في المحور الثالث، تحدثت الفيلسوفة فرانسيسكا باربو عن الصعوبات المتعلقة بالحرية وقدمت بعض الشروحات من النوع الأول. في هذا الإطار، ذهبت إلى أن الأسباب الجوهرية للاختلاف بين هذه الطريقة وتلك في اتخاذ القرارات الحرة موجود بكل تأكيد ضمن المكونات العديدة التي ساهمت فيها (تلك التي تمت الإشارة إليها جزئيا في السطور السابقة). وهذا أيضا يحدد تصوراتنا المختلفة عن الحرية؛ الشيء الذي تعهدت الكاتبة بإضاءته بسرعة كبيرة، مركزة اهتمامها على بضع نقاط فقط. وبعد ذلك ستنتقل إلى الأسباب الأكثر عمقا، وربما الأكثر أهمية.
في علاقة بالحقائق الدلالية مقابل الحقيقة الأنطولوجية، وقفت الفيلسوفة عند ما رأته أكثر أهمية؛ واقصد به قناعات كل شخص. الأمر يتعلق بهذه "الحقائق" التي يعترف بها كل واحد منا، في أعماقه، في ما يتعلق بمكونات قراراتنا الحرة. وفي هذا الصدد، يجب أن نتذكر حقيقة أن: القضية تكون «صادقة» ما دامت أنها «تقول» ما «يوجد» في موضوعها. القضية الصادقة تتطابق إذن مع "حقيقة هذا الشيء" (في هذا الجانب أو ذاك): حقيقته الوجودية". "حقيقة القضايا" تسميها الكاتبة "الحقيقة الدلالية"، تحديدا لتمييزها عن "الحقيقة الوجودية" المذكورة أعلاه.
وعن الحقائق الدلالية المتعلقة بالحرية، قالت الفيلسوفة إن هذه الحقائق، التي تلعب دورا في قراراتنا الحرة، تعنى، في مقام أول، بهذا الذي نعتبره صالحا (ممتعا، مفيدا، نافعا، صادقًا..)؛ الأمر يتعلق بشكل أساسي بما هو جميل بهذا القدر أو ذاك. في كل الأحوال، يتم التفكير في ذلك دائما بهدف معين، يوحد الحياة؛ ربما، في علاقة بمثل أعلى محدد.
في ما يخص الاختيارات التي يمكننا القيام بها (والتي بجب أن تعنى بما هو "خير") المهم هو أن نفهم "ما هي الأشياء" في الواقع. أما بخصوص القرارات المرتبطة بأحداث في حياتنا فالأمر يتعلق بالتعرف على "ما يحدث" حقا. بينما ليس من المهم على الإطلاق معرفة ما قالته هذه الشخصية أو تلك.
فضلا عن ذلك، كل «حقيقة دلالية» تتعلق بما نقرر في المستقبل (ما هو إذن، في الوقت الراهن، مجرد شيء ممكن) لا يمكن أن يكون صادقا بشكل نهائي: إنه حقيقة "عملية". لذلك، ليس من السهل على الإطلاق معرفة كل ما هو مهم، بهدف تحقيق حريتنا الحقيقية. والأكثر من ذلك، يجب النظر إلى الشيء إما في تعقيده، أو في وضعه في "شبكات" معينة، أو باعتبار كل ذلك قابل لأن يتغير . كما يمكننا التركيز على العوامل الأخرى التي تؤثر على حريتنا، ولكن الكاتبة تركتها جانبا.
وعن اللانهائي الذي نحب أن نرغب فيه، تضيف الكاتبة كلمة واحدة فقط عن الرغبات التي لا تتحقق دائما: تلك التي يتم التعبير عنها إما في شكل التطلع إلى المثل الأعلى، أو عندما نسعى وراء "حلم" يكون أحيانا غير قابل للتحقيق. الشيء الأساسي، لإعطاء التفسير الأول لذلك الأمر، هو كما يلي: نفكر من خلال التعبير عن مفاهيم كونية، وأيضا، قبل كل شيء، من خلال استعمال مفاهيم مماثلة. هذا يخص، على وجه التحديد، مفهوم "الصالح" (الذي هو تناظري بالفعل). لهذا السبب فإن إرادتنا التي تتبع أفكارنا محمولة على الرغبة، باستمرار، في شيء أكثر وأفضل.
ذلك ما ينطبق بشكل خاص على حياة كل شخص بأكملها. ولهذا السبب ينطلق شخص ما نحو المثل الأعلى بينما يميل شخص آخر إلى "الحلم" بـ"السعادة غير المحدودة"، التي، مع ذلك، تتحقق "في هذا العالم المحدود". ربما يحدث أن يقع عليه الاختيار: لكن ذلك يعني إرادة "المستحيل". (إذا أخذت هذه الكلمات بمعنى"صارم").
بحثا عن أسباب أعمق، أشارت الفيلسوفة فرانسيسكا إلى أن الطريقة التي نستخدم بها مكونات أفعالنا الحرة تحدد أي اختيار حر، وكذلك تصور الحرية الذي لدينا. هنا يوجد تفسير أول لطرقنا المتعددة في النظر إلى الحرية. هل يمكننا ربما (إلى جانب التفسيرات من النوع الذي قدمناه حتى الآن) العثور على أسباب أعمق لشرح ما يهم حريتنا؟ تجيب الكاتبة بنعم.
وصولا إلى المحور الرابع، اهتمت الكاتبة بالنقص الذي بعتري الوضوح المباشر للمتعاليات، ٱخذة بعبن الاعتبار الغموض الذي يكتنف مفهوم الحرية. لأجل ذلك، ذكرت ب"حقيقة الأشياء" (أو "حقيقة الوجود" أو "الحقيقة الوجودية") كما تقدم ذكره، وكذلك «الخير»، و«الجميل»، و«الواحد»، وأيضا (انطلاقا من الأوصاف الأولى) "الوجود". من لديه ثقافة فلسفية يعرف أن هناك خمسة متعاليات (بالمعنى الذي تأخذه هذه الكلمة وفق اصطلاح التقليد الذي يعود إلى أرسطو): أي "الوجود" وأربعة من خواصه.
ومع ذلك، هذا ليس واضحا على الفور للجميع. هذهىالمصطلحات في الواقع معروفة لدى غالبية الناس بشكل سطحي تماما. بل إنه من السهل جدا تجريحها، فيما يتعلق بدلالتها: هذا هو الحال، بمجرد أن نترك جانبا كل تفسير فلسفي. من أجل المزيد من الدقة، تدعونا الكاتبة إلى رؤية ما يحدث في شأن الكلمات الأكثر أهمبة، لفهم حريتنا. في ما يتعلق بالخير، كل واحد منا لديه معرفة أولية به، من حيث أنه يرى أن هذا أو ذاك هو في حد ذاته إما قيمة يجب تحقيقها، أو شيء مفيد أو ممتع؛ أي سواء كان هذا أو ذاك فهو صالح بالنسبة إلى هذا الذي يأخذه بعين الاعتبار. لذلك، في علاقة بنفسه يدرك المرء، قبل كل شيء، ما الخير وما يكون: مع ذلك، هذه وجهة نظر أحادية الجانب بإفراط. وبالتالي تكون طريقة النظر إلى "الخير" مشروطة بقوة بعاداتنا، قناعاتنا الأخلاقية، وكذا بالتأثيرات الثقافية التي مورست علينا. لكن، انطلاقا منها يكون الجميع الفكرة الأولىعن "الخير". (توجد اعتبارات مماثلة أيضًا في ما يتعلق بـ"الجمال"). وفوق ذلك كل "خير"، عشنا تجربته في هذاالعالم، معقد، يجد نفسه موضوعا في "شبكات" من الكائنات، يتغير باستمرار (كما قلنا أعلاه).
في علاقة بالحقيقي واعتبارا لما "حسن حقا" من حيث المبدأ، فالأمر يتعلق ب"الخير"، طالما أنه مؤسس على "حقيقة" الوجود" أو "الحقيقة المتعالية". لذلك، نحن هنا أمام "الحقيقة المتعالية" و"حقائقنا الدلالية" التي يتعين أن تتعلق بها: ذلك أننا بواسطة "الحقائق الدلالية" يمكننا معرفة ما هو "الحسن حقا" أو "الجميل حقا"، إلخ. وهذا يعني، بالضبط، أن هذه هي الطريقة التي نستطيع بها معرفة أي شيء كذلك في "حقيقته الوجودية": ما دام أن كل "وجود" موجود قابل لأن يعرف بفضل "الحقيقة الوجودية". وبالتالي فإن الأخيرة هي "البهاء" الذي يجعل قابلا للمعرفة كل "وجود"، وكل مظهر من مظاهره: بما فبها "صلاحه"، "جماله"، "وحدته"... ومع ذلك، في هذا العالم، معرفتنا بـ"الحقيقة الوجودية" لكل كائن هي أيضا سطحية للغاية: يكفي التفكير
في المحدودية الهائلة في معرفة البيولوجيا والفيزياء،الخ،، وصعوبة اكتساب معرفة فلسفية مؤسسة ومعمقة بأفضل ما يكون..
من حديثها عن المتعاليات، تخلص الفيلسوفة فرانسيسكا إلى أنه بمكن أيضا عرض اعتبارات مماثلة لكل من المتعاليين الآخرين. ثمة إذن، في هذه السطحية التي تتسم بها معرفتنا بالمتعاليات، سبب أعمق وراء الصعوبات - التي بمكن لكل واحد منا أن تصادفه - أمام اتخاذ قرارات حرة حقا: لأن المتعاليات بالفعل هي أساس كل قرار حر. (للتأكد من ذلك، يكفي مراجعة الوصف الوارد أعلاه). وهذه السطحية هي أيضًا سبب لمدى حريتنا: بسببها يمكن التعاطي للمخدرات... وهكذا يكون السعي وراء حرية زائفة. تتوقف هذه السطحية بدورها على سبب ما يمكن الإشارة إليها؛ بشرط أن نعمق أبحاثنا أكثر.
وفي ما يتعلق بجميع الكائنات المخلوقة، بما هي كذلك: يستهدف فكرنا قبل كل شيء "جوهرها"، تستهدف إرادتنا قبل كل شيء "وجودها". نستطيع العثور على سبب أعمق لجوانب معينة من حريتنا، إذا أخذنا في الاعتبار واقعة أن كل "كائن" مخلوق مركب حقا من "جوهره" و"وجوده"، وإذا لاحظنا أن ما يستشرف كأولوية: (أ) من قبل فكرنا، هو "جوهره"، (ب) من قبل إرادتنا هو "وجوده". (يتعلق الأمر فقط ب«تفضيل» «الجوهر» على «الوجود»، وليس على الإطلاق باستبعاد جانب أو آخر من جوانب من "الكائنات" المخلوقة: لا سيما أنه لا يمكن أن يكون هناك "جوهر" بدون "وجود"، والعكس صحيح.) ومع ذلك، فإن كل فعل حر هو نتيجة لكليهما: الفكر والإرادة. في هذا الصدد بالتحديد يمكننا أن نجد سببا ٱخر للعديد من الصعوبات التي نواجهها في حياتنا.
من ناحية، (1) ما نرغب فيه، وخاصة من خلال أفعال الإرادة، يجب أن يصبح حقيقيًا (أن يكون له وجود حقيقي عاجلاً أم آجلاً). من ناحية أخرى، (2) ما نفكر فيه (موضوعات رغباتنا) يجب أن يكون لا نهائيًا: لأنه من السهل علينا أن نفكر فيه بهذه الطريقة. لتوضيخ هذه النقطة الثانية، يجب أن نتذكر حقيقة أنه (كما مر بنا أعلاه) بواسطة مفاهيم كونية وتناظرية أيضا في بعض الأحيان يأخذ فكرنا في الاعتبار كل شيء: بحيث تعبر هذه المفاهيم أيضا (باعتبارها كونية وتناظرية) عن ممكنات لاحقة، إلى ما لا نهاية! لكن في هذا العالم، كل كائن واقعي متناه: ليس لانهائيًا على الإطلاق. وهنا يوجد سبب أعمق للعديد من الأحزان بين عطشنا إلى اللانهائي ورغبتنا في تحقيق ما لدينا من آمال: بينما ما ينقصنا في هذا العالم هي إنجازات لا حصر لها بالفعل.
في المحور الخامس، تطرقت بإيجاز الفيلسوفة فرانسيسكا ريفيتي باربو إلى التصور الشامل لكل شيء، معتبرة إياه ضروريا لفهم حريتنا. وحتى تكون لدينا أفكار واضحة عن ماهية حريتنا، يجب علينا أن نلجأ إلى تصور شمولي عن "الكل". هذا ما يمكن النظر إليه بعجالة انطلاقا من التصريحات التي تم الإدلاء بها حتى الآن: مع ذلك سنكون قادرين على فهمه بوضوح، فقط على أساس ما سنقوله في القريب العاجل. إنما بفضل هذا التصور الشامل يمكننا أن ندرك ما هي أسس حريتنا ويمكننا العودة إلى السبب الأساسي الكامن خلف مدى امتدادها.
ثم باختصار شديد، تحدثت الكاتبة في المحور السادس، وانطلاقا من ديانتها، عن رؤئ المسيح والمقاربة الفلسفية للحقيقة الشاملة التي اوحى لهم بها يسوع. ففي المسيح يجدون الحل لمشكلة الشر. هو الذي يقدم لهم مساعدة هائلة من العفو. مع ذلك، بإمكانهم الحصول على رؤية شمولية وحقيقية ل"الكل" من خلال الاستدلالات الفلسفية التي تسمح فعلا بأن يصعدوا إلى العلة الأولى لحريتهم: الله-المتعالي والخالق، وبأن ينزلوا إلى أسفل حيث هم. هذا يتيح للمسيحيين (على الأقل من الناحية النظرية) حل العديد من الصعوبات المتعلقةىبحريتهم.
بنفس الإيجاز، تنوب الكاتبة، في المحور السابع من مقالها، عن المسيحيين في مناجاة الله كما يتصورون ثبوت وجوده على أساس من حريتهم التي توفر لهم، كما تقول فرانسيسكا، نقطة انطلاق لإحدى "الطرق" المؤدية إلى الله الخالق. وهذا قياس الخلف. إذا لم نكن مخلوقين من قبل الله-المتعالي، فسنوجد، نحن والعالم، إما (1) بالصدفة؛ أو (2) كاشتقاقات ضرورية من مطلق محايث (إما، أ) باعتباره انبثاقا ضروريا من المطلق، (وإما، ب) كإحدى لحظات الجدل من النوع الهيجلي). في هاتين الحالتين، لم نتمكن من التصرف بحرية. بالفعل: (1) إذا وجد كل شيء "بالصدفة"، فلن يكون هناك شيء "حسن" أو "صالح"، ولن يكون لدينا أي سبب لاختيار أي شيء كان: لأن كل سبب للاختيار يشكل قيمة معينة. ومن ناحية أخرى، (2) إذا كان كل شيء اشتقاقا ضروريا من المطلق، إذن لا شيء يمكن أن يكون حرا، ولا حتى الأفراد من البشر. بناء على ذلك: مادمنا - في بعض أفعالنا - نكون أحرارا، يترتب على ذلك، (3) أن الله المتعالي هو الذي خلقنا.
علاوة على ذلك، يمكن في الفلسفة إثبات أن (4) الله، خالق العالم كله، هو واهب المحبة.
انطلاقا من هذه الفكرة الأخيرة، سعت الكاتبة، في المحور الثامن، إلى الوقوف مطولا عند حرية المسيحيين أمام الله واهب المحبة، مشيرة إلى أن تينك الحقيقتين [(3) و(4)] تعطيانهم نظرة شمولية عن "الكل" الذي يضمن لهم، قبل كل شيء، أن حريتهم منحها لهم الله حتى تزدهر شخصية كل رجل-أو-امرأة بشكل كامل. أكثر من ذلك، تتيح لهم تينك الحقيقتان أن يعرفوا إما (1) ما هي أسس حريتهم [انظر ما يلي قوله حول هذه النقطة والتي تتبعها]، وإما (2) ما هو أصل امتدادها الذي هو، في هذا العالم، غير محدود.
إليكم نتيجة الاستدلالات التي تسلط الضوء على أولى هاتين النقطتين.
8.1. الأساس الأول لحريتهم: الله. خلق الله الكل "من يكون" ومن لا يكون الله؛ ولهذا السبب كل "كائن" وهب بالضرورة خصائص معينة. بالفعل، بالنسبة إلى كل ما هو مخلوق، (1) بقدر ما فكر فيه الله، الحق الأسمى، فهو "كائن" له "حقيقته" الخاصة، "حقيقته الوجودية": التي يمكن إذن التفكير فيها؛ (2) بقدر ما أراده الله، الخير الأسمى فهو "كائن" "صالح": نستطيع أن نحبه (لما فيه من صلاح)؛ (3) بقدر ما (في "حقيقته الوجودية" وفي "صلاحه") يتلقى منه الله، الجمال الأسمى، قدرة معينة على الإبهار، فهو "كائن" "جميل": يمكن أن نعجب به (لما فيه من جمال).
ها هي إذن المتعاليات التي تتوقف عليها حريتهم؛ هم يدركون أن وجودها في كل مخلوق ضروري، باعتباره فعل الله الخالق: الذي-هو-موجود، الحق الأسمى، الخير الأسمى، الجمال الأسمى.
لذلك فبفضل وجود هذه المتعاليات، في كل شيء، الذي يضمنه خلق الكل من قبل الله؛ وفي ارتباط بالمتعالٍيات، يمكن لحريتهم أن توجد [راجع ما قيل بهذا الصدد في المحور الرابع].
وبالتالي فإن الله، واهب المحبة، هو الأساس الأول لحرية الإنسان.
8.2. الأساس الوثيق لحريتهم: الكائن، باعتباره حقا، خيرا، جمالا. ولذلك فإن "الحق الوجودي" و"الخير" و"الجمال" خواص لـ"الكائن"، لكل "كائن": سواء لله أو لكل مخلوق. (تم توضيح ذلك سابقا). وبما أن حريتهم كذلك، في علاقة ب"الخير" و"الجمال"، وكذا
ب"الحقيقة الوجودية"، وبما أن هذه المتعلقات الأخيرة هي خواص للوجود، بوصفه كذلك، ينتج عن ذلك أن من يجعل حريتهم ممكنة هو الوجود. لذلك ف"الوجود" هو الذي يؤسس حريتهم: إنه أساسها الوثيق.
لكن، كان علينا أن نسلك منعطفا لنفهم ذلك: فعلا، النتائج المذكورة أعلاه [في ن. 8.1] ليست على الإطلاق واضحة بشكل مباشر! لماذا وجدنا أنفسنا في هذه الحالة؟ ها هو السبب:
8.3. الإله المختفي: علة مدى حريتهم في هذا العالم. ليس للمسيحيين وغير هم من أتباع الديانات الأخرى رؤية مباشرة للفعل الخلاق الذي يقوم به الله. لهذا السبب ليس لدينا أي دليل مباشر على أسباب انتماء المتعاليات إلى كل كائن في هذا العالم. لذلك ليس من السهل علينا أن نفهم هذه الانتماءات ذاتها؛ وما عملنا سوى على إلقاء نظرة خاطفة عليها. إنما بسبب ذلك، خلال حياتنا في هذا العالم، وصل اتساع نطاق حريتنا إلى الحد الأقصى: إلى الحد الذي يستطيع كل شخص
أن يختار أيضا ما هو مزيف للحرية (مثلا، تعاطي المخدرات...).
وحتى يصمن لنا الله وفرة حريتنا في هذا العالم، "اختبأ" جيدا عن أنظارنا. وهكذا، يمكن للجميع حتى أن يسلكوا الطريق الذي يقودهمىبعيدا عن الله؛ ومع ذلك، فهذه أيضا هبة من الله! هو الذي يستنكف عن جعل مخلوقاته الذكية تُحبه فورًا من أجل إعطائهم قدرا أكبر من الحرية.
8.4. وجهة نظر مفرطة في التفاؤل بشأن حريتنا الوفيرة.
لكل واحد منا إذن، في هذه الحياة، حرية فائضة: بحيث أنه من خلال أعمال الحب الحرة تمامًا، يكون كل منا مدعوا للانطلاق نحو الله.ةومع ذلك، بما أن الله هو واهب المحبة، ففيه يجد كل واحد أمانه لمواجهة أي قرار في الحياة بحرية تامة. ها نحن إذن أمام توضيح جديد من شأنه أن ينير حريتنا بـتفاؤل رائع.
من التحديات التي واجهتني في المراحل الأولى من هذه الرحلة شساعة نطاق الموضوع الذي ليس مناطه شيئا ٱخر غير الحديث عن مفهومي الحرية والحقيقة في القول الفلسفي، وربما، لهذا السبب، أرى أنه من غير المناسب أن أدعي قدرة على الإلمام بالموضوع من كل جوانبه، إنما حسبي ألا يتعدى عملي حدود تجربة يمكن اعتبارها نموذجا فقط من بين نماذج محتملة يبقى متاحا لغيري، حاضرا ومستقبلا، إمكان الاشتغال عليها بمقاربة مغايرة ومنظورةمختلف.
في هذه المرحلة الخامسة، بخلاف سابقاتها، سنقوم سويا بقراءة مقالة مطولة (140 صفحة) كتبها روبينس بيليدور، الأستاذ الباحث بجامعة شيربروك الكتدية، ونشرها على الحامل الورقي سنة 1996 وعلى الانترنيت سنة 2015 تحت عنوان: "بخصوص إشكالية الوجود: جوهر الحقيقة والحرية الإنسانية عند هيدجر". بدأ هذا النص بالإشارة إلى أن مسألة الحقيقة هي مسألة "معنى الوجود". أصبحت متجذرة حتى في ماهيتها ا الأساسية كحقيقة الجوهر. ويعني الفيلسوف بالجوهر ما يميز شيء ما باعتباره كذلك. هكذا، تم إدراك فكر الوجود، الذي اشتقت منه هذه المسألة في الأصل، منذ أفلاطون على أنه "فلسفة"، ثم حصل في ما بعد على اسم "الميتافيزيقا" التي ينظر إليها من أساسها كتفكير في الموجود بما هو موجود. إنها تساؤل يتجاوز الموجود الذي تتساءل عنه من أجل استعادته كما هو في مجمله لتحقيق مفهومه. وبالفعل، حيثما طرح السؤال عما هو الموجود، إلا ويقف مرئيا كما هو. وهكذا يكون التمثيل الميتافيزيقي مدينا بهذه الرؤية إلى ضوء الوجود. إنه (السؤال) يتوقف عن أن يكون قبل كل شيء في ملكية المعرفة المطابقة للواقعي، ليصبح حدثا مرتبطا بحلول الوجود في الدازاين. إنما في الاختلاف بين الوجود والموجود يعثر على أصله. ولأن الوجود لم يُفترض قط من قبل التفكير الفلسفي كأصل لزمن وتاريخ العالم في هذا التفاعل الثنائي ببن الوجود والموجود، لم تكن حقيقة الوجود أبدا موضوعا للتفكير الموضوعاتي. لعرض هذا البحث الصعب عن مسألة حقيقة الوجود التي لها نفس البنية الدائرية التي لمسألة الوجود، قام الكاتب بإجراء تقطيع معين بدا له ضروريا للاستجابة لحاجتنا إلى فهم أوضح لفكر فيلسوفنا.
أليس هذا ما فعله هايدجر نفسه عندما عرض لأول مرة في كتاباته الأولى، من "الوجود والزمن إلى "جوهر الحقيقة"، الجانب "المتعالي" لحقيقة الوجود، في حين أن أحدث أعماله، وهي تحتفظ بالنتائج السابقة، لكن عبر استعادتها على أساس أكثر أصالة، حققت منعطف --- die Kehre --- فكره وفق الجانب "المتعالي" لحقيقة الوجود. هنا أخبر الكاتب قراءه بأن مقالته ستأخذ في الاعتبار الأعمال الأولى فقط، وهذا يعني أنه لن يتطرق إلى المنعطف، لكنه سيركز على هايدجر الشاب وسوف ينتناوله كهلا في حديث لاحق. عندما نشر مارتن هايدجر الجزء الأول من كتابه "الوجود والزمن"، عام 1927، تعرض فجأة فكره الذي تطور لفترة طويلة في صمت نشاط أستاذ جامعي، للضوء القاسي للوجود العام. في هذا السياق، أكد هايدجر، كما كتب بوجيلر في مقدمة "الوجود والزمان"، أن هذا الكتاب جعل فكر مارتن هايدجر، على ما يبدو، في طليعة الحركة الفينومينولوجية، التي كان يعلم أنه ينتمي إليها، وأنه أهله لأن يتقدم، بشكل أكثر عمومية، على كل الذين كرسوا أنفسهم للفلسفة.
أثار الكتاب إلى حد كبير ظهور مواقف أساسية: البعض رأى فيه محاولة، قام بها الإنسان أخيرا بشكل جذري لأجل غاية حسنة، للارتباط به وحده وبأكمله؛ بالنسبة للآخرين، قدم الكتاب مساعدة كافية لجعل خطاب الإنسان حول الله، أو حتى الكلام الموجه من الله إلى الإنسان، ملموسا بطريقة جديدة. بالنسبة إلى الكثير من الشباب الذين كانوا يبحثون عن طريقهم، أصبح "الوجود والزمان" مرشدا، فقط لأنه في وسط ديحور الثورات والحروب تعلموا رغم كل شيء، من هذا الكتاب، أن يموتوا --- في هذا المعسكر أو ذاك --- كيف يجربون موتهم الخاص. لا يمكننا أن نكلف أنفسنا بمهمة مكافحة أخطاء التأويلات. ما الفائدة من إظهار أن هايدجر قد أسيء فهمه، --- ما ذا يمكن ان يقع،خلال المسار، لو احتقر ايضا نفسه ومٱله؟ قد نسأل أنفسنا: ما الذي يبرر أن هايدجر أسيئ فهمه؟ يمكننا الإجابة بإيجاز، آخذين النازية كمثال.
عدد كبير جدا من المعلقين والقراء الذين يربطون أفكار الفيلسوف بانتماءه النازي، لا يوافقون أي شخص على اختياره فلسفة مارتن هايدجر كمسار فكري في الحياة العملية. ربما هناك، كما يشير بيير بورديو، أفكار قليلة محددة ومؤرخة بعمق مثل "الفلسفة الخالصة" لهايدجر. ما من مشكلة من مشكلات العصر، أوإجابة أيديولوجية من"الثوار المحافظين" على هذه المشاكل إلا وتوجد في هذا العمل المطلق، إنما في صورة متسامية وغير معروفة.
ومع ذلك، هناك عدد قليل من الكتب التي تمت قراءتها بطريقة هي كذلك لا تاريخية بشكل عميق. أكثر المستنكرين تصميماً على التنازلات التي قدمها مؤلف كتاب "الوجود والزمان" للنازية هم بالذات من أهملوا دائمًا البحث في طياته عن أدلة أو اعترافات أو آثار قادرة على التأشير أو إلقاء الضوء على التزامات مؤلفه السياسية. هؤلاء المستنكرون لم يستطيعوا تجشم عناء السعي إلى معرفة ما كان يريده هايدجر من صيرورته نازيا، فضلوا التدقيق في أعمال الفيلسوف من أجل تسليط الضوء على ما اعتبروه جديرا بالدلالة على معاداة السامية، معتبرين أن العرق هو "وجود-الإنسان". هذا هو التناقض الذي ننوي حله في نهاية حديثنا، حتى نظهر للقراء الكرام ما أراد تحقيقه من خلاله انتمائه إلى النازية، معتمدين على كلام هايدجر نفسه. المسألة الحاسمة والوحيدة هي معرفة مصدر هذا سوء الفهم، ومن أين يأتي. نظرا للطمأنينة أثناء مشيها نائمة عندما مرت الفلسفة. بجانب القضية الحقيقية والوحيدة في "الوجود والزمان"، لم يكن الأمر، كما أدرك هايدجر في حينه، يتعلق بتفسير خاطئ لكتاب ما، ولكن بهجراننا من قبل الوجود: فهم أصل هذا "الهجران"، البحث عن إمكانية الخروج منه، والاهتداء هكذا إلى مدخل يؤدي إلى ما يجب التفكير فيه والتوجه نحوه، تلك هي المهمة الآن. ما كان نيتشه يريده، من خلال تقاسمه، عبر "فكره الفريد"، من هذا القليل الذي يحجب، بحث عنه هايدجر أيضا في المقالات والندوات والدروس التي يتعين علينا مراجعتها والتي سنذكرها بالترتيب الزمني: "في جوهر حرية الإنسان"، دروس 1930؛ دروس حول استعارة الكهف ومحاورة ثياتيتوس لأفلاطون، شتاء 1931-1932. شيلينج صيف 1936: مقالة حول جوهر الحرية الإنسانية ونظرية أفلاطون حول الحقيقة، 1942.
(يتبع )
المرجعان:
( 1) ,RIVETTI BARBÒLIBERTÉ ET VÉRITÉ DU SAVOIR COMMUN À LA PHILOSOPHIE
(2) RUBENS BÉLIDOR, A propos de la problématique de l Être: L'ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉ HUMAINE CHEZ HEIDEGGER