يعتبر التواصل من العلوم الأساسية لبناء أي علم سواء في ميدان اللغة أو الفلسفة أو علم النفس أو السياسة وغيرها، وإذا كان التواصل يقوم في المقام الأول على اللغة، فإن هذه الأخيرة ليست الأداة الوحيدة للتواصل فهناك ادوات أخرى غير اللغة كالإشارات والحركات والصمت، وذلك لأن التواصل لا يقتصر على إرسال الرسائل اللفظية أو القصدية لتحقيق هذا التواصل.
ومنذ القديم اعتمد الإنسان على وسائل متعددة لخلق التواصل، وهو ما لم يدركه الإنسان في ذلك الوقت. وب كل ما يظهر بسيطا للعين المجردة هو نوع من التواصل، والهدف هو خلق تواصل ثقافي شامل، وهو ما حاول هابرماس الوصول إليه من خلال نظرية التواصل، والتي يراهن من خلالها على ضرورة تحقيق مطلب الديموقراطية التشاركية، الذي يساهم في توفير حق الجميع في النقاش العمومي.
بناء عليه ومن هذا المنطلق يمكن طرح العديد من التساؤلات الاشكالية التالية، من قبيل، ما هو دور اللغة في نظرية التواصل؟ وهل خلق فضاء عمومي يساعد على التواصل الفعال بين الأفراد داخل المجتمع؟ وماهي أشكال التواصل التي تحقق غاية التواصل؟ إنها مجموع الأسئلة الإشكالية التي سنحاول الإجابة عنها ضمن هذا المقال.
- اللغة والتواصل عند هابرماس
قام فكر التنوير على الجمع بين فلسفة اللغة ونظرية العلم والتأويلات الذاتية والتاريخية، والتحليل النفسي، مستفيدا من الإنجازات المعرفية والمنهجية، هادفا إلى تكوين علم تداولي شامل من أجل إحداث ثغرات في علاقات الأفراد مع بعضهم البعض على أسس منهجية، من أجل تحقيق شروط التواصل والحوار في مجتمع متحرر، وقد تحقق هذا الهدف مع الفلاسفة المعاصرين وعلى رأسهم "هابرماس" الذي حاول صياغة قواعد جديدة لفكر متحرر من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية... وتدشين مجال الحوار المنفتح على الحرية واللغة بين الأفراد، وهذا المجال هو مجال التواصل اللغوي أو الفعل التواصلي في ظل الفضاء العمومي.
لقد تغيرت عدة مفاهيم في عدة مجالات في سياسة الحوار والتواصل بواسطة اللغة، فالعقلانية التي نادت بها عصور التنوير وتم اختزالها في العقل، اليوم أصبحت تتجسد في اللغة وباللغة، وهذا ما يؤكده هابرماس بقوله: إن ما نسميه "عقلانية " هو أولا الاستعداد الذي ثبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل على اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ"([1]).
يحمل التواصل عند هابرماس أكثر من معنى، فهو تواصل بين الأفراد، وتواصل بين المفاهيم، وتواصل بين الحداثة، وعليه عمل على التأصيل للتواصل كنظرية فلسفية وسياسية في إطار محاولة التأسيس للعقلانية التواصلية. وعليه فالنظرية التواصلية عند هابرماس هي نقد للوضعية والتقنية والمادية التاريخية، وبذلك يصير الفعل التواصلي عنده هو فعل لغوي وفلسفي ونقدي وسياسي أساسه الحوار العقلاني والأخلاقي والبرهاني، وبذلك يصير الفعل التواصلي بديلا في إطار العقلانية التواصلية.
كما أن اللغة من جهة نظر "هابرماس" هي "حوار بين عقول المتحدثين، تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ التوافق بصدد القضايا المثارة بينهم دون اللجوء إلى العنف، واللغة هنا جملة قواعد تؤسس للاتصال والتواصل بين الناس وليست أصوات تلقى شذرا مدرا، إضافة إلى كونها خزان المعارف والتجارب الإنسانية، بل أن كل فعل لغوي إنساني يندرج ضمن العاب لغوية تتبارى فيها قضايا السياسية والأخلاق... وهي في نفس الوقت أنماط حياة كما يقول "فتجنشتاين"([2]).
يؤكد هابرماس على أن اللغة تحيل إلى الاتفاق والقبول والتواصل، ومن هنا شكلت اللغة نقطة جوهرية في مشروعه، وعليه فإن منطلق المجاوزة بالنسبة لهابرماس يجد مبرره في الدمج بين الأخلاق والتواصل، وأكثر من ذلك فالأخلاق بالنسبة له متأصلة في بنية النشاط التواصلي، وبناء على هذا يكون هابرماس قد تجاوز الأخلاق الكانطية التراندستنتالية نحو أخلاق إجرائية تواصلية، حيث لعبت اللغة دور الوسيط في هذه الأخيرة.
فاللغة تشكل نسق من القواعد التي تساهم في توليد الثغرات، فالتعبير المصاغ بشكل صحيح يعتبر عنصرا من هذه اللغة، وعليه فالذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عملية التواصل بحكم أنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عنها في نفس الوقت، إذ يمكن القول أن اللغة تلعب دور الوسيط في التواصل، ولتعزيز هذا الطرح سينفتح هابرماس على أعمال اللغويين وفلاسفة اللغة خصوصا "الفلسفة الإنجلو-أمريكية" ، باعتبار أن هذه الأخيرة أعادت الاعتبار إلى اللغة الجارية "لغة التواصل اليومي" التي طرحها كل من فتجنشتاين في كتابه بحوث فلسفية.
إذن فاللغة هي التي تمكننا من خلق التفاعل الاجتماعي بين الأفراد من خلال طرح أفكار وقضايا في مائدة النقاش والحوار ليتم الاجتماع والتعبير عن الآراء بواسطة عبارات لغوية لهذا "فاللغة عند هابرماس تشكل نسقا من القواعد التي تساعد على توليد تعبيرات لدرجة أن كل تعبير مصاغ بشكل صحيح يعتبر عنصر من عناصر هذه اللغة ومن ثم فإن الذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عمليات التواصل لأنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عليها"([3])، وهي أيضا "حوار بين عقول المتحدثين، تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ الإجماع بصدد القضايا"([4]).
من جهة أخرى أكد "هابرماس" على الدور الهام الذي يلعبه العالم المعيش بفضل مكوناته المتمثلة في كل من الثقافة والمجتمع والفرد، وكل ما هو مرتبط بالفعل داخل هذا الوسط. فكل هذه الأسباب هي خلفية ومرجع للنشاط التواصلي، الذي يشكل أسمى ثقافة ذلك الزاد الجاهز من المعرفة التي يغترف منها المشاركون في التواصل تأويلا لهم عندما يتفاهمون حول بعض الأشياء المنتمية للعامل، وترسيخ مجتمع الضوابط المشروعة التي بواسطتها ينظم المشاركون في التواصل انتماءاتهم إلى مجموعات اجتماعية ويدعمون كذلك تضمنهم، أما الشخصية في تلك القدرات التي بفضلها تكتسب ذات ما القدرة على الكلام والفعل والقدرة على الانضمام إلى سيرورات التفاهم، وبالتالي تثبيت الهوية الخاصة [... ] إن "هابرماس" وفي إطار عودته للعالم المعيش ومكوناته فإنه يريد من خلال هذه العودة البحث عن الخلفيات التي بإمكانها ان تفرز له وجود تفاهم حقيقي"([5]).
يتم تحصيل التفاهم الحقيقي عن طريق فسح مجال أوسع للذوات للتعبير عن آرائها بكل حرية مستندة إلى براهين وحجج قوية كآلية لإثبات ذلك، ومن هنا ومن أجل تدعيم كل ذات مشاركة في العملية التواصلية لادعاءاتها يجب أن تستند إلى أسس برهانية وحجاجية، لأن المناقشة الحرة والعقلانية تفترض هذا، فكفة الصلاحية تكون لمن يقدم أفضل حجة. كما أن قوة برهان ما تقاس داخل سياق معين بصحة الحجج، وهذه الصحة تظهر من بين ما تظهر فيه، في قدرة تعبير معين على إقناع المشاركين في المناقشة وعلى تبرير دعاوى الصلاحية"([6]).
كما أن ما يمنح لفرد من بين الأفراد المشاركين في النشاط التواصلي الحق في دحض براهين وحجج الطرف الآخر هي المساحة التي يعطيها العقل التواصلي، لكونه يبنى على أساس الاتفاق لا على أساس التأثير من طرف الآخر كيفما كان هذا التأثير سواء مادي أو سلطوي أو الكذب أيضا الذي اعتبره "هابرماس" بأنه (الكذب)، والذي لن يؤدي سوى إلى اتفاق مؤقت سرعان ما يعاد فيه النظر بعد اكتشافه، ولهذا استبعده "هابرماس" كوسيلة للإقناع، فالإقناع المبني على هذا الأساس يمكنه أن يؤدي إلى التزام لا تأثير له.
إن الاتفاق المبني على الكذب أو على التأثير المعتمد على وسائل أخرى كالمال والسلطة يبقى مجرد اتفاق مؤقت"([7])ومن هنا عندما تعمد الأطراف المشاركة في الحوار إلى التأثير على البعض عن طريق الوسائل التي تم ذكرها، فإن الأمر هنا لا يتعلق بفعل توصلي بل بفعل استراتيجي أو أدائي يسعى كل طرف من ورائه بتحقيق النجاح الخاص باتخاذ باقي الأطراف مجرد غاية لذلك.
وبخلاف الفعل الأدائي نجد أن الفعل التواصلي يضمن لكل فرد كامل المشروعية والحق في التعبير عن رأيه بكامل الحرية، بشرط أن يدعم هذا الرأي بحجج وبراهين عقلية، وعليه يكون الحوار والنقاش الصحيح تراضي، وهو يقوم على أسس معقولية وليس بالتهديد والعنف، فالنقاش يقوم على القوة الخالية من عنف الخطاب، وعلى هذه الأسس يؤثر المتحاور الواحد في الآخر في الفاعلية الإستراتيجية، وفي الفاعلية التواصلية يؤثر الفاعلون طبقا للتفاهم المتبادل، وهنا مبدأ الأخلاق؛ حيث أن كل تواصل هو أمر معياري، كما أنه يفترض أن الآخر شخص، لأنني لا أتعامل معه كشيء فالتواصل أيضا هو مملكة الأخلاق النظرية"([8]).
فالتفاهم بين الأفراد يجب أن يبنى على المشروعية الممنوحة لكل فرد في الدفاع عن وجهة نظره لا بالعنف والتسلط، بل باستعمال الحجة العقلية، وإذا تم الاعتراض على حجته فعلى الخصم المقابل أن يفحص حجة الخصم الأول عن طريق حجة أقوى من الأولى، وإلا فإن الأمر سيكون خروج عن الفعل التواصلي.
- الفضاء العمومي عند هابرماس
يعد مفهوم الفضاء العمومي Public espace من المفاهيم الملازمة للعقلانية التواصلية، وهو مفهوم كان موجودا منذ الإغريق لدى عدة حضارات على شكل ساحة عمومية، لكن موصفات هذا الفضاء تختلف عن مواصفاته لدى هابرماس. وهو ما يجعل الفضاء العمومي عنده يتميز عن الفضاء العمومي الفيودالي، هذا الأخير لم يكن فضاء مناقشة بل كان فضاء يحل فيه النبلاء وأصحاب الأراضي والضيعات هم ونسائهم لكي يستعرضوا جاههم وملابسهم وتصفيفات شعر نسائهم على الجمهور الذي يلعب دور أساسي في هذا العرض.
لكن هذا العرض الفيودالي ليس من أجل التفاعل مع الجمهور، لأنه يفتقد لبنيات الخطاب، على عكس ما سيقع عندما يتحول هذا الفضاء من فضاء ارستقراطي للعرض إلى فضاء للتفاهم والنقاش من خلال ما يعرضه للآخرين والتطلع إلى ردة فعلهم، بمعنى أنه فضاء عمومي يحمل بين طياته تجاوبا بين المتكلم والمستمع (يورغن هابرماس، الدولة الدستورية البورجوازية في القرن التاسع عشر).
ينطلق هابرماس في تحديد مفهوم الفضاء العمومي من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، في إطار ازدهار المجتمع المدني والتجاري، حيث ظهر مفهوم جديد للفضاء العام الذي أصبح يؤكد وجود مجتمع مدني منفصل عن الدولة[9]، ويمكن أن تكون الدولة حاضرة والجمهور هو الفاصل فيها. ويعود أصل تحديد مفهوم الفضاء العام إلى العهد اليوناني، لكن هابرماس يركز على تحديد المفهوم منذ هيغل الذي يعرف الفضاء العمومي بكونه" مكان انتاج السلع وتبادلها، وحيث تحدث جميع العلاقات الاقتصادية الأخرى، ويخضع فيه المجتمع المدني للقوانين الاقتصادية"[10] :
وينبني مفهوم الفضاء لدى هابرماس على البعد النظري أكثر منه ماديا، بحيث يشير إلى كون الفضاء هو فكرة تعتمد على عوامل اقتصادية واجتماعية مختلفة، تساهم جميعا في تشكل المجتمع المدني وتطوره، وفي نفس الوقت يعتبِر (هابرماس) الفضاء مفهوما فلسفيا يوضح "العلاقة بين الذات المفكرة، والعاملة، والفاعلة، وبين ارتباطاتها بالأخرين، وبالعالم الخارجي[...]وفي نفس الوقت فالفضاء هو مفهوم تاريخي يستوجب البحث في شروطه، ومكوناته، وتطوره وشروط تكونه تاريخيا"[11]
لعبت الثقافة الإعلامية للصالونات دورا رياديا في تطوير الفضاء العمومي، يتعلق الأمر بالأخبار التي كانت تتداول في الصالونات ومن بينها الأخبار الواردة في الجرائد، هذه الأخيرة تطرح للنقاش يقوم كل فرد بإعطاء رأيه الخاص فيها. مما أدى إلى تشكيل الرؤية النقدية في المجتمع الأوربي، وعليه يعتبر هابرماس الصحافة والأحداث الكبرى مثل الثورة الفرنسية والصناعية وتطور الطباعة، من بين الأسباب التي أدت إلى تشكيل الوعي السياسي لدى المواطنين، وبناء على هذه العوامل بدأت الطبقة البرجوازية تكتسب وعيا سياسيا هذا الأخير لم يعرف التطور إلا بممارسته داخل المجال العمومي.
لذلك فمساهمة الطبقة البورجوازية الصاعدة في الحراك السياسي، كانت بمثابة نشر ثقافة معادية للأنظمة السائدة آنذاك، فالطبقة البورجوازية الصاعدة لم تقتصر على نقل السلع وممارسة التبادل التجاري، بل حتى المعلومات والأخبار كانت تنقل بنفس القدر التي كانت تنقل فيه البضائع"([12]). وبذلك يبدو أن الطبقة البورجوازية لعبت دورا مهما في بروز ظاهرة الفضاء العمومي النقدي من خلال الحوارات والنقاشات العامة، والتي تحولت فيما بعد إلى نقاشات نقدية في "إطار الاستعمال العمومي للعقل"([13])، وفي اللحظة التي انبثق مبدأ الحوار المفتوح بدأ الفضاء العمومي البرجوازي بالتمركز في المجتمع، وبإنتاجه للثقافة حيث أصبحت في ملك الجميع، يتم نشرها بين الناس في الصالونات، والمسرح والمقاهي، فهذه الظاهرة سيسميها هابرماس بالفضاء المؤدب Espace public Littéraire إذ لعب هذا الأخير دور التوفيق بين حاجيات المجتمع والدولة.
كانت الطبقة البرجوازية تمثل فضاء مفتوحا في المنزل في البداية، ثم انطلقت عليه اسم الصالون الأدبي عندما تحول هذا الأخير إلى مكان للمناقشة، سواء عند مناقشة القضايا الأدبية مثل الشعر والرواية... أو القضايا السياسية، ومع اتساع دائرة انتشار المقاهي والصالونات الأدبية في القرن الثامن عشر، لم يعد الدخول إلى هذه الصالونات يقتصر على الفئات المثقفة، بل حتى الفئات النخبوية، مما أدى إلى توسيع هامش المنافسة الأدبية التي ساهمت في تطوير الروح النقدية في المجتمع الأوربي، وبالتالي تطوير وعي الطبقة البرجوازية للوقوف في وجه السلطة السياسية القائمة وتغيير مفهوم الدولة المطلقة.
في سياق الحركة النقدية سيظهر المسرح، الذي ساهم بدوره في بلورة الفضاء العمومي النقدي، فمعظم المسرحيات كانت تهتم بقضايا الشأن العام من زاوية نقدية، فكان للمسرح دور التجميع في اللحظة التي أصبحت هناك إمكانية متابعة المسرحيات من طرف الجميع، بحكم أن القاعات الخاصة أصبحت أماكن عمومية، وقد لعبت المناقشة التي كانت تتم وراء العرض المسرحي دورا مهما في تنوير الجمهور وتشكيل الحس النقدي لديه، وتحطيم جدار الصمت عن ما هو مسكوت عنه، وبفضل اتساع حركة الإبداع والنشر أصبحت الثقافة والمعلومة في متناول الجميع.
أما العامل الأخر الذي زاد من انتشار الثقافة قد تمثل في الانتشار الواسع للمكتبات العمومية التي كانت تهتم بنشر المعرفة النقدية، والأفكار وتبنيها في نفس الوقت والدفاع عنها، فبالإضافة إلى هذه العوامل المذكورة لم يغفل ها برماس دور الثورة الفرنسية التي شكلت منعطفا حاسما في بلورة الوعي لدى الرأي العام، واستعمال العقل في المجال العمومي استعمالا سياسيا، وما أتت به الثورة الفرنسية من مكتسبات حيث تمثلت في صياغة دستور فرنسي سنة 1791م، والذي أكدت بنوده على حرية التغيير والنقد والتفكير بالإضافة إلى نصه على مبدأ العمومية.
لعب الفلاسفة قبل وأثناء الثورة الفرنسية دورا مهما في الدفع بحركة التنوير إلى الأمام " كجون جاك روسو، فولتير، ديدرو..." فالتصور البرجوازي للفضاء العمومي في الصياغة القانونية والفلسفية والتاريخية لمبدأ العمومية([14])، هو ما عبر عنه كانط في مقاله " ماهي الأنوار "، وما كان يهدف إليه كانط في هذا الجانب هو تحرير مواطن القرن 18 من الوصاية والخروج من الحجر، معتبرا في ذلك أن علة القصور تعود إلى غياب استعمال للعقل في المجال العمومي.
استفاد ها برماس عندما أراد أن يؤسس من الناحية النظرية للفضاء العمومي من التراكمات التاريخية، قد وقف على الأحداث التاريخية والأحداث السياسية (الثورة الفرنسية 1779)، ثم الدور الإشعاعي التي لعبته الصحافة والأدب، وقد تطرق إلى هذه العوامل في أطروحاته المعنونة " بالتحول البنيوي للفضاء العمومي " حيث حدد من خلالها طبيعة القوى الاجتماعية المشكلة للفضاء العمومي ([15])، والأدوار التي كانت تلعبها آنذاك.
لقد قام هابرماس بالربط بين مبحث اثيقا المناقشة والفضاء العمومي، وإذا نظرنا إلى تصوره بخصوص الديمقراطية التشاورية نجد هذه الأخيرة تدخل ضمن الخلفية النظرية لمبحث أخلاقيات المناقشة، فنظرية الديمقراطية التشاورية تعد تكميلا لمبحث أخلاقيات المناقشة، فلا يمكن فصل هذين المفهومين عن نظرية الفعل التواصلي، ومن هنا يتضح أن جميع المباحث التي تطرق إليها هابرماس، لما لها من ارتباط وثيق من الناحية النظرية والعملية بمشروعه العام، وبالتالي فالصرح الذي أحدثه هابرماس يعد تقليدا أصيلا في الفلسفة السياسية المعاصرة.
يعتبر هابرماس الديمقراطية هي البديل الممكن للإنقاذ ألمانيا، فليس الديمقراطية من منظوره رهان الطبقة العاملة كما هو الشأن بالنسبة لماركس وأنجلز، وإنما هي رهان مجتمع بأكمله يشارك فيما جميع المواطنين، وعليه فإن اهتمام هابرماس بالفضاء العمومي ليس اهتمام بالطبقة العاملة ودورها في التحرير، بل هو اهتمام بالمواطن الذي لديه الحق في المشاركة والتقرير وذلك بمساهمته في مناقشة شؤون مجتمعه، إن تأكيد هابرماس على دور المواطن في عملية الديموقراطية، يعتبر انتقاد ضمني لديمقراطية النخبة التي سادت في القرن الثامن من عشر، حيث كانت الطبقة البرجوازية بصفتها طبقة نخبوية ومؤهلة لممارسة الحكم في ظل غياب الطبقات الدنيا، وإذا كان الفضاء العمومي قد تميز بطابعه النقدي ضد السلطة السياسية، فإن الممارسة النقدية مع هابرماس ليست حكرا على البرجوازية، أو قضية فرد، بل رهان مجتمعي يشارك فيما الجميع، وبالتالي فإن هابرماس عندما يتكلم عن الفضاء العمومي البرجوازي فهو يركز على طابعه النقدي والتحرري وليس الإيديولوجي.
اعتمادا على منطلق نظريات أخلاقيات المناقشة يصبح مفهوم التشاور مفهوما مركزيا في مبحث الديمقراطية، لاعتبار أن التشاور يعطي لكل فرد الحق في المشاركة، والنقاش والإدلاء برأيه في الفضاء العمومي، عبر صيرورة المناقشة العقلانية يتشكل الرأي العام « Public Opinion([16]).
لقد دافع ها برماس من خلال عمله الأركيولوجي" التحول البنيوي للفضاء العمومي "باعتباره مقولة فلسفية تبلورت في المجتمع خلال القرنين 17 و18 رصده للتفكك الذي عرفه هذا المفهوم إبان القرن 19، وبداية القرن 20. فها برماس لم يكتفي برصده لتحول بنية الفضاء العمومي بل سيواصل اهتمامه من خلال أعماله اللاحقة كأخلاقيات المناقشة والأخلاق والتواصل، والحق والديمقراطية.
وإذا كان الفضاء العمومي قد تميز بالنقد، وبقي محتكرا من طرف البرجوازية، فإن ما نظر إليه هابرماس بخصوص الفضاء العمومي، جعله فضاء يمكن جميع المواطنين من ممارسة حقهم النقدي تجاه السلطة السياسية، معتبرا في ذلك أن كل ما يميز موقع الفرد داخل الفضاء العمومي هو مبدأ التساوي، الشيء الذي يحيلنا على تسجيل ملاحظة هامة مفادها أن الحرية التي تعتبر جو هر الفضاء العمومي، تبقى حرية مرهونة بالمساواة من وجهة نظر هابرماس، لهذا السبب تحضر المساواة داخل المجال العام كحرية التمييز والاختلاف والانتماء إلى الجماعة السياسية في نفس الوقت، فهي مساواة بالمعنى السياسي للكلمة. ليكون هابرماس قد أعطى فهم جديد للفضاء العمومي الذي عرف تفككا في مطلع القرن العشرين.
- تخليق الحياة السياسية وفق مبدأ الحوار
يرى هابرماس أن المقاومة والحرب والصراع كانت بمثابة أرضية أساسية ومحور ثابتا في التداول على السلطة ونشر الديانات وكذا تعاقب الدول، ومع تزايد بؤر التوتر في العالم، "وانتشار الأسلحة النووية والافتقار البنيوي التي تعاني منه البلدان النامية، والبطالة على العمل، ظل هابرماس يناشد إدخال الأخلاق والقانون في التشريعات الوطنية والدولية، والارتكاز على مبدأ المناقشة التي تؤدي إلى توافق بين كل الشركاء " القانونيين حول إثبات إدعاء الصلاحية القانونية والمشروعية الحقوقية ضد منطق السلطة والهيمنة والتعسف".
لقد سعى هابرماس من خلال دراسته للفضاء العمومي إلى خلق فضاء يقوم على مبدأ التشاور والحوار، ليكون فضاء مشتركا بين الجميع، يصل فيه المتحاورين إلى توافق يرضي الجميع، وبالتالي فالغاية من مبدأ المناقشة هو جعل الفضاء العمومي ملك لجميع الأفراد الذاتيين، إنه بذلك فضاء للتداول والمنافشة للوصول إلى إجماع يرضي الجميع.
من أجل تحقيق إمكانية الاندماج الاجتماعي بين فعاليات المجتمع بالمعنى الواسع، يساهم الفضاء العمومي الحدود الوطنية نحو تحقيق تفاهم عالمي استرشد به هابرماس بفكرة كانط " نحو مشروع السلام الدائم "، في ظل مجتمع تتداخل فيه التعدادات الثقافية واللغوية والسياسية...
ولن تحقيق شروط الحوار في الفضاء العمومي إلا بالاعتماد على العقل التواصلي، الذي لا يعدو أن يكون سوى" وسيط لغوي ينسج التفاعلات ويبين أشكال الحياة يخلف إمكانية التواصل بين المواطنين" وبذلك يحقق مسار الفضاء العمومي من وجهة نظر هابرماس تداخلا بين الديمقراطية التشاورية وأخلاقيات المناقشة.
المراجع:
[1] أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، دار النشر التنوير، 2012ـ، ص 382
[2] حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2005 ص18.
[3] محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، 1998، ص 198.
[4] حسن مصدق، يورغنهابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2005، ص125.
[5] محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية، منشورات دفاتر سياسية، ص 13.
[6] محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية، منشورات دفاتر سياسية، ص 26. أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس الأخلاق والتواصل، دار النشر التنوير، 2012ـ،
[7] أبو النور حمدي أبو النورحسن ، يورجين هابرماس، الأخلاق والتواصل، م، س، 250-253
[8] حيث تطورت القنوات المتصلة بالفضاء العمومي، كالمجالات الأدبية، والصالونات الأدبية والمقاهي، وكانت هذه المجالات فضاء لمناقشة الأدب والفن والسياسية والفلسفة وغيرها، وصارت بذلك مدخلا لأنه يشمل الفضاء العام الأسرة كذلك.
[9] Jurgen Habermas, Structural Transformation of the Public, Cambridge, Sphere Tr bey 1991. P. 89-90
[10] محمداوي علي، الإشكالية السياسية للحداثة: من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل، دار الأمان، لبنان، 2013، ص. 11.
[11] عز العرب لحكيم بناني، مفهوم الفضاء العمومي بين كانط وهابرماس، فلسفة الحق عند كانط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 143 الطبعة الأولى، 2007، ص 94.
[12] Habermj, (J). L’espace public, Archéologie de la publicité, comme dimension constitutive de la société bergeoise, tr, Maroc B. Paris, Ed, Rabat, P 38
[13] عز العرب لحكيم بناني، مفهوم الفضاء العمومي بين كانط وهابرماس، فلسفة الحق عند كانط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مرجع مذكور، ص 96.
[14] Hebermas, (J), L’espace public, !archéologie de la public, comme dimension constitutive de la société bergeoise, op. ct, p 41.
[15] معزور عبد العلي، "فلسفة الحق من منظور تواصلي من كانط إلى هابرماس، فلسفة الحق كانط والفلسفة المعاصرة، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 143، منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية الرباط، الطبعة الأولى، 2007، ص 112.
[16] Habermas « on Low and democracy. Critical exchange from paradigns of low » by habermas, univirersity of california press, 1998,p 14.