الفلاسفة واللغة
يقول نيتشة رغم مقولته الجدالية الفلسفية الاستفزازية (موت الاله) ان (اللغة من ابداع الله). كما يقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني). ويقول هيدجر(الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا). ويقول سيلارز( الوجود لغة). كما يقول فيلسوف اميركي اخر (الله لغة).
اذا اخذنا تفسير عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تسويغي تفسيري في تمرير العبارة سوى استشهادنا بعبارة شيلر قوله ان كل شيء ندركه ميتافيزيقيا كصفات مثالية يخلعها الانسان على معبوده الذي يؤلهه انما نجدها اي تلك الصفات المثالية مجتمعة بالانسان كموجود يلازم الطبيعة يتفاعل معا ويستفيد منها في تخارج انفصالي مستقل عنها.
وهي بطبيعتها الفيزيائية كموجود معطى مخلوق مستقلة انطولوجيا عن الانسان من ناحية التموضع الذاتي فيها او التجانس التكاملي تكوينيا معها.. أنسنة الطبيعة يتمثّل بالاعتياش الاحادي الجانب في علاقة الانسان بالطبيعة فهي الام المرضعة له وهي المصدر في توفير غذائه ومقوّمات حياته.
وقد سبق لفيورباخ الفيلسوف المادي التأملي الصوفي تعبيره أن الانسان بعلاقته مع ذاته ومع موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي الاله المتكامل الذي يدركه الانسان بالموجودات التي يحتويها الوجود. الانسان بعد إختراع صناعته لالهه في تأمله الطبيعة وكائناتها وتنوعها البيئي وظواهرها الدائمية منها والمؤقتة وصل لنتيجة ربما لم يكن يدركها لكنه كان يمارسها انه هو إله ذاته كموجود ضمن وجود اكبريحتويه.. بفارق انه يؤمن ايمانا قطعيا انه الاله الانساني في داخله المجتمعة فيه كل الصفات الانسانية وليس الصفات الالهية التي لا يدركها بل تلك التي يرغبها الانسان في معبوده كخصائص نوعية يحاول الاقتداء بها سلوكا موزعا على طقوس دينية يمارسها في محاولته كسب رضى الخالق في تقليده لصفاته التي هي انسانية والتي بدورها تلعب دورا مهما في تهذيب اخلاق العبد في سلوكه المجتمعي. الصفات الالهية هي مفردات يدركها الانسان في ذاته فقط. ولا يدركها بمعبوده لأنه خالق كل شيء المدرك منه وغير المدرك. وادراك الصفات الالهية من قبل الانسان يعني ان الله اصبح موضوعا يدركه العقل بصفاته.
اما اذا عدنا لتوضيح عبارة غادمير اللغة هي أحد الالغاز العظيمة بالتاريخ. فهي عبارة صحيحة لم تولد من فراغ ولا هي استحدثت نفسها بخصائصها الذاتية التطورية. فاللغة وإن وصفها غادمير انها لغز تاريخي فهي معطى طبيعي اخترعه الانسان كون اللغة تاريخ تطوره انثروبولوجيا عبر العصور الطويلة من عمر البشرية.
وهذا التطور الانثروبواوجي هو الذي اخترع اللغة وليس العكس فالتاريخ كوقائع انثروبولوجية قبلي على اختراع اللغة وتطورها الانثروبولوجي البعدي. الانتقالات التقدمية التاريخية التي قطعتها البشرية هي التي قادت خلفها عبر العصور اللغة في تطوراتها وتنوعاتها واختلافاتها حسب اختلاف وتنوعات الامم والشعوب.
يمكننا القول أن اللغة نتاج تاريخي انثروبولوجي لم يكن للفطرة أي دور في اختراع الانسان لغته. اننا حين نقول الانسان حيوان ناطق ليس فقط انه يمتلك عقلا مفكرا يتحسس اهمية ايجاد وسيلة تواصل مع غيره من بني جنسه. حين قام الانسان البدائي تقليد اصوات الحيوانات لم يكن يدري أن هذه الاصوات غريزية لدى الحيوان وهي محدودة الاستعمالالات الغرضية منها ابرزها تنبيه الحيوانات الاخرى من نوعه لخطر محدق يتهددهم والاصوات الاخرى تمثل الحاجة للجماع الجنسي او توافر طعام يحتاجه الافراد الذين يعيش معهم من نوعه.
عليه ليس من الغريب ان نقول اللغة خاصية بيولوجية حينما اراد الانسان ان تكون اصواته معبّرة عن اشياء أبعد من الحاجات التي تلبيها اصوات الحيوانات نجد وهذا ثابت علميا انه خلال ملايين السنين تطور تركيب حنجرة الانسان ولسانه لاطلاق اصوات ليس فقط لا تشبه اصوات الحيوانات وحاجاتها الغريزية المحدودة بل لخلق وسيلة هي اللغة طابعها ومخترعها الانسان تحاول التقليل من الاشارات واطلاق اصوات تلبي حاجات انسانية كانت تشغل تفكير الانسان بعيدة عن تفكير الحيوان بها. الانسان البدائي لا يصرخ مثل الحيوان حين تستثار عنده الغريزة الجنسية ولا يصرخ حين يجوع بل كان يشغله كيف يستطيع تكوين جماعات من نوعه يتواصلون بالصوت الذي له معنى قصدي.. الانسان كان يشعر بتقلبات الطقس وتغييرات المناخ والبيئة. وكان يعي الزمن بتاثيراته لكنه لا يدركه لا كصفات ولا ماهية وهي نفس النظرة التي يتعامل الانسان بها اليوم وهو في اوج حضارته وتقدمه العلمي.
يحضرني هنا مقولة فيلسوف رائد البنيوية الذي كرّس فلسفته بعد هجومه الكاسح على كتاب راس المال في توجهه دراسة تاريخ الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ. اي الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف اللغة بمعناها التدويني لذا بقيت تلك الاقوام بلا موروث يؤرخ لها عاداتها وطبائعها وكيف كانت تعيش. اركيولوجيا التنقيبات الاثارية كانت تعتمد على ما تركته تلك الاقوام من بقايا اواني حجرية ومصنوعات بدائية من الحجر حتى الالواح الطينية لم يكن يعرف الانسان البدائي قيمتها. عصر التدوين كما يؤرخه العلماء الاختصاصيين بدأ تقريبا بين الاعوام 2500- 3000 سنة قبل الميلاد مع ظهور اللغة المكتوبة والمنطوقة عند السومريين في اختراعهم الكتابة المسمارية تلتها بفارق زمني قصير الكتابة الهيروغليفية الفرعونية بمصر وتلتها اللغات الهندية والفارسية والصينية.
ذكر ليفي شتراوس الذي كان هو ايضا يهتم باهمية اللغة بحياة الانسان مثل زملائه فلاسفة البنيوية في مقدمتهم كان دي سوسيرالذي اصدر بيان التحول اللغوي عام 1905 فقد ذهب ومعه فوكو الى مقولة (الانسان هو الانسان منذ العصور الحجرية والجليدية والى يومنا هذا وحاجاته الاساسية بالحياة هي نفسها حاجات اليوم ولم تتغير.). عبارة صحيحة تحقيبا تاريخيا لوجود الانسان لكنها ليست صحيحة في عالم اليوم الذي يتسيده العلم وتنوع الحضارات البشرية.
اللغة لا تصنع التاريخ ولا تصنع الزمن. بل التاريخ يصنع لغته الخاصة به. وبالتحديد الخاصة بتاريخ قوم من الاقوام. اما عن الملازمة الطبيعية التي تجمع انثروبولوجيا التطور التاريخي وتطور اللغة كحروف واصوات لها معنى دال معيّن فهي متلازمة لا انفكاك بينها.
هيدجر والكائن اللغوي
مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا. مقولة خاطئة من حيث التراتيبية التاريخية الانثروبولوجية- اللغوية. فالانسان كائن عقلي قبل ان يخترع اللغة. ليس بمعيارية تاريخية انثروبولوجية بل بمعيارية انثروبولوجية تطورية للانسان. فالعقل سابق على اختراع الانسان لغته ليس من واقع حقيقة علمية انه جوهر بيولوجي تحتويه الجمجمة(الدماغ) ولا يستطيع الانسان يعيش عالمه وحياته الطبيعية التفكيرية السوّية من دونه. فالعقل بخاصيته الفكرية فهم وجوده وسط عالم وطبيعة تحتويه.
ارى في عبارة سيلارز الوجود لغة هي عبارة تلخيصية اختزالية لجوهر العقل بعلاقته بالوجود. هنا من الخطأ ان نتصور الوجود لغة مثالية غير مادي. سيلارز ينطلق في مقولته الوجود لغة من حقيقة علمية ثابتة اننا لا ندرك عالمنا الخارجي وحتى عالمنا الخيالي من دون التعبير التجريدي في تمثله كل الموجودات والمدركات على انها وعي لغوي مجرّد.
سيلارز في مقولته لم يكن ينتسب الى فلاسفة القرن الثامن عشر هيوم, بيركلي, جون لوك, فهؤلاء رغم نزعتهم التجريبية الا انهم كانوا يعتقدون ان كل شيء ندركه يكون وجوده بالفكر وليس الواقع. وينكرون هناك عالم مستقل في وجوده المادي لا يدركه العقل. وما لا يدركه العقل حسب زعمهم فهو غير موجود. والحقيقة ان الوجود المادي يسبق تفكير العقل وادراكه لموجوداته. وان العالم الخارجي لا يتوقف وجوده او عدمه في ادراك العقل له من عدمه او على رغائب الانسان وحاجاته. فالوجود عالم من الموجودات المستقلة انطولوجيا عن وجود الانسان.
فلاسفة القرن الثامن عشر هيوم ولوك وبيركلي اعتبروا كل موجود يدركه العقل بالفكر التجريبي موجود بالضرورة الادراكية عقليا. بمعنى تمثّله تجريدا لغويا.
ديكارت قبلهم في القرن السابع عشر كان اشار الى معنى جوهر العقل باعتباره تعبير لغوي وليس الدماغ البيولوجي الذي تكون خصائصه الادراكية عابرة لخاصية التفكير اللغوي المجرد حين يتعلق الامر بحاجات الجسد. وبهذا المعنى فالعقل علاقته بالجسد لا تقل اهمية عن علاقته بموجودات العالم الخارجي. ديكارت لم يكن يجهل ان طبيعة العقل البيولوجية هي خاصية لا يمكننا فصلها عن خاصية العقل جوهر ماهيته التفكيرالمعرفي المجرد.
بمعنى اكثر وضوحا ديكارت حين يقول العقل جوهر خالد خلود النفس ماهيته التفكير لم يكن يلغي ما هو اكثر واقعية علمية من ذلك ان العقل جوهر بيولوجي خاصيته التفكير ايضا.
بضوء هذا المعنى ان العقل جوهر لغوي بيولوجي نستطيع تفسير عبارة فيلسوف امريكي غير سيلارز قوله (الله لغة) بمعنى ان خاصية العقل في عجزه الادراكي للخالق لا ماهية ولا صفات جعلته الضرورة يلتجيء الى ان يجعل تفكيره بمعرفة الله هو ميتافيزيقا لغوية. وهذا التعبير يختلف تماما عن تعبير نيتشة اللغة من ابداع الله. خطأ نيتشة بعبارته هذه انه اعتبر تشييء الله حقيقة ومرجعية ثابته. عليه ليس من خصائص الخالق انه يخترع اللغات بالعالم. اختراع اللغة من عمل الانسان في خاصيته الانثروبولوجية الوجودية تاريخيا. حتى في حال ذهبنا الى ان عبارة نيتشة هي من قبيل المجاز التعبيري على ان اللغة الهام فطري غريزي بالانسان فهي ايضا خاطئة فاللغة ليست خاصية وراثية فطرية بل هي خاصية حياتية انسانية مكتسبة عن العائلة والمدرسة والمجتمع. القاسم المشترك بين العبارتين الوجود لغة وعبارة الله لغة هو الفاعلية المنتجة لتفكير العقل. كتجريد لغوي سواء في معرفة الوجود او محاولة معرفة الخصائص الالهية غير الانسانية.
الفكر والمادة
تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة (الصوتية) عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي.
إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة, بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس.
فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه .تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام, في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي.
والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا, وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر علاقة تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.
والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.
الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.
وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.
ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه, وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..
علي محمد اليوسف