توطئة
من أصعب تحديات کتابة تأریخ الفلسفة ونشوئها، هو تحدید نقطة البدأ التفلسف والفیلسوف الأول في تأریخ البشریة برمتها. هذا ما أکده (أنتوني جوتليب)[1] في کتابه "حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلي عصر النهضة" بقوله: "لن يحسم التاريخ أبداً هوية منشيء الفلسفة، فقد يكون أحد العباقرة الفقراء هو من أخترعها ثم غرق في لُجة التاريخ غير المكتوب قبل ألتمكن من الإعلان عن نفسه للأجيال القادمة. اذ ليس هناك ما يدعونا لأن نعتقد بوجود ذلك الشخص، ولكن عندئذ ما كانت الفلسفة لتظهر إلي الوجود. ولحسن الحظ توجد علي الأقل سجلات لإحدى بدايات الفلسفة حتی لو لم نتيقن من أنها لم تُسبق ببدايات أخری زائفة".إن بذور الفلسفة نبتت في تربة ما، لکنها لم تکن أسیرا للمحددات الجغرافیة المحیطة بها. فمنذ نشأتها، طمحت بتجاوزها وکانت بثابة رحالة تجوب في آفاق غربا وشرقا. ولأن الفلسفة، فکر کلي/کلیاني جامع وکوني في ذاتها، تجاوزت الجغرافیا و انتقلت عبر القارات والثقافات. ولأنها کانت مؤثرا ومتجذرا في فکر الإنسان حیثما کان، تأثرت أیضا بالثقافات والأفکار التي تحتویها. فلذا، کانت حاضرة في کل مجمتع وحضارة عن طریق الفلاسفة اينما کانوا بشکل من الأشکال.
وإن کانت الفلاسفة أبناء بیئتهم الخاصة، لکنهم إجتازوا الأفق الثقافي لمجتماعتهم وذلک من خلال التواصل مع أفکار فلاسفة أخری في غیر مجتمعاتهم أو عصرهم. وأنهم انتجوا فلسفة، لیست محلیة الطابع، بل فلسفة إنسانیة طامحة.
لذا نتساءل: هل هناک تأریخ 'الفلسفة' أم تواریخ الفلسفات؟ هذا السؤال لیس من باب الجدل، إنما دعوة لقراءة التأریخ المتداول للفلسفة من وجهة نظر إنسانیة شاملة تتجاوز "المرکزیة الغربیة" في تدوین الفلسفة وتملیکها. بتعبیر آخر، خطوة نحو التحرر من هیمنة السرد الغربي في استکتاب نشوء وتطور الفلسفة.
لذا، فالمقال هو دعوة الی استکتاب فلسفي بدیل لتأریخ الفلسفة من وجهة نظر إنسانیة وبنظرة غیر اسعلائیة التي تهمش الآخر/ الغیر الغربي. لحد الآن من یقرا کتب تأریخ الفلسفة، یتبادر الی ذهنه تأریخ ولیس تواریخ للفلسفة والتي تبدأ مباشرة من الیونان وتسمیتها بالمعجزة الإغریقیة. والذین ینکرون هذا السرد، فهم یقومون بدافع ایدولوجی ولیس فلسفي.
التاریخ الکوني للفلسفة من وجهة نظر انسانیة شاملة
إنشاء العلاقة مع الماضي والتأریخ بالذات، لاتخلو من إشکالات معرفیة وتحديات فکرية. فهناك مساعي عديدة للتواصل مع الماضي من المنظور الدیني- "التقدیسي" مثلا أو من المنظور المادي التحلیلی أو من المننظور الهیجلي أو فلسفي علی العموم. فالتأریخ الکوني للفلسفة، تشکل تحديا ابستمولوجيا بالدرجة الأولی.
لأنه یرمي الی اصلاح الظلم الذي حل بالشعوب الغیر الإغریقیة ومساهمتم في تطور الفلسفة. فالکتب التأریخة السائدة، لم تسجل دورهم في تاریخ الفلسفة. لأن الخطاب المهیمن في کتابة تاریخ الفلسفة، لم یعترف بدور غیر-الاوربین.
في حین أن عن الحق في الفلسفة والتفلسف لا تنفصلان في المدلول 'الدریدي". فمن حق المواطن التفلسف وممارسة الفلسفة أینما کان. لأن هناك قاسما مشترکا بین حریة التفکیر والتعبیر، وبین التفکیر الفلسفي. لذا فالإستکتاب الفلسفي لتأریخ الفلسفة، یشکل تحدیا أخلاقيا أیضا. لأن عدم الإعتراف بدور الثقافات والحضارات الأخری في المسیرة الفلسفیة، یعتبرا ظلما معرفیا. وکما یشکل هذا التأریخ الکوني، بدیلا مناهضا للفکر الإیدولوجي السائد؛ التحرر من المرکزیة الغربیة.
تحول في تدریس تأریخ الفلسفة
في الحقیقە، تدرس في معظم اقسام 'الفلسفة' کل من الفلسفة الغربیة والشرقیة/الاسلامیة. لکن ذلک ضمن مناهج الدراسة المقارنة ولیس کمنهج مستقل. لکن الفلسفة الکونیة کمنهج بدیل ولیس کمقارنة ومقاربة بین نماذج مختلفة. لذلک نشهد 'تحولا بارادایغمی' لدراسة الفلسفة وتأریخها في البلدان الأوربیة. وقد ظهرت في أوروبا وجهات نظر تأريخية وعالمية عن الفلسفة والإقرار بدور الشعوب الذي لم یتم تمثیلهم في هذا التأریخ عموما. فهذا الجهد الجدید یتطلب الخروج من المصفوفة (canon) التأریخ التقلیدي لظهور الفلسفة وتطورها، لأن السردیة ترکز علی العقل الغربي فقط. وغالبا تم قبولها وتدولها کتأريخًا حقيقيا للفلسفة. لکن المشکلة هي أن هذا التقلید السائد أصبح 'نموذجا'- بارادیما- علمیا، اهمل التنوع الفلسفي العالمي ولم یتطرق في تدريس 'تاریخ الفلسفة' الی التقاليد الفلسفية المختلفة ورکز علی الفلسفة الغربیة دون غیرها. في حین أن المنظور التأريخي الموضوعي، لابد أن یعترف بتعدد الثقافات و الفلسفات.
أن تدرس التقاليد والمدارس الفلسفية حول العالم، یفتح أفقا جدیدة أمام الطلاب. وذلک من خلال دمج التقالید الفلسفیة المهمشة وتعريف الطلاب بمنظور جدید؛ وهو دراسة التأريخ عموما وفلسفة "تأريخ الفلسفة" من وجهة نظر عالمیة خصوصا. فمن خلال طرح أسئلة نقدیة مثل: كيف تم تأسيس السرد لتأریخ الفلسفة ولماذا یعرض هذا السرد فقط کسلسلة متواصلة لما قبل-سقراط إلى راسل، هايدجرم مثلا؟ ولماذا التركيز الضيق على الفلسفة الأوروبية والأمريكية الشمالية، دون غیرها في مناهج التدریس؟ إذن، من خلال هذه الأسئلة یمکن تحدي العقل السائد ومسائلته كيف يبنی تأريخ فلسفي أكثر ثراء فكريا وشمولا؟
الهدف هو؛ تقديم تاريخ شامل عابر الحضارات والثقافات وتغطیة تقاليد فلسفیة بدیلة غیر مبنیة علی هیمنة ومرکزیة غربیة. فمن خلال عرض وجهات نظر تاريخية حول موضوعات فلسفیة مختلفة، مثل الفلسفة السياسية والأخلاقیة أوالأسئلة المیتافیزیکیة، یمکن إثراء عقل المتلقي. ففي مادة الفلسفة السياسية لایمکن الترکیز علی النموذج الغربي الليبرالي، لأن أغلب الکتب یدرسها من خلال الرجوع إلى النصوص اليونانية الكلاسيكية "الجمهورية" أفلاطون مثلا. لکن اذا قورن نظریة افلاطون عن الفضیلة مع الفکر الصيني الكلاسيكي ک'كونفوشيوس /منجزي' نجد اوجه التشابه بین أخلاقيات الفضيلة الغربية والشرقیة الآسیویة.
ناهیک عن 'نظرية المعرفة' في التقالید الفلسفیة المختلفة، نجد أن مفهوم 'اليقين' ودحض 'الشك' تشکل غایة سامیة کديكارت في "التأملات". أو نجد أوجه التشابه بین الحلول الذي قدمه 'هيوم' في کتابه "تحقيق في الفهم الإنساني" مع محاولة الغزالي في القرن الثاني عشر في کتابه "المنقذ من الضلال". لکن، تاریخ الفلسفة بنظرة کونیة، لایقتصر علی المقارنة، إنما یرکز علی النشاطات العابرة للحدود الجغرافية والثقافیة. لأنه لم يعد من الممكن تعريف 'التاريخ' على أنه عملية تنمية 'خطية' عالمیة وموجهة نحو التقدم لکل البشریة. بل أن فلسفة التأریخ البدیل، تثبت على أنه عملية تمايز بين تاريخيات مختلفة ومتعددة.
من هنا يتم دحض المفهوم التقليدي للتأریخ والذي تتبوأه أوروبا کمركز 'الروايات التاريخية' المهیمنة. یدرس التاريخ على أنه دراسة المناطق المختلفة والمهمشة ویفسر التأریخ کعمليە النقل الثقافي بين القارات المختلفة. أي أنه تنسیق بین التخصصات المتعددة والمختلفة بهدف تعزيز نظرة شمولیة للتاريخ العالمي الفلسفي. فتسلیط الضوء علی اللآراء الفلسفية التي تتجاوز التقليد الأوروبي الأمريكي في تأریخ الفلسفة، احدی مهام هذا التأریخ الکوني. لأنه یعید بناء نظرية معاصرة تثري خيارات كيف وأين يمكننا أن نفهم الفلسفة اليوم. وهذا محصلة الجواب علی السؤال: ما علاقة تاريخ الفلسفة، بالفلسفة العالمية؟
الفلسفة العالمية، فلسفة عابرة للثقافات، ونموذج –بارادیغم- منهجي يکشف حلول جديدة لمشكلة جذور الفلسفة وتأریخها وذلک من خلال الإعتماد على التقاليد الفلسفية المتنوعة حضاریا وثقافیا. فمنهجية هذا الحقل الجدید، بطریقة ما خليفة لمشروع 'الفلسفة المقارنة' والتي وضع التقاليد الفلسفیة أو الفلاسفة في حوار ومقارنة. إذن، 'الفلسفة الکونية'، هي فلسفة عابرة للثقافات والحضارت. ومصدر إلهام هذه الفلسفة، هو تاريخ الفلسفة بذاتها. وتهدف هذه الفلسفة أیضا إلى تأسیس نظريات ومفاهیم جديدة من خلال التلاحم و التداخل التأریخي بین الأفکار والثقافات. بتعبیر آخر، تهدف الی إحترام مفكري التقاليد الفلسفية خارج الإطار الغربي والإعتراف بدورهم التأریخي.
علی الرغم من أن هناک توجسا عند بعض 'الفلاسفة المتمرسين' تجاه هذا المنهج التأریخي لکونهقد يحولهم إلى مجرد مؤرخين فكريين. فمثلا، إعتقد 'هیغل' ان دراسة الفلسفة هي دراسة تأریخها. وهناك من لا یشارکونە هذا الرأي بأن ممارسة الفلسة والتفکیر الفلسفي، لیس بتأریخ. علی الرغم من هذا النقاش، أن مضمون 'التاريخ العالمي/الکوني للفلسفة'، آلیة التعامل مع تقاليد فلسفية متعددة من جميع أنحاء العالم. وذلک من خلال استخدام الموارد النظرية ومفردات الفلسفة التحليلية لفهم النصوص الأساسية. وإستخدام المفردات المشتركة بين الفلاسفة في الثقافات والحضارات المختلفة أیضا.
کما يهدف الی إحياء المفاهیم والمواضیع الفلسفیة المتواجدة في النصوص القدیمة والجدیدة. نظرا لأن تطور الأفكار وانتقالها مرهونة بالمفاهیم والمصطلحات المتداولة تأریخیا. ولاننسی أیضا بأن 'تاريخ الفكر' بتشعباتها لايشکل تاريخًا للفلسفة بالمعنى 'الفلسفي' البحت. فالتاريخ الفلسفي للفلسفة، يختلف عن المناهج اللافلسفية.
ان تأریخ الفلسفة کتأریخ، یختلف في نظر مؤرخي الفلسفة عن غیره. فمؤرخ الفلسفة يحفر عن الآراء والأفکار الفلسفیة في النصوص فقط ولیس من منظور التأریخ العام- السیاق السیاسي والثقافي والحضاري لبیئاتهم. علی الرغم من هذا، فإن التاريخ العالمي للفلسفة، یشکل مصدرا ملهما ويساعد دارسي الفلسفة وتأریخها على إعادة التفكير في الخيارات الموجودة في الفلسفة المعاصرة. لکن هل بإمکان الفلسفة العالمية، أن تكون تاريخ الفلسفة، کلیا؟
إن 'الفلسفة العالمية' مجرد منهج. إذ یقدم من خلال التعامل مع تقاليد متعددة الحد الأدنى من المعرفة الفلسفیة، فهو محاولة نظریة وتطبیقیة لممارسة الفلسفة بصورتها العالمية الشاملة. کما أنه ضد النظرة الآحادیة لتطور العقل ویقدم التاریخ التشارکي في الفلسفة کحوار فلسفي وحضاري في آن واحد. فلیس هناك 'تأریخ'، إنما تواریخ للفلسفات مختلفة. فلیس هناک تقلید وإرث فلسفي واحد، وإنما فلسفات مختلفة. فتأریخ الفلسفة، عبارة مشوار إنساني مشترک وابداع تفکیري للفلاسفة في احضان ثقافاتهم ومجتمعاتهم المختلفة. وحسب قول 'ولیام باریس' أن الفلسفة کانت ولاتزال في ترحال دائم [2]. فهي کسائح، مترحل بین الثقافات و الحضارات لکونها بنت عالم الفکر.
وأخیرا، لابد من ذکر إحدی العوائق في تطور الفلسفة في "العالم الإسلامي" والشرقي خلافا للغربي، وهي الحاضنة –البیئة- القابلة للفلسفة فیها. هناك عصور ساد فيهم الظلم العقائدي والسیاسي أدی الی انحسار التفکیر الفلسفي. لکن، لم تغب الفلسفة کلیا ومطلقا، فنما إتخذ صورا ونمطا آخر کما یؤکده الباحث المغربي 'خالد الرویهب' في دراساته. وعائق آخر، هو ان الذین قاموا بتحقیق النصوص القدیمة في الفلسفة الاسلامیة/العربیة، حاولوا طمس الخصوصیات الإثنیة لمؤلفي هذه النصوص. فعلی سبیل المثال لا الحصر، حین تقرأ تحقیقا لکتاب 'شمس الدین شهرزوري'، 'ابراهیم الکوراني'، لم یتم ذکر اصولهم الکردیة. فقد عرضوا کأتراك أو مواطن من السلطة العثمانیة.
ینتقد مفکروا العالم الإسلامي (العرب، الإیرانین والأتراك) الهیمنة الغربیة وخطابها التهمیشي للغیر الغربي في تأریخ الفلسفة. لکنهم بدورهم لایتطرقون الی دور الدارسي الکرد في مجال اللاهوت، الکلام والعرفان وغیره. فبات الأمر أکثر من کتابة التأریخ: فهو إثبات هویة الذات و التأکید علی دور اثنیة دون غیرها. فالإجحاف بحق الآخر، ضمن نفس الحضارة والتأریخ غیر مقبول.
[1] Anthony Gottlieb
[2] https://www.artsci.utoronto.ca/news/global- philosophy-philosophy-it-was-meant-be
----------
نوزاد جمال
باحث في الفلسفة وحاصل علی الدکتوراه في الفلسفة الحدیثة.