التجربة الجسدية للسجن، في نفس الوقت ظهر، في نهاية هذا التحقيق، كدعم وهدف لسلطة أعيد تعريفها. ولكن من الضروري التأكيد على أن الجسد يظهر في هذا البحث بشكل ثانوي، كمفهوم نسبي دائما: نسبي بالنظر إلى المعرفة المأخوذة من الأجساد المعرضة للنظر، ونسبي قبل كل شيء بالنظر إلى السلطة التي تخترق هذه الأجساد وتشكلها كموضوعات لهذه المعرفة.
لكن من خلال هذه النسبية أيضا استقطب الجسد جوانب مختلفة من كتابات فوكو، مثل كمون لم يلج إليه إلا جزئيا ومن خلال تحقيقات متتالية، دون أي ادعاء يالكشف عنه في حقيقته.
هذا الوضع الغامض للجسد، الذي يبدو أساسيا وثانويا في نفس الوقت، والذي كشف عنه البحث ولم يلج إليه، يجب إلحاقه منذئذ بصعوبة داخلية في هذا الأفهوم. إن تحديد هذه الصعوبة يشكل مساهمة فوكو الأساسية في الفهم الفلسفي للجسد، وفي الوقت نفسه يشير إلى موقع مشكلة أساسية تؤثر على تأويل عمله.
تتمثل لفتة فوكو في اعتبار الأجساد سطحا لطبع سلطة حقيقتها الوحيدة هي العمليات التي تجريها عليها. لكن في المقابل، لا يمكن القبض على الأجساد إلا بالشكل المحدد الممنوح لها من خلال سلطة لا يمكنها الهروب منها. لذلك فإن كل شيء يحدث كما لو أن الجسد والسلطة يكيف كل منهما الآخر بشكل متبادل، والمشكلة التي تتبع ذلك هي مشكلة حقيقة الأجساد خارج السلطة، ولكن أيضًا مشكلة فعاليتها المحتملة ضد السلطة.
من هنا يمكن رؤية هذه المشكلة من ثلاث وجهات نظر. الصعوبة مفاهيمية في المقام الأول. منذ السبعينيات، جنح فوكو إلى تعريف الجسد والسلطة بشكل متبادل، بحيث لا يمكن فصل حداثة تصوره للجسد عن إعادة صياغة أفهوم السلطة. في هذه الصياغة، ليست السلطة جسدية فقط من حيث أن تعريفها يتم من خلال "ميكرو-فيزياء " محايثة للجسد الاجتماعي، بعيدا عن نموذج دولتي، ولكنها تفرز أيضا أجسادا فردية تمارس عليها وتندمج فيها.
بين السلطة المحددة بجسديتها والأجساد الفردية المتأثرة بالسلطة، يطرح السؤال حول التمييز الذي يمكن أن يأتي لتحديد أفهوم الجسد ويمنع من تماهيه بشكل صارم مع أفهوم السلطة.
من محايثة السلطة للجسد تنتج أيضا صعوبة أنطولوجية. وبقدر ما لا تصبح الأجساد مرئية إلا في الشكل المحدد الممنوح لها من خلال استثمارها من قبل السلطة، فإن الأخيرة تظهر في الواقع كشرطها الإبستيمي. فمن خلال السلطة تصبح الأجساد في تعددها متاحة بشكل موضوعي للمعرفة.
يقترح ماتيو بوت-بونفيل تصور التعريف المعياري للجسد باعتباره "علة وجود تعددية الأجساد الأقدم منها، وهي تعددية تمنع بالتالي اعتبار الصيغ المختلفة للفردية الحديثة بديهية، مرضية ونهائية". ومنذ ذلك الحين، يطرح السؤال مع ذلك حول الأساس الأنطولوجي المحتمل للأجساد باعتبارها ركيزة للسلطة. لمتابعة القياس الكانطي الذي افتتحه ماتيو بوت-بونفيل، ألا يمكننا في الواقع التأكيد على أن الأجساد تشكل علة وجود للسلطة؟ عندها لن يتم إنتاج الأجساد بواسطة السلطة بنفس الطريقة التي يتم بها إنتاج الفرد الذي يجعل المعرفة الموضوعية بهذه الأجساد ممكنة؛ أو أن الذات هي التي تجعل من الممكن عودة انعكاسية إلى نفسها. ومع ذلك، يفترض مثل هذا المنظور أن يكشف عند فوكو، خلافا للموقف الاسمي الذي يدعيه، عن حيوية يمكن للإلهام النيتشوي الذي يدعم التحول الجينيالوجي أن يسندها.
إن مناقشة هذا التجذر الحيوي للسلطة يغذي عددا معينا من الاستخدامات المعاصرة لفوكو. كما أنه يلقي الضوء على التأويل الذي اقترحه دولوز، منذ نشر "إرادة المعرفة"، لهذا التمفصل بين السلطة والحياة، من خلال إعطاء هذه الأخيرة أولوية وجودية بالنظر إلى السلطة.
لكن، إذا كان هذا النقاش يتجه إلى بلورة المشاكل التي يطرحها الفهم الفوكوي للجسد، فذلك لأنه يخفي صعوبة ثالثة، وهي صعوبة النظام السياسي. فالإمكانية المفتوحة من قبل المسلمة الحيوية هي بالفعل إمكانية سلطة الأجساد؛ أي أنها لا ترتبط فقط باستثمار الأجساد من قبل السلطة، بل باستثمار مضاد للسلطة من قبل الأجساد.
في الواقع، من دون هذه المادية المتمردة للأجساد، كيف يمكننا تصور مقاومة السلطة التي لم يفشل فوكو في تناولها؟
هذه النظرة العامة الأولى يجب أن تكون بمثابة خط إشكالي لفهم أفهوم الجسد عند فوكو. باختصار، يتعلق الأمر بمعرفة بأي معنى يمكن أن نقول، مع فوكو، إن السلطة "تصنع جسدا" و"تصنع أجسادا ". لذلك فإن طموح هذا المقال هو قبل كل شيء الكشف عن مصطلحات التمفصل بين الجسد والسلطة في نص فوكو، من أجل توضيح إحداثيات هذه الإشكالية. ل
لقيام بذلك، نود أن نتساءل بشكل خاص عن أفهومي الفرد والذات، اللذين يظهران أثناء استثمار السلطة من قبل الأجساد. إذا كانت هذه المقولات نتاج دمج أولي للسلطة، فإنها بالفعل يمكن أن تصبح داعمة للمقاومة المبذولة انطلاقا من الجسد، ولكنها تمر أيضا عبر أشكال أخرى من التفردنات وأشكال أخرى من التذويتات.
- التشريح السياسي: الفرد والجسد المادي للسلطة
الإجراء الأول الذي قام به فوكو في ارتباط بالتحديد الجسدي للسلطة تمثل في إعادة تقييم الاستعارة العضوانية الكامنة وراء فكرة "جسد السلطة". ضد هذه الصورة المقامة على مماثلة بين الجسد الفردي والجسد الدولتي، أراد فوكو أن يثبت جسدية واقعية للسلطة. يتعلق الأمر إذن بالنسبة إليه بأن يدفع، أولا، بأن "الجسم السياسي" يجب أن يفهم بمعنى تشريحي، مثل "مجموعة من العناصر المادية والتقنيات التي تصلح كأسلحة، كرافعات، كقنوات للتواصل، وكنقط ارتكاز لعلاقات السلطة والمعرفة التي تستثمر الأجساد البشرية"، وثانيا، بأن السلطة لا تزاول وفق شكل "أساسي" (capitale) وسيادي، بل تمارس على مستوى "زغبي" (capilaire) للأفراد أنفسهم. إن الإثبات المفاهيمي لجسدية السلطة والافتراض التاريخي لانتقال طرقها في الممارسة، من "رأس" الجسد السياسي حتى "الزغبات" التي يحاك منها، هما منذئذ الأطروحتان الرئيسيتان اللتان دافع عنهما فوكو قي "المراقبة والمعاقبة"، كما في الدروس التي ألقاها في بداية السبعينيات".
التأكيد الأول عبارة عن اتخاذ موقف مفاهيمي به انخرط فوكو عن خطإ ضد تمثل مشترك للجسد السياسي، وضد مفهمة مزدوجة للسلطة ساهم هو نفسه أولا في دعمها. وعلى النقيض من الفكرة الاستعارية عن "جسد اجتماعي قد يتشكل من عالمية الإرادات"، يؤكد فوكو بالتالي أنه "ليس الإجماع هو الذي يجعل الجسد الاجتماعي يظهر"، بل "مادية السلطة على أجساد الأفراد انفسهم". إن الخيال التصالحي لجسد اجتماعي الناتج عن الاتحاد الحر للإرادات يرتكز بالفعل على التعارض الضمني بين قوة مادية عنيفة بالضرورة، وسلطة سياسية أكثر شرعية بحيث لا تكون مادية. لكن، في مواجهة هذه المعارضة، يقصد فوكو التأكيد، من ناحية، على مادية كل سلطة، ومن ناحية أخرى، على إدراج العنف نفسه ضمن الإطار العقلاني لاستراتيجية منظمة. ومن خلال القيام بذلك، فإن التحول المفاهيمي الذي قام به فوكو يشكل أيضا فرصة للعودة النقدية إلى كتاباته الأولى.
افترض "تاريخ الجنون"، على وجه الخصوص، تأويلا قمعيا للسلطة، حيث لعب مفهوم العنف دور عامل استمرارية بين المستشفى العام وولادة المصحة. ومن ثم، فمن خلال تصحيح هذه الفرضية الضمنية، تتبع فوكو، في بداية دراسته حول "السلطة النفسية"، الخطوط العريضة لمفهوم السلطة الذي تطور في كتابه "المراقبة والمعاقبة". إن تحليل "الاستثمار السياسي للأجسام" و"ميكرو-فيزياء السلطة"، وفقا للاتجاه المزدوج الذي يعطيه فوكو لهذا التصور، يفترض في الواقع، على التوالي، أن "ما هو جوهري في كل سلطة هو أن نقطة تطبيقه هي دائما، في نهاية المطاف، الجسد”؛ وأن "السلطة مادية، وهي تبعا لذلك عنيفة، بمعنى [...] أنها تخضع لجميع مقتضيات نوع من ميكرو-فيزياء الأجساد". وإذا كان بوسعنا أن نتحدث مع فوكو عن "جسد السلطة"، فهذا يعني أولاً وقبل كل شيء أن نتصور هذه الهيئة بالمعنى المادي لعلاقات القوة التي تشكل حقلا استراتيجيا للمواجهات والصراعات، بصرف النظر عن أي نموذج دولتي.
ولكن الأكثر من ذلك أن ميكرو-فيزياء السلطة ترتبط أيضا بـ "سياسة تشريح الأفراد". هذا هو معنى التأكيد الثاني لفوكو، والذي بموجبه أفسح الشكل الأساسي (capitale) للسلطة المجال للاستثمار الزغبي (capilaire) للأحساد الفردية. المعاينة هنا تاريخية: للم يعد الأمر يتعلق بالعودة إلى تصور خاطئ عن السلطة، بل بالتساؤل عن الطفرة الانضباطية التي تميل من خلالها الأجساد الفردية إلى أن تصبح هدفًا ونتيجة لسلطة مدمجة. وإذا كان مفهوما أن السلطة، على أية حال، هي واقع مادي، وأن جسد الملك نفسه "ليس استعارة، بل واقعا سياسيا"، فإنه يبقى مع ذلك أنه "جسد المجتمع هو الذي أصبح، في القرن التاسع عشر ، المبدأ الجديد”. إن الإصرار على محايثة السلطة للجسم الاجتماعي لم يعد يعتمد فقط على القيمة الإجرائية التي يضفيها فوكو على الجسد في تحليل السلطة: إنه يرتكز أيضا على طفرة في طرق ممارسة هذه السلطة. لكن، خلال هذه الطفرة، يكتسب الجسد أهمية إضافية من وجهة نظر موضوعاتية هذه المرة: جسم اجتماعي يجب الدفاع عنه، وجسد فردي يجب ترويضه.
في الممارسة السيادية للسلطة، يشرح فوكو، " تسود الصورة المطلقة للرأس الذي يتحكم في الجسد". إنه "الشكل الأساسي للسلطة"، كما يتضح من مقدمة كتاب "اللفياثان" لهوبز، حيث يكون الجسد الوحيد الذي يجب الدفاع عنه وحمايته، والجسد الوحيد الذي من المحتمل أيضا أن يتعرض للإساءة بسبب الجريمة، هو الملك. في مثل هذا النموذج، تهدف العقوبات نفسها إلى استعادة سيادة جسد الملك المهان، بدلاً من إعادة إرساء النظام داخل الجسم الاجتماعي. "إنها، كما كتب فوكو، طريقة للسعي إلى الانتقام الشخصي والعام في نفس الوقت، حيث أن القوة الفيزيكو-سياسية للعاهل حاضرة بطريقة ما": من خلالها يكتسب التعذيب الوظيفة الشرعية-سياسية. احتفالية تهدف إلى "استعادة السيادة الجريحة في إحدى اللحظات".
من هنا، ورغم ذلك، بمجرد النظر إلى الجسم الاجتماعي من حيث فائدته، باعتباره مجموعة من القوى الإنتاجية التي من شأنها أن تستخدم بشكل جيد، تتغير نقطة ارتكاز السلطة جملة وتفصيلا. إن اعتبار المجتمع نفسه كجسم يجب تحسينه والدفاع عنه يعني في نفس الوقت تشكيل الأفراد كأجساد يجب مراقبتها ودمجها. إذا أصبح المجتمع، في القرن التاسع عشر، جسما يجب حمايته "بطريقة شبه طبية"، يترتب على ذلك بالتالي، من وجهة نظر الوسائل المستخدمة لهذا الغرض، أنه "بدلاً من الطقوس التي سنستعيد بها سلامة جسد الملك، سنطبق وصفات وعلاجات مثل القضاء على المرضى، مراقبة المصابين، واستبعاد الجانحين”. لكن، في هذا النموذج الجديد، فإن تحديد المخاطر التي تفجر المجتمع من الداخل والقضاء عليها لا يتخذان شكلاً قمعيا: بل يتمثلان في محاصرة ممنهجة للجسم الاجتماعي، ما يجعل من الممكن فردنة قواه التخريبية من أجل دمجها بشكل أفضل.
يتم تنفيذ هذا الرصد وهذا التفريد أولاً من خلال المراقبة التي يعتقد فوكو أنها من نموذج المدينة الموبوءة، حيث يتم احتجاز الأجساد "في محاصرة تكتيكية دقيقة، تكون فيها التمايزات الفردية هي آثارا ملزمة لسلطة تتضاعف، تترابط وتتشعب. من نتائج مثل هذه المحاصرة التوزيع المكاني للأجساد وربطها بهوية فردية: إنها "تحديد كل واحد باسمه الحقيقي ، مكانه الحقيقي ، جسده الحقيقي ، ومرضه "الحقيقي ". وبهذا المعنى الدقيق يتحدث فوكو عن زغبية (شعرية) السلطة التأديبية، باعتبارها جهة معينة «تأتي من خلالها السلطة السياسية، والسلطات بشكل عام، في المستوى الأخير، لتلمس الأجساد، وتعضها، وتأخذ في الاعتبار حساب الإيماءات، السلوكيات، العادات، الكلمات". لذلك يتم تعريف السلطة التأديبية في المقام الأول من خلال "الاتصال المتشابك بين الجسم والسلطة، أي من خلال الاتصال المتشابك، جسد-سلطة. ويظهر الفرد في هذا الإطار في الواقع كشكل من أشكال الوحدة الوهمية المعاد تركيبها. بعد أن يتم إنتاجها بالقوة وتثبيتها على الأجساد، لا تسمح فقط بتعيين المكان المناسب لكل شخص، ولكن أيضا لإنتاج المعرفة حول هذه الأجسام مما يجعل ترويضها ممكنا.
في الواقع: لا يتعلق االأمر فقط، في الانضباط، بمسألة تحديد الاختلاقات الفردية ذات الصلة بتنظيم الجسم الاجتماعي. يتعين كذلك دمج هذه الاختلافات، وتقليص السلطة السياسية للأجساد لتعظيم قوتها المفيدة. من خلال القيام بذلك، يتوقف "اكتشاف الجسد كموضوع وهدف للسلطة" على معرفة الفرد الذي يعتبر بمثابة آلة، ومن ثم يتم تقسيمه على الفور إلى العديد من الوحدات ذات الصلة لضمان مراقبته: "لا يتعلق الأمر بمعالجة الجسد، من حيث الكتله، بالجملة، كما لو كان وحدة لا يمكن فصلها، بل بالاشتغال عليه بالتفصيل؛ بممارسة إكراه ضعيف عليه، بضمان قبضات حتى على مستوى الميكانيكا". وبالتالي فإن الانضباط يخلق الأفراد انطلاقا من التحليل التشريحي للأجساد التي يراقبها. التشريح السياسي هو عملية تفكيك الجسد إلى قوى، وإعادة تركيب هذه القوى إلى أفراد مطيعين: ومن خلاله "تقوّم" السلطة التعددات المتحركة، المشوشة، غير المجدية للأجساد والقوى كتعدد من العناصر الفردية – خلايا صغيرة منفصلة، استقلاليات عضوية، هويات واستمراريات وراثية، مقاطع توافقية”.
إذا كان السجن يبدو من الآن وكأنه المرصد المفضل للسلطة التأديبية، فذلك على وجه التحديد لأنه يستخدم عددا معينا من التقنيات التي يتم من خلالها يتم هذا التقسيم وهذا التركيب المعاد: التوزيع المكاني للسجناء، تقليص حركاتهم، وحساب وقتهم، فإن توافق قواهم يسمح له بأن يصنع انطلاقا من الأجساد التي يراقبها فردية خلوية وعضوية وجينية وتوافقية. من هنا تكون السلطة مندمجة في الفرد الناتج عن هذه العمليات، مما يعزز أتمتة الآليات التأديبية.
هذا الاندماج، كما يوضح فوكو، يترتكز على جزء أساسي من الإجراء الجنائي، الذي يضمن الوحدة الفردية للقوى الجسدية المستخدمة على هذا النحو، وهي: الفحص. إن الفحص الطبنفسي والإجرامي يجعل من الممكن إنشاء عمليات تأديبية وتمييزات فردية من خلال "ربط كل شخص بتفرده". وبذلك يصبح الطب النفسي ترسا مركزيا لجهاز يؤثر على "الألياف الرخوة للدماغ"، ولكنه أيضا يعيد تركيب هذه الألياف في وحدة "روح". ومن خلال هذه العملية، يجد الفرد نفسه، في نفس الحركة، متجسدا في السلطة وخاضعا لها. ومن ثم تظهر الروح كنتيجة وأداة للتشريح السياسي: "الروح سجن الجسد"، ثانوية بالنسبة إليه، ولكنها ضرورية لعلمه والتحكم فيه.
إن تيممة العلاقة بين الجسد والسلطة التي اقترحها فوكو في بداية السبعينيات تؤكد بشكل مشترك على جسدية السلطة وإدماجها في الأفراد الذين تمارس عليهم. إن السلطة "تشكل جسدا"، حرفيا، لأنها تُفهم على أنها ترتيب معين لعلاقات القوة المادية التي تميز الجسد الاجتماعي، ولأنها تُؤشر ميكانيكا على هذه العلاقات بالأفراد الذين تقصد معرفتهم ومراقبتهم في نفس الوقت. في هذا التكوين، لا تكون الفردية والذاتية في حد ذاتهما سوى نتيجة لاندماج أولي، في نفس الوقت الذي تشكلان فيه التتابع الثانوي لهذا الاندماج. لا ينبغي فهم هذا التتابع بالمعنى التمثيلي: فبالنسبة إلى فوكو، لا يتعلق الأمر بأي حال من الأحوال بالتفكير في أولوية الاستبطان الأيديولوجي، بل بإظهار، على العكس من ذلك، "كيف يمكن لعلاقات السلطة أن تمر ماديا عبر الأجسام السميكة دون حاجة إلى أن تكون متتابعة عن طريق تمثيل الذوات". ومع ذلك، يبقى أنه إذا كان الفرد والذات هما الوساطتان المنتجتان تاريخيا لأول مشاجرة، فإنهما أيضا شرطان لرؤية جسد محدد تحت الأشكال التكميلية للتشييء الوظيفي والتفكير الذاتي
يتم تنفيذ هذا الرصد وهذا التفريد أولاً من خلال المراقبة التي يعتقد فوكو أنها من نموذج المدينة الموبوءة، حيث يتم احتجاز الأجساد "في محاصرة تكتيكية دقيقة، تكون فيها التمايزات الفردية هي آثارا ملزمة لسلطة تتضاعف، تترابط وتتشعب. من نتائج مثل هذه المحاصرة التوزيع المكاني للأجساد وربطها بهوية فردية: إنها "تحديد كل واحد باسمه الحقيقي ، مكانه الحقيقي ، جسده الحقيقي ، ومرضه "الحقيقي ". وبهذا المعنى الدقيق يتحدث فوكو عن زغبية (شعرية) السلطة التأديبية، باعتبارها جهة معينة «تأتي من خلالها السلطة السياسية، والسلطات بشكل عام، في المستوى الأخير، لتلمس الأجساد، وتعضها، وتأخذ في الاعتبار حساب الإيماءات، السلوكيات، العادات، الكلمات". لذلك يتم تعريف السلطة التأديبية في المقام الأول من خلال "الاتصال المتشابك بين الجسم والسلطة، أي من خلال الاتصال المتشابك، جسد-سلطة. ويظهر الفرد في هذا الإطار في الواقع كشكل من أشكال الوحدة الوهمية المعاد تركيبها. بعد أن يتم إنتاجها بالقوة وتثبيتها على الأجساد، لا تسمح فقط بتعيين المكان المناسب لكل شخص، ولكن أيضا لإنتاج المعرفة حول هذه الأجسام مما يجعل ترويضها ممكنا.
في الواقع: لا يتعلق االأمر فقط، في الانضباط، بمسألة تحديد الاختلاقات الفردية ذات الصلة بتنظيم الجسم الاجتماعي. يتعين كذلك دمج هذه الاختلافات، وتقليص السلطة السياسية للأجساد لتعظيم قوتها المفيدة. من خلال القيام بذلك، يتوقف "اكتشاف الجسد كموضوع وهدف للسلطة" على معرفة الفرد الذي يعتبر بمثابة آلة، ومن ثم يتم تقسيمه على الفور إلى العديد من الوحدات ذات الصلة لضمان مراقبته: "لا يتعلق الأمر بمعالجة الجسد، من حيث الكتله، بالجملة، كما لو كان وحدة لا يمكن فصلها، بل بالاشتغال عليه بالتفصيل؛ بممارسة إكراه ضعيف عليه، بضمان قبضات حتى على مستوى الميكانيكا". وبالتالي فإن الانضباط يخلق الأفراد انطلاقا من التحليل التشريحي للأجساد التي يراقبها. التشريح السياسي هو عملية تفكيك الجسد إلى قوى، وإعادة تركيب هذه القوى إلى أفراد مطيعين: ومن خلاله "تقوّم" السلطة التعددات المتحركة، المشوشة، غير المجدية للأجساد والقوى كتعدد من العناصر الفردية – خلايا صغيرة منفصلة، استقلاليات عضوية، هويات واستمراريات وراثية، مقاطع توافقية”.
إذا كان السجن يبدو من الآن وكأنه المرصد المفضل للسلطة التأديبية، فذلك على وجه التحديد لأنه يستخدم عددا معينا من التقنيات التي يتم من خلالها يتم هذا التقسيم وهذا التركيب المعاد: التوزيع المكاني للسجناء، تقليص حركاتهم، وحساب وقتهم، فإن توافق قواهم يسمح له بأن يصنع انطلاقا من الأجساد التي يراقبها فردية خلوية وعضوية وجينية وتوافقية. من هنا تكون السلطة مندمجة في الفرد الناتج عن هذه العمليات، مما يعزز أتمتة الآليات التأديبية.
هذا الاندماج، كما يوضح فوكو، يترتكز على جزء أساسي من الإجراء الجنائي، الذي يضمن الوحدة الفردية للقوى الجسدية المستخدمة على هذا النحو، وهي: الفحص. إن الفحص الطبنفسي والإجرامي يجعل من الممكن إنشاء عمليات تأديبية وتمييزات فردية من خلال "ربط كل شخص بتفرده". وبذلك يصبح الطب النفسي ترسا مركزيا لجهاز يؤثر على "الألياف الرخوة للدماغ"، ولكنه أيضا يعيد تركيب هذه الألياف في وحدة "روح". ومن خلال هذه العملية، يجد الفرد نفسه، في نفس الحركة، متجسدا في السلطة وخاضعا لها. ومن ثم تظهر الروح كنتيجة وأداة للتشريح السياسي: "الروح سجن الجسد"، ثانوية بالنسبة إليه، ولكنها ضرورية لعلمه والتحكم فيه.
إن تيممة العلاقة بين الجسد والسلطة التي اقترحها فوكو في بداية السبعينيات تؤكد بشكل مشترك على جسدية السلطة وإدماجها في الأفراد الذين تمارس عليهم. إن السلطة "تشكل جسدا"، حرفيا، لأنها تُفهم على أنها ترتيب معين لعلاقات القوة المادية التي تميز الجسد الاجتماعي، ولأنها تُؤشر ميكانيكا على هذه العلاقات بالأفراد الذين تقصد معرفتهم ومراقبتهم في نفس الوقت. في هذا التكوين، لا تكون الفردية والذاتية في حد ذاتهما سوى نتيجة لاندماج أولي، في نفس الوقت الذي تشكلان فيه التتابع الثانوي لهذا الاندماج. لا ينبغي فهم هذا التتابع بالمعنى التمثيلي: فبالنسبة إلى فوكو، لا يتعلق الأمر بأي حال من الأحوال بالتفكير في أولوية الاستبطان الأيديولوجي، بل بإظهار، على العكس من ذلك، "كيف يمكن لعلاقات السلطة أن تمر ماديا عبر الأجسام السميكة دون حاجة إلى أن تكون متتابعة عن طريق تمثيل الذوات". ومع ذلك، يبقى أنه إذا كان الفرد والذات هما الوساطتان المنتجتان تاريخيا لأول مشاجرة، فإنهما أيضا شرطان لرؤية جسد محدد تحت الأشكال التكميلية للتشييء الوظيفي والتفكير الذاتي.
-- السياسة الحيوية: الذات والجسد الحي للسلطة
يمدد "إرادة المعرفة"، من وجهة النظر هذه، توجها فتحه فوكو في "المراقبة والمعاقبة"، من خلال الأخذ بعين الاعتبار، من ناحية، الطبيعة الحية للأجساد التي تستثمرها السلطة، ومن ناحية أخرى، الانعكاسية المكتسبة على هذا الجسد من قبل الذوات الناتجة عن هذا الاستثمار. ومن خلال القيام بذلك، يمكن قراءة الكتاب من خلال الطموح لاحقا لتيممة إنتاجية السلطة والتأثيرات الذاتية لاندماجها. يتضمن هذا المشروع عددا معينا من الاختلافات مقارنة بتحليلات بداية السبعينيات.
أولاً، إن استبدال الجسد الحي بالجسم الميكانيكي يعني في الواقع، وهو يؤثر على الطريقة التي يجب أن تصبح بها السلطة جسدا، الأخذ في الاعتبار ليس فقط الترتيبات التأديبية التي ينظمها، ولكن الفاعلية السياسية الحيوية التي بها يعمل. ثانيا، وبشكل مترابط، يستلزم هذا الاستبدال أيضا، وهو يؤثر على نتائج هذا الاندماج، التحول من تحليل التفريد (المخضع) إلى تحليل تذويت (المفردن).
في هذا التكوين، لم يعد الطريق الملكي إلى حقيقة الجسد هو في الواقع الفحص الذي يشييء، بقدر ما هو الاعتراف الذي يتم من خلاله دعوة الأجساد إلى معرفة وتذويت نفسها: هذا هو السبب وراء ظهور التحليل النفسي، وليس الطب النفسي. باعتباره محور النظام الجنسي الذي ينوي فوكو من خلاله التفكير في تدخل السلطة في الحياة الجسدية. يحب التاكيد على أن هذه التحولات لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع نتائج "المراقبة والمعاقبة": بل إنها تفتح لحظتها التكميلية، بقدر ما تكون التقنيات التي تثبت الجسد الفردي في موضوعيته وتلك التي ترسي هذا التحديد الموضوعي في الذات تتكيف بشكل متبادل. ومع ذلك، فإن هذا التغيير في المنظور يعطي كل حدته للمشكلة التي تهيئ المفهمة الفوكوية للجسد، من خلال التركيز على الحيوية الخاصة بالسلطة، وعلى المعيارية المطبوعة على الجسد نفسه، والتي بها ترتبط الذات بالضرورة. بنفسها.
المساهمة الأكثر أهمية للجزء الاول من "تاريخ الجنسانية"، التي تؤثر على جسد السلطة، هي بالتالي الفكرة التي مفادها أن الميكانيكا التشريحية التي سلط عليها الانضباط الضوء، يجب استبدالها بإطار أشمل لسلطة على الحياة.
إن اكتشاف الجسد الحي، كجسد فردي من شأن قواه أن يتم استخدامها، وكجسم نوعي يمكن تنظيم عملياته الحيوية، يحدد من الآن اتجاهين متكاملين: "سياسة تشريحية للجسم البشري" و" سياسة حيوية للسكان". حدد فوكو هذين الاتجاهين كوجهين هما، على التوالي، "تشريحي وبيولوجي، مفرد ومخصص، ملتفت نحو أداء الجسد وناظر إلى سيرورات الحياة"، لتكنولوجيا السلطة "التي ربما لم تعد وظيفتها العليا هي قتل الحياة بل استثمارها من جانب وآخر ". كما وجدت مصوغة في الفصل الأخير من كتاب " إرادة المعرفة"، لا تتعارض الفرضية السياسة الحيوية بأي حال من الأحوال مع التحليل الميكروفيزيائي للسلطة، التي يساهم بالأحرى يساهم في إعادة إدراجها صمن الاستراتيجية العامة لمراقبة الأجسام الحية.
بعد القيام بذلك، تدعو هذه الفرضية، مع ذلك، إلى التفكير لاحقا في جسدية السلطة التي يتيممها كتاب "المراقبة والمعاقبة"، مع الأخذ في الاعتبار طابعها ليس المادي فحسب، بل المنتج حقا. إن السلطة، في إطار سياسي حيوي، لا تتعامل فقط مع الأفراد المنضبطين، بل مع الكائنات الحية، ولهذا السبب فإن إحكام قبضتها على الأجساد ينظر إليه من الآن على مستوى الحياة نفسها التي تحدد نقطة ارتكازها. إن سيادة الجسد في أجهزة السلطة، العائدة أولا إلى اكتشاف آلية تسمح بضمان ترويضه، يتم التفكير فيها الآن من حيث نشأتها انطلاقا من التكفل بالحياة "التي تمنح للسلطة وصولها حتى إلى الجسد".
إذا كان اكتشاف الجسد الفردي كهدف وأداة للانضباط يتيح للسلطة أن تصقل تكتيكيًا التقنيات التي تنوي من خلالها ترويض هذا الجسد، فإن اكتشاف الجسد الحي كدعامة وشريطة لممارستها هو الذي يمنحها أيضا إنتاجيتها. بالسياسة الحيوية، تنوجد بالتالي مقترحة حيوية انعكاسية للسلطة، من خلالها "يدخل النوع كرهان في استراتيجياتها السياسية الخاصة". وبتعبير أدق، إذا كانت السلطة تتميز من الآن بالاستثمار في العمليات الحيوية، فيبدو أنها أيضا من خلال هذا الاستثمار تصبح هي نفسها "عامل تحويل للحياة البشرية". إذا كان من الممكن منذئذ الحديث عن جسدية السلطة، فلن يقتصر الأمر على تحديد الارتكاز المادي الذي يسود في تحليلها: يبدو أن كتاب "إرادة المعرفة" يفتح إمكانية فهم هذا التعبير أيضا بالمعنى الإنتاجي لمعيارية بيولوجية، هي من الانتشار بحيث أنها تستثمر من جانب إلى آخر في الأجساد الحية التي تصلح لها كدعامة ورافعة.
هكذا تسمح المفهمة السياسية الحيوية للسلطة بالتفكير في الإنتاج الذاتي بلغة الإندماج المعير. ومع ذلك، فإن هذا الاندماج لم يعد مجرد نتاج محاصرة إدارية وتوزيع مكاني للأجساد: إنه ينتج قبل كل شيء عن الغرس المنتشر، في قلب العمليات الحيوية التي تخترق هذه الأجساد، لمعيار يرشدها ومن خلالها ترتبط في ما بينها. هذا الغرس، الذي درسه فوكو انطلاقا من الجسد الجنسي، يمكن وصفه بأنه “منحرف” بمعنى مزدوج: فهو يشير في آن واحد إلى اندماج المعيار وشبقية السلطة. بالفعل، من جهة، يؤدي التقنين الطبي للانحرافات الجنسية إلى إنتاج خصوصيات جديدة، تحل محل المفهمة القانونية الصارمة للانحرافات. هذه الأخيرة هي من الآن مطبوعة حتى على أجساد الأفراد، في عملية اختفاء تأخذ معنى تطبيع الأنواع، وليس تصنيف المحظورات.
في مقابل القانون الذي يدير ويحكم، المعيار البيولوجية هو الذي يشرف إذن على توزيع الأجساد إلى أفراد. وهذا لا يعني أن هذا المعيار يجرد نفسه من الجاهزيات التأديبية التي يتطلبها: ولكنه يؤشر على توزيع المشروع وغير الم على تكنولوجيا الطبشرعية التي تدعم السلطة على الحياة. وهكذا، فإن آلية السلطة لا تهدف إلى القضاء على المتباين سوى “بإعطائه واقعا تحليليا مرئيا ودائما: تقحمه في الأجساد، تمرره تحت السلوكات، تجعل منه مبدأ للتصنيف والمعقولية، تشكله كسبب للوجود وكنظام الطبيعي للانظام". يفرز تطبيع المعيار، إذن، توزيعات فردية تتضمن تقنينا شرعيا، ولكنها تتيح أيضا التفكير في الاندماج الحقيقي للانحرافات، و تؤسس بالتالي إنتاجية السلطة.
يصر فوكو على هذه النقطة: “هذه السلوكات المتعددة الأشكال تم استخلاصها من جسد الرجال ومتعهم؛ أو بالأحرى تم ترسيخها فيهم؛ من خلال أجهزة السلطة المتعددة تمت تسميتها، إبرازها، تكثيفها، دمجها". لذلك فإن الغرس المنحرف يحدد أولاً هذه الميكانيزم الذي من خلاله تنتج السلطة فعليا الأنواع التي تنوي التماهي معها، عن طريق الترميز البيولوجي للمتعة التي تعمل عليها والتي تعززها من خلال تأثيراتها. لكن بقدر ما تمر السلطة، على وجه التحديد، من خلال علاقات قوة جسدية التي تشكل بطريقة ما "قطع(ها)الفوري"، فإن هذا الغرس يأتي أيضًا ليسمي تجذره في قلب هذه العلاقات. ومن ثم فإنه يأخذ المعنى التكميلي لمحايثة صارمة للجسد من قبل السلطة، في شكل انتشار يكون أكثر انحرافًا بحيث يثار شبق السلطة بدورها عندما "تلتزم بواجب الاحتكاك بالأجساد".
- المقاومة:سلطة الأجساد
هذه الصعوبة ذكرها فوكو في الفصل الختامي من "إرادة المعرفة"، من خلال التأكيد على أنه "ضد جاهزية الجنساتية، يجب ألا تكون نقطة دعم الهجوم المضاد هي
جنس-رغبة، بل الأجساد والملذات". هذا التأكيد يأتي في سياق دقيق، يؤهله أولاً سلبيا وتكتيكياً. بالنسبة لفوكو، يتعلق الأمر أولاً بالتنافس على أولوية الجنس واستقلاله الجوهري من أجل إعادته إلى جاهزية الجنسانية التي يتوقف عليها. ومن هذا المنظور، تكون الجنسانية، باعتبارها "صورة تاريخية حقيقية جدا"، أساسية وأكثر مادية من الجنس من حيث يمكن تعريفها على أنها التكوين الذي تتخذه علاقات السلطة حالما تستثمر الحياة الجسدية. في هذا التكوين، يظهر الجنس، بخلاف ذلك، على أنه "العنصر الأكثر تأملية، للأكثر مثالية، والأكثر داخلية أيضا في جاهزية الجنسانية التي تنظمها السلطة في قبضاتها على الأجساد، ماديتها، سلطاتها، أحاسيسها، ملذاتها".
في هذا السياق، يقترح فوكو مادية الأجساد التي لا علاقة لها بمادية الجنس: طموحه على وجه التحديد هو خلق «'تاريخ للأجساد' وللطريقة التي استثمر بها ما هو أكثر مادية وأكثر حيوية فيها»، بينما هو يعترض على تنظيم هذه المادية حول الجنس الذي قد يحدد نقطة ارتكازها. لكن، يتعلق الأمر بالنسبة إليه، بإبراز الوظيفة العملية التي تدعم هذا الانتصاب للجنس كهيئة مستقلة، وأن يحدد تكتيكات مضادة يمكن أن تتعارض مع الإستراتيجية الخطابية لجاهزية الجنسانية. ترجع هذه الوظيفة العملية إلى حقيقة أنه من خلال الجنس يجب علينا الآن أن نمر للوصول إلى معقوليتنا الخاصة، إلى أجسادنا، إلى الإمساك بهويتنا، بحيث يصير الجنس مرغوبا عندنا أكثر من الحياة نفسها.
في هذه اللحظة تأتي دعوة فوكو لتأكيد "الأجساد والملذات" ضد هذا "الجنس-ابرغبة". ومن ثم ، فإن هذه الدعوة تأخذ معنى اقتراح تكتيكي، بدلاً من أمر مدعوم بتأكيد وجودي: "إنما من هيئة الجنس ينبغي أن نتحرر، إذا أردنا، من خلال الانقلاب التكتيكي للآليات المختلفة للجنسانية"، أن نؤكد ضد قبضات السلطة، الأجساد، الملذات، المعارف، في تعددها وإمكانية مقاومتها". سلبيًا، بالنسبة إلى فوكو، يتعلق الأمر بالتأكيد على التعددية الجسدية التي تتجذر عليها السلطة والتي تساهم في تغطيتها، بدلاً من الاستدعاء الإيجابي لهيئة أخرى من شأنها مواجهة هيئة الجنس.
ومع ذلك، ورغم الوظيفة التكتيكية التي تكتسبها الأجساد هناك – في الواقع، بسبب هذه الوظيفة – تشير الإمكانية الوحيدة لتأسيس المقاومة على الأجسام إلى موضع مشكلة وجودية. في الواقع: كيف يمكننا تصور مقاومة الأجساد دون الرجوع، إن لم يكن إلى أولوية الأجساد، فعلى أي حال إلى الركيزة المادية التي يقترحها فوكو بالفعل؟ إذا كان استدعاء الأجساد والملذات غريبا ومثيرا في نفس الوقت، فذلك أيضا لأنه يسير في اتجاه المادية الحيوية، التي تتجسد في مؤهلات السلطة من حيث علاقات القوة الجسدية، ولكنها تخنق في نفس الوقت من قبل تنظيم هذه العلاقات في أجهزة استراتيجية لولاها لما كانت موجودة. بمعنى آخر، يظل السؤال مفتوحا حول ما إذا كانت السلطة "تصبح واحدة" من خلال تنظيم القوى المادية الموجودة سابقا؛ أو إذا كانت تفرز هذه القوى في نفس الوقت الذي تنظمها.
بناء على المتبنى، يمكن تأكيد وجود تيار خفي جسدي، والذي من خلاله تصير الأجساد مرشحة لتمرد محتمل. وبالتالي فإن المشكلة السياسية تشير بوضوح إلى موقع الصعوبة الوجودية، التي كانت موضوع مناقشات عديدة في تلقي فوكو واستخداماته.
تناولت جوديث بتلر، على وجه الخصوص، عددا معينا من الانتقادات الموجهة إلى تيممة فوكو للأجساد والملذات، والتي صيغت في العديد من الأعمال وتم تلخيصها في مقال مفرد خصيصا لهذه الصفحات الأخيرة من "إرادة المعرفة". وكما تشير في هذا المقال، يبدو أحيانا، عند قراءة فوكو، “أن الجسد يتجاوز بناءه الخطابي في كل لحظة – هيئة –، فارضا على البناء الخطابي حدا يقع على وجه التحديد على سطح تطبيقه”. بالنسبة إلى بتلر، يتعلق الأمر إذن بالإشارة إلى التناقض بين التأكيد العملي للمقاومة التي تتم من الأجساد، والتأكيد النظري لإنتاجها الخطابي. في حقيقة الامر: يبدو أنه بشرط افتراض عدم التجانس الوجودي بين الواقع الخطابي للسلطة والواقع الجوهري للأجساد، ترتسم فكرة التحرر التي يمكن بها أن تتملص الأجساد من السلطة.
توسع بتلر هذه المناقشة النقدية استنادا إلى حالة هيركولين باربين، وهي خنثى تم تعيينها قانونا ك"جنس حقيقي"، والتي قرأ فوكو مذكراتها كمثال نقدي لمؤشر هوية. وفقا لبتلر، فإن القراءة الفوكوية للسنوات التي قضتها هيركولين باربين في مجتمع أحادي الجنس، واستحضارها لـ "المتع الرقيقة التي تكتشفها وتثيرها اللاهوية الجنسية، عندما تضيع وسط كل هذه الأجساد المتشابهة"، يرجعان إلى الإيمان بعدم التمايز الجسدي الأصلي الذي ستغطيه السلطة من خلال استثمار الأجساد. هذا هو السبب الذي دفع بتلر إلى "قراءة فوكو ضد نفسه" من خلال التذكير، معه وضده، بأن الأجساد والملذات "يتم إنتاجها دائما بواسطة نفس القانون الذي من المفترض أن تتحداه".
ضد القراءة البتلرية لهذا المقتطف، يمكن مع ذلك أن نؤكد على أخذ فوكو في الاعتبار، وحتى عندما ينوي التفكير في المقاومة، للتنظيم الخطابي الأساسي للجسدية. إن الجسد الفردي، الجسد الذاتي، جسد السجن والمصحة ذاتها، هي في الواقع جاهزيات خطابية، ومن هنا فقط تصير جسدا. إن جسد هيركولين باربين نفسه، خاصة عندما لا يتم اختراقه من قبل ثنائية الجندر، هو مع ذلك، وفقا لفوكو، "ذات بلا هوية لرغبة كبيرة في النساء"، جسد مفرد (بفتح وتشديد الراء) وذاتي من قبل تنظيم خطابي - حتى لو كان آخر ويوحي بمتع أخرى. ما يزال اعتراض بتلر أقل حسما، من حيث أنه يشير أيضا إلى صعوبة لا يمكن لخطاب الجاهزيات الجسدية حلها، وهي: إمكانية افتراض وجود مادية ما قبل فردية وما قبل ذاتية للأجساد في ما وراء هذه الجاهزيات. في حقيقة الأمر: إذا كانت السلطة تنتج أجسادا فردية بشكل خطابي، فإن هذه العملية تفترض في الوقت نفسه استثمار ما هو "أكثر مادية، وأكثر حيوية فيها"، وترويض "التعدديات المتنقلة، الغامضة، غير المفيدة" التي تكون منها. على المستوى المادي للجسيمات، كما على المستوى الحيوي لعلاقات السلطة، هناك إذن غموض عند فوكو يؤثر على الأساس الأنطولوجي للأجساد.
هذا الغموض سمح لدولوز بشكل ملحوظ بأن يفترض في فوكو حيوية مستوحاة من نيتشه. بعد الإشارة، في مونوغرافياه عن فوكو، إلى أن “الحياة تصبح مقاومة للسلطة عندما تأخذ السلطة الحياة كموضوع لها”، يعلق دولوز على هذه الأطروحة من خلال توضيحها، ولكن أيضا من خلال الإضافة إليها لإمكانية فهم الحياة كقوة خارج السلطة والتي قادته إلى التساؤل: «أليست القوة القادمة من الخارج فكرة معينة عن الحياة، حيوية معينة يبلغ فيها فكر فوكو ذروته؟». هذا السؤال ليس بلاغيا: إنه يندرج في المنظور الإشكالي الذي يحكم التلقي الديلوزي لكتاب "إرادة المعرفة" ، ويفترض تصور قوة الأجساد كقوة “من الخارج” من شأنها أن تفلت من أجهزة السلطة. لكن مثل هذا التصور يعني أيضا تجاوز التأكيد الظرفي الصارم الذي بموجبه متى - وفقط متى - تأخذ السلطة الحياة كموضوع لها، عندها تصبح الحياة مقاومة للسلطة.
نتمثل إذن مشكلة القراءات التي تعارض مادية الأجساد مع خطابية السلطة في الفصل وجوديا بين مفهومين لا يستطيع فوكو أن يفكر فيهما إلا معا، أي حرفيا يوجد أحدهما داخل الآخر. في مقابل مثل هذه القراءة، من الممكن منذئذ التأكيد على عدم قابلية خطابية الأجساد للتجاوز؛ ولكن من الممكن أيضا التفكير في حيوية المعيار، وبالتالي السلطة نفسها. تم تطوير هذا الاحتمال الأخير، على وجه الخصوص، من قبل بيير ماشيري، الذي يقرأ في محايثة وإنتاجية السلطة الفوكوية علامة على معيارية، من خلالها لا ينتج المعيار مجال تطبيقه فحسب، بل ينتج نفسه أيضا وهو بصدد إنتاجه.
إن المعيارية التي يوضحها دولوز عند فوكو، مع إشارة هامة إلى كانغيلام وسبينوزا، تقترب من شكل من أشكال الحيوية، فيه، مع ذلك – التدقيق مهم – لا توجد القوة الحيوية مسبقا في التنظيم الاستعدادي الذي تنتج فيه. "قوة الحياة هي بالفعل ما يتعلق الأمر به هنا، طالما أن هذه القوة ليست ماهوية، أي مختزلة بشكل أسطوري إلى حالة قوة حيوية قد تكون 'قوتها' موجودة سابقا قبل جميع التأثيرات التي تنتجها". من هذا المنظور، إذا كانت هناك بالفعل أولوية معيارية للسلطة، فلا ينبغي فهم هذه الأولوية بالمعنى الجوهري لقوة تعتبر بمثابة خزان طاقي، بل بالمعنى العلائقي لعلاقة معينة بين القوى، يتم بالفعل إنتاجها في جاهزية محددة، وتمنح السلطة فاعليتها. لهذا السبب، لا يمكن النظر إلى سلطة الأجساد وفق نموذج جسيمي، انطلاقا من فرادات ما قبل فردية، كما هو الحال مع دولوز: فهو يوظف بالأحرى تكوينا جديدا لهذه العلاقات، وطرقا أخرى في "التجسد".
هذه الطرق الأخرى في "التجسد" تعمل مرة أخرى على استدعاء الفرد والذات، لكن الأمر يتعلق بعد ذلك بالتفكير جديا في فكرة أنه "حيثما توجد السلطة، توجد المقاومة، وأنه مع ذلك، أو بالأحرى من هنا بالذات، لا تكون الأخيرة أبدا في وضع برانية بالنسبة إلى السلطة". تعني هذه القضية، قبل كل شيء، أن مقاومة السلطة تبلغ ذروتها في السلطة، وأن السلطة على نحو متبادل تتمثل بالكامل في ترابط نقاط المقاومة: إنها، باختصار، الاسم الذي يطلق على جاهزية محايثة، أي على استعداد معين للقوى في حقل استراتيجي معين. لكن السلطة تعني أيضا في الوقت نفسه العملية الإنتاجية التي تتصدر هذا التوزيع: أي لم تعد مجرد أجهزة فعالة، بل استعدادات تنجز. ولهذا السبب فإن المقاومات، باعتبارها مواجهات للسلطة التي تجانسها، هي نقاط كثيرة متنقلة وانتقالية، تدخل في المجتمع انقسامات، تحول، تفكك الوحدات وتؤدي إلى إعادة التجمع، وتتقاطع مع الأفراد أنفسهم، تقوم بتقطيعهم وإعادة تشكيلهم، ورسم مناطق غير قابلة للاختزال فيهم، في أجسادهم وفي روحهم. وبالتالي فإن صفحات " إرادة المعرفة " المخصصة للمقاومة هي إشارة إلى أن هذا ليس أكثر - ولكن ليس أقل أيضا - من تركيز استراتيجية أخرى، وترتيب آخر للسلطة يمكنه، بالتالي، أن يفرز بشكل إيجابي تنظيمات جسدية أخرى. علاوة على ذلك، يمكن لهذه التنظيمات الجسدية أن تكون فردية واجتماعية أيضًا: الشيء الأساسي، من وجهة نظر فعاليتها، هو أن نتيجتها الطبيعية هي فوق كل أشكال التذويت الأخرى. لأنه بقدر ما تقدم السلطة أخيرًا إمكانية إنتاج خطاب على جسد المرء، فإن الاستئناف الانعكاسي لأجهزتها يمكن أن يؤدي إلى خطابات مضادة بالإضافة إلى سلوك مضاد. وهكذا ينفتح، انطلاقا من التفكير في التعبير عن قوة الجسد، ولكن بما يتجاوز ذلك بالفعل، طريق ممارسة الذات التي سيعمقها فوكو أكثر في نهاية السبعينيات ثم في الثمانينيات.
في ضوء هذه الأبحاث الأخيرة، يجب اعتبار الأمر القاضي باتخاذ الأجساد والملذات كنقطة دعم للهجوم المضاد بمثابة دعوة لاستثمار علاقات القوة بشكل مختلف، دون الرغبة في ربطها بالوحدة، ولكن دون إهمال الرهان التكتيكي الذس يكشف عنه إنتاج أشكال أخرى من التذويت. إذا أمكننا أن نتحدث عن جسد سلطة، فذلك في الواقع بمعنى تقسيم هذه العلاقات إلى طبقات داخل جهاز له تأثير تجميدها، بحيث تأخذ جسدا في وحدة – سواء كانت هذه الوحدة جماعية في الجسد الاجتماعي أو فردية في الجسد التشريحي.
لا تتعارض جسدية السلطة مع التأكيد على أن “السلطة غير موجودة”: يشير هذا التعبير إلى وحدة الجاهزية العلائقية؛ ويتيح لنا أن نؤكد في الوقت نفسه على جسدية المواجهة المتحركة دوما لهذه العلاقة. إنما بهذا المعنى يؤكد فوكو بالمثل على قوة الأجساد، المؤسسة إما على عدم قابلية هذه المواجهة للاختزال أو على الإمكانية المتجددة دوما للتجسد بشكل مختلف: في هذا التكوين، تحلل الأجساد إلى أفراد ثم إلى ذوات.يمكن بدوره أن يكون بمثابة منفذ لتحويل السلطة تكتيكيًا ضد نفسها. لذلك يبدو أننا نرى هنا فرقًا مهمًا بين أنطولوجيا دولوز الحيوية وطريقة فوكو في النظر إلى المقاومة. إن الحل الذي قدمه فوكو للمشكلة العملية التي أردنا تحديدها يلقي الضوء، رجوعا، على الصعوبة الأنطولوجية: المقاومة، في هذا الإطار، وعلى النقيض من دولوز، تتمثل أولا في "التجسد" بشكل مختلف، بدلا من من "اختلاق جسد بلا أعضاء".
المرجع: https://journals.openedition.org/philosophique/1782