وإذ نتعامل مع ماهية علاقة، لا نريد معاينتها أو إقامتها هنا وهناك على أساس أنها واقعة. وحتى لو كان الأمر كذلك، فيجب علينا أولاً أن نعرف ما هذا الذي يجب بعد ذلك معاينته. ولكن إذا نظرنا إلى علاقة في جوهرها، فهل يجب علينا أيضا، كما في حالة المعاينة، أن نلتزم بأعضاء هذه العلاقة؟ خلال التعامل مثلا مع جوهر "اللاهوية"، هل يجب علينا أن نلتزم بهذه الطاولة وبهذا المصباح؟، أو هل نعاين، بالإضافة إلى هذه الأخيرة، لاهويات أخرى (البيت والشجرة، المثلث والقمر، الخ..)؟ يمكننا ان نجيب كما هايدجر بلا. لإدراك جوهر اللاهوية، لا يهم أن نعرف على اي لاهوية محددة لأي لامتماثل محدد نبقي أعيننا ثابتة ونأخذها كنموذج. ومن ناحية أخرى، ما يزال يتعين علينا أن نبقى تحت النظر الأعضاء النسبية لأننا لا نستطيع تجاهل هذه. الأعضاء. هكذا، من خلال تحديد جوهر علاقة، لا نكون بالتأكيد مجبرين، كما في حالة معاينة علاقة محددة وفي متناول اليد بين موجودات-هنا-أمام محددة، على أن نلتزم بهذه الأعضاء النسبية المحددة، ولكن يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار بدقة هذه الأعضاء النسبية كما هي، أي- أي كنسبية، في علاقتها ذاتها.
لا يهم ما إذا تم تشكيلها فعليا بهذه الطريقة أو تلك - هذا الاحتمال لمحتواها لا يعني أنه لا يبالي، في توضيح جوهر الوجود النسبي كما هو، بأن يأخذها بعين الاعتبار أم لا. لذلك لنحاول قدر الإمكان تطبيق ذلك على مشكلتنا. في السؤال عن ماهية الحرية الإنسانية - على الأقل طالما أننا نأخذها كأساس للمفهوم السلبي - نسائل استقلال الإنسان عن العالم وعن الله. لا نسعى إلى إثبات ما إذا كان هذا الإنسان أو ذاك مستقلاً عن هذا العالم أو ذاك، عن هذا الإله أو ذاك، ولكننا نسعى إلى جوهر استقلال الإنسان كما هو تجاه العالم والله كما هما.
إنما بالضبط عندما نريد إدراك جوهر هذه العلاقة، هذا الاستقلال، يجب علينا أن نسائل جوهر الإنسان وكذلك جوهر العالم والله. ما إذا وكيف يمكن إجراء مثل هذا المساؤلة ودعمها، يبقى ذلك رهينا بتوضيح لاحق. لنحتفظ ببساطة من التأملات المذكورة أعلاه، بما يلي: من الاستقلال كعلاقة سلبية، يبنبثق،إذا جاز التعبير، هذا الذي يكون تجاهه الاستقلال، ولكن لا يترتب على ذلك أن اعتبار جوهر الاستقلال يمكن أن ينبثق أيضًا من اعتبارهذا الذي يكون تجاهه الاستقلال ما يكون. بل على العكس تماماً: لأن الاستقلال تجاه كذا-وكذا.. علاقة، لأنه يعود إليها باعتبارها كذلك أن تكون مرتبطة بالعالم والله، ولهذا السبب على وجه التحديد يجب أيضا أن يؤخذ هذا ال "عن ماذا" يكون الاستقلال في الاعتبار، يدرج في الثيمة. باختصار، ما ينطبق على المحتوى الأساسي للعلاقة، ابتعاد، انفصال عن .. - لا ينطبق على الاعتبار الأساسي لهذه العلاقة نفسها التي سنقوم بتوضيحها لاحقا.
تمهيدا لهذا الوعد، نتناول البعد الثالث من خلال التوضيح الصوري لـ”الحرية الإيجابية” عن طريق الإشارة إلى “الحرية” المتعالية” و”الحرية العملية” عند كانط. وحتى الآن، بعد ان بينا المهمة والثيمة وطريقة تناولها، توقفنا عند المفهوم السلبي للحرية. وليس من قبيل الصدفة أننا بدأنا من هذه "الحرية السلبية". بالفعل، حيثما تنشأ معرفة بالحرية، تُعرف هذه الاخيرة أولاً بالمعنى السلبي، كاستقلال عن.. هذا الفرض للحرية السلبية، وربما للسلبي بشكل عام، يفترض أن الوجود-الحر يختبر كصيرورة-حرة من إكراه أو رباط. يؤكد هايدجر أن الانعتاق، رفض السلاسل، طرد القوى المهددة تجربة أساسية للإنسان، من خلالها تأتي الحرية بالمعنى السلبي إلى وضوح المعرفة.
سلط هايدجر الضوء على هذه التجربة في تاويله للقصة الرمزية عن الكهف حيث كشف أفلاطون عن العلاقة الحميمة بين المعرفة والحرية. أمام هذا التحديد الواضح نسبيا، وحتى الأحادي المعنى والأكيد على ما يبدو، للحرية السلبية، تبدو سمة الحرية الإيجابية تبدو على العكس غامضة ومتعددة المعاني. إن "تجربة" هذا الأمر عائمة، خاضعة لتغيرات خاصة. ليست فقط التصورات الخاصة عن الحرية الإيجابية هي التي تكون متنوعة ومتعددة النعاني، ولكن حتى مفهوم الحرية الإيجابية بشكل عام غير محدد، وهذا بالخصوص إذا قصدنا الٱن مؤقتا بالحرية الإيجابية الحرية اللاسلبية.
يفيدنا الخطاب الهايدجري بأن الحرية اللاسلبية يمكن أن تعني شيئين: (1) حرية إيجابية في مقابل حرية سلبية؛ (2) حرية ليست لا سلبية ولا إيجابية، لا هذه ولا تلك. سنختار هنا، كما فعل هايدجر، بالنسبة لبقية تحليلاتنا التحضيرية، مفهوما محددا جيدا عن الحرية الإيجابية.
بحسب هايدجر، تعني الحرية السلبية.. حرية من .. الإكراه، أن تكون منعتقا، بمنأى عن هذا الإكراه. الحرية الإيجابية لا تعني مثل هذا الابتعاد عن ..، بل تعني تحولا إلى..؛ تتمثل الحرية الإيجابية في أن تكون حرا لأجل.. أن تقوم منفتحا لأجل..أن تترك ذاتك تتحدد ب.. أن تتحدد وتتوجه إلى.. هنا مرة أخرى ، تصبح عودة الروح التي تحدث عنها أفلاطون مضيئة. الحرية الإيجابية، بهذا التعريف، تتضمن فكرة أن تحدد تصرفك الخاص من تلقاء ذاتك، أن تعطي أنت بالذات قانونا لتصرفك. إنما بهذا المعنى للتحديد الذاتي فهم كانط بشكل إيجابي الحرية، ثم، بعمق اكثر، ك"نشاط ذاتي- (عفوي) مطلق". حددها ك"قدرة" في الإتسان على أن "يتحدد من تلقاء ذاته".
الإتيان على ذكر كانط في هذا السياق يجب أن يفهم جيدا: لم يكن ذلك من أجل إنتاج حجة ما نعرف أنها مستقاة من ٱراء الفلاسفة، بل فقط لأن كانط يشغل، في تاريخ مشكلة الحرية، مكانة متميزة. فكانط هو الذي وضع، لأول مرة وعلنا، مشكلة الحرية في علاقة جذرية بمشكلات الميتافيزيقا الأساسية. بالطبع، انطوى هذا الظهور للمشكلة في بعدها الأصيل - كما هو الحال دائما وحتما في مثل هذه اللحظات الحاسمة - على انكماش أحادي الجانب. يحتل التصور الكانطي للحرية، كما سبق وأن قلنا، مكانة متميزة ضمن المشكلات الفلسفية.
بدون شك، في هذه الحالة، ضمن تاريخ اللاهوت المسيحي منذ بداياته، بلغت مشكلة الحرية عمقا خاصا، عن ذلك ترتبت عدة حوافز إيجابية أو سلبية، كما أن التأويل اللاهوتي لم يكن بإمكانه أن يكتمل دون تأثير التأويل الفلسفي (القديس بول، القديس اوغسطين، لوثر). وقد كان توصيف الحرية السلبية كمستقلة عن الله كافيا ليحيلنا إلى الرابطة الوثقى بين السؤال اللاهوتي والسؤال الفلسفي. لكننا لن نتحدث عن ذلك في هذه اللحظة، حسبنا في هذه الحالة أن نأخذ المفهوم الكانطي عن للحرية، فقط باعتباره مثالا يجب أن يسمح لنا بتوضيح الحرية الإيجابية ومفهومها، وهذا مرة أخرى حتى نكتسب نظرة واضحة عن المنظور الأبعد لمشكلة الحرية وعن مهمتنا.
يتصور كانط، كما قلنا، الحرية كقوة لتحديد الذات ضد الميول الطبيعية، أو باعتبارها "نشاطا ذاتيا مطلقا". بالنسبة إلى هايدجر، في هذا التعريف أو ذاك لا شيء سلبي. بالتأكيد ومع ذلك فهما لا يعنيان نفس الشيء ولهذا السبب ميز كانط بين الحرية "بالمعنى الكوني" والحرية "بالمعنى العملي". يؤكد هايدجر على أن هذا التمييز الكانطي لا يتقاطع بأي حال من الأحوال مع الفارق بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية، بل هو بدوره يقع على جانب الحرية الإيجابية، أو اللاسلبية أفضل. لننتقل الٱن إلى تأويل كانط للحرية الكونية والحرية العملية. لنتساءل أولاً: ماذا يعني كانط بالحرية الكونية والحرية العملية؟ هو أجاب على هذا السؤال كما يلي: «إنني أقصد بالحرية بالمعنى الكوني القدرة على المبادرة من تلقاء الذات لحالة (حرية) التي لا تخضع سببيتها بدورها، وفق قانون الطبيعة، لسبب آخر يحددها بالنسبة إلى الزمن. والحرية بهذا المعنى أ فكرة متعالية خالصة. الحرية تعني إذن: قوة المبادرة الذاتية لحالة. هذا ما يشرح لنا المفهوم الكانطي عن الحرية المذكور أعلاه، باعتبارها "نشاطا ذاتيا مطلقا": المبادرة من تلقاء الذات، بشكل عفوي، العطاء من تلقاء الذات بحرية، العطاء بعفوية مطلقة.
الحرية باعتبارها عفوية مطلقة هي الحرية بالمعنى الكوني – فكرة متعالية خالصة. ما تعنيه هذه التحديدات الأخيرة سيتم توضيحه لاحقا. لكن قبل ذلك دعونا نطرح السؤال الثاني: ماذا تعني الحرية "بالمعنى العملي"؟ نقصد بالحرية بمعناها العملي استقلال الإرادة في مواجهة إكراه ميول الحساسية. الحرية بالمعنى العملي هي الاستقلال، هذا بالضبط ما تذرعنا بانه سمة من سمات المفهوم السلبي للحرية. لكن ألم نقل إن المفهومين الكانطيين عن الحرية --- المتعالية والعملية --- لم يكونا سلبيين؟ بالتأكيد؛ لكن التعريف المذكور للحرية العملية يأخذ بدون منازع هذه الأخيرة بمعنى سلبي. إذا نظرنا عن كثب، نرى أن كانط يفسر كذلك الحرية بالمعنى العملي من خلال استدعاء اللحظات التي اتينا على ذكرها أولاً عند تسمية المفهوم الكانطي عن الحرية. “إن إرادة الإنسان… [حرة]، لأن الحساسية لا تجعل أفعالها ضرورية، ولكن لأن في الإنسان قدرة على أن يتحدد من تلقاء نفسه، بمعزل عن إكراه الميول الحساسية". "الإرادة" (Willkür) لا تعني هنا غياب الفرامل والقانون، ولكن تعني قوة الإرادة. تم هنا ذكر الحرية السلبية، ولكنها أيضا شيء آخر: القدرة على التعين من تلقاء الذات. لكن أليست هي شيء واحد متحد مع العفوية، وبالتالي مع المفهوم الكوني للحرية؟ في هذه الحالة قد يمثل المفهوم الإيجابي، والمفهوم العملي، على العكس من ذلك، الاستقلال عن الحساسية، قد يمثل المفهوم السلبي.
لكن هايدجر يخبرنا بأن الأمر ليس كذلك. ولا شك في أننا لن نلاحظ ان كانط، في تعريفه للحرية بالمعنى العملي، يذكر الاستقلال عن الميول الحسية. ليس بدون سبب أن يوجد تحليله بأكمله في "نقد العقل الخالص"؛ أي في المؤلف الذي موضوعه الفهم الخالص، القوة النظرية للإنسان، و ليس الفهم العملي، البراكسيس بمعنى العمل الأخلاقي والسياسي. تبعا لذلك، قبل اختزال الموقف الكانطي في التعريف المذكور للحرية العملية باعتبارها استقلالاً عن المحسوس، فمن المناسب أن نسأل: كيف يحدد كانط الحرية بالمعنى العملي بينما هو يتعامل موضوعاتبا مع البراكسيس، مع الأخلاق، وبالتالي مع"نقد العقل العملي"؟ وبعبارة أكثر حدة: كيف يدرك كانط الحرية العملية، الأخلاقية، بينما أصبح العنصر الأخلاقي بالنسبة إليه مشكلة ميتافيزيقية في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"؟ بالفعل، في بداية القسم الثالث من هذا المصتف، يكتب كانط: “الإرادة نوع من سببية الكائنات الحية، باعتبارها معقولة، وستكون الحرية
الخاصية التي للسببية لتكون قادرة على التصرف بشكل مستقل عن الأسباب الخارجية التي تحددها؛ كما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي لسببية كل الكائنات الفاقدة للعقل لتكون محددة للتصرف تحت تأثير الأسباب الخارجية".
في هذا النص يظهر "الاستقلال" من جديد. ومع ذلك، يؤكد هايدجر، يعبر كانط الآن عن نفسه بشكل أكثر وضوحا، مضيفا: "التعريف الذي تم تقديمه للتو سلبي، وبالتالي فهو، من أجل فهم جوهره، عقيم؛ لكن ينتج عنه مفهوم إيجابي عن الحرية اكثر غنى وخصبا". نرى ذلك هنا بوضوح: إذا كان يتعين الآن أن ندرك أن مفهوما إيجابيا عن الحرية تم ربحه، فمن الواضح أنه سيكون مفهوما عمليا. لنتساءل: “فيم تتمثل حقا حرية الإرادة، إن لم تتمثل في الاستقلال الذاتي، أي في الخاصية التي لإرادة الوجود لتكون هي نفسها قانونها"؟ المفهوم الإيجابي للحرية يعني: استقلالية الإرادة، تشريعا ذاتيا. والحرية بالمعنى العملي ليست سالب الحرية بالمعنى المتعالي، بل هي نفس الحرية بمعناها العملي وقد انقسمت إلى حرية سلبية وحرية إيجابية؛ حرية إزاء الميول الطبيعية وتشريع ذاتي. ولكن، يتساءل هايدجر، ماذا عن الحرية بالمعنى المتعالي، عن العفوية المطلقة، إن لم تكن هي الحرية العملية إيجابا مقابل الحرية العملية سلبا؟ العفوية المطلقة، ألسنا هنا أمام معادل للاستقلال الذاتي؟ سواء في هذه أو تلك، هناك، بالفعل، ذات، هوية ذاتية، تلقاء نفس، إلخ.. . يتيح لنا هيدجر أن ندرك أن الحريتين كلتيهما مترابطتان بشكل واضح، لكنهما لا يمتزجان. لنلق نظرة فاحصة.
العفوية المطلقة، تعني... قدرة على مبادرة ذاتية لحالة واستقلالا ذاتيا: تشريعا ذاتيا لإرادة عاقلة. في العفوية المطلقة (الحرية المتعالية) لا يتعلق الأمر بإرادة وقانون، بل بمبادرة ذاتية لحالة؛ أما في الاستقلال الذاتي، على العكس من ذلك، فالأمر يتعلق بموجود محدد، إلى جوهره تنتمي الإرادة والبراكسيس. لذلك لا يتم الخلط بين أحدهما والآخر، ومع ذلك، هناك هوية ذاتية على كلا الجانبين: إنهما ينتميان إلى بعضهما البعض. ولكن كيف؟ وبماذا يكون هذا الانتماء المشترك واضحا؟ بهذا المعنى يكون التحديد من تلقاء النفس عند التصرف كتشريع ذاتي، مبادرة-من-تلقاء-الذات لحالة في مجال معين لتصرف إنساني من كائن عاقل بشكل عام.. وهذه الحرية هي أساس إمكان الفعل الأخلاقي. وبالتالي فإن الاستقلال الذاتي نوع من العفوية المطلقة، تحدد الثانية الجوهر العام للأولى. إنما على أساس هذه السمة الأساسية للعفوية المطلقة، كما يؤكد هايدجر، يكون الاستقلال الذاتي ممكنا. بعبارة أخرى، العفوية المطلقة هي مفهوم أوسع بكثير من مفهوم الاستقلال الذاتي. إذا لم تكن هناك عفوية، فلن يكون هناك استقلال ذاتي أيضاً. يتأسس الاستقلال الذاتي، في إمكانه، على العفوية المطلقة، والحرية العملية على الحرية المتعالية. بهذا المعنى يقول كانط نفسه بصريح العبارة في كتابه “نقد العقل الخالص": "من الجدير بالملاحظة قبل كل شيء أن على هذه الفكرة المتعالية عن الحرية يرتكز المفهوم العملي لهذه الحرية، وأن الحرية المتعالية هي التي تشكل، في الحرية العملية، النقطة الدقيقة للصعوبات التي أحاطت حتى الآن بمسألة إمكانها".
هكذا لا تكون الحرية المتعالية متناسقة مع الحرية العملية كما هو الحال مع الحرية السلبية، لكنها مقيدة بالحرية العملية كشرط لإمكانها. ولهذا يفتتح القسم الثالث من كتاب هايدجر "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" بهذا العنوان: "مفهوم الحرية هو مفتاح تفسير استقلالية الإرادة". تحديد الحرية الإيجابية ك"استقلالية" ينطوي على مشكلة خاصة مرتبطة بصعوبة كانت دائمًا ملازمة له ويجب علينا الآن توضيحها من أجل المضي قدما نحو موضوعنا: ماهية الحرية الإنسانية. يجب علينا، من وجهة نظر توضيح الحرية الإيجابية ومشكلتها كما قدمناه للتو بموازاة التمييز الكانطي، أن نطرح سؤالين. (1) هل يتجلى الامتداد الأساسي للإشكالية في الحرية الإيجابية بشكل عام؟ (2) إلى أين يشير هذا الامتداد؟ بتعبير ٱخر: أي منظور يفتح؟ لنحاول الإجابة على هذين السؤالين. كون امتداد مشكلة، مرتبطا بالحرية الإيجابية، من الممكن إظهاره بإيجاز وسهولة في ارتباط بسؤالنا (2). بالفعل، كما رأينا، الحرية الإيجابية، باعتبارها عملية، تساوي الاستقلال الذاتي. هذا الأخير يتأسس من حيث إمكانه في العفوية المطلقة (الحرية المتعالية). بهذه الحرية، نكون قد انسقنا إلى شيء آخر.
كون الحرية المتعالية تنشأ جنبا إلى جنب مع الضرورة الطبيعية، هذا ما يظهر امتدادا، هذا الامتداد أساسي لأن ما يضاف إليه - العفوية المطلقة - يتم وضعه كأساس للحرية العملية، أي كهذا الذي تتأسس (الحرية العملية) عليه. يعبر كانط عن وجود مثل هذه العلاقة بين الحرية العملية والحرية المتعالية على النحو التالي: “إلغاء الحرية المتعالية من شأنه أن يدمر في الوقت نفسه الحرية العملية كلها". إمكان هذه يتوقف على إمكان تلك. لذا فقد تمت الإجابة على السؤال الأول بالفعل. ولكن أي منظور يفتح مع هذا الامتداد؟ يتم تحديد المنظور بوضوح بواسطة مناط المشكل الذي يظهر كتمكين للحرية العملية (الاستقلال الذاتي)، لما يسميه كانط “العفوية المطلقة”. ماذا يعني هذا؟ أين هي إذن المشكلة الحقيقية؟ لنقلها مرة ثانية: العفوية تعني "من-تلقاء- ذات"، من تلقاء ذات لمبادرة من "سلسلة من الأحداث". لنفهم هذا جيدا؛ العفوية المطلقة تساوي: المبادرة "من تلقاء-ذات تماما" إلى سلسلة من الأحداث، المبادرة إلى حدث ما؛ أي جعله ينتج عن نفسه. وما يسمح لشيء ما أن ينتج عن ذاته يشكل، في نظر كانط، السبب. في مسألة العفوية، المبادرة، السماح-بالنتج، يتعلق الأمر إذن بمسألة السبب. وجود-سبب لسبب هو ما يسميه كانط: السببية. بهذا المعنى يتحدث أحيانا بشكل مباشر عن "سببية السبب". ومع ذلك، لا تعني سببية سبب سبب هذا السبب، بل تعني وجود-سبب: الواقعة والكيفية التي يكون بها سبب سببا. لكن، وفقا لكانط، كل تجربة، أي كل معرفة نظرية بالطبيعة في-متناول-اليد (Vorhandenheit) تخضع لمبدإ قانون السببية.
هذا المبدأ الذي بموجبه يكون موجودا ما معطى في التجربة سببا لآخر، بعبارة أخرى؛ قانون وجود-سبب هذا يعبر عنه وفق عنوان المماثلة الثانية في الطبعة الأولى من "نقد العقل الخالص"؛ ألا وهو: "كل ما يحدث (يبادر إلى الوجود) يفترض شيئا يعقيه وفق قاعدة". ويوضح كانط لاحقا: “…سببية سبب ما يحدث أو يتبادر تبادرت هي أيضا، ووفقا لمبدأ الفهم، فهي تحتاج بدورها إلى سبب. في كل مرة، يكون وجود- سبب لسبب يعقب بدوره سببا سابقا؛ بمعنى آخر (في الطبيعة)، ليس هناك وجود-سبب لسبب لا يبادر من تلقاء نفسه. على العكس من ذلك، تكون حالة مبادرة من تلقاء ذاتها (سلسلة من الأحداث) - لنعن بها: مبادرتها من-تلقاء-ذاتها الجذرية - بالتالي وجود-سبب مختلفا تماما عن سببية الطبيعة: سببية مختلفة تماما. هذه السببية - العفوية المطلقة - يسميها كانط: السببية بواسطة الحرية. ويبدو من هذا، كما يستنتج هايدجر، أن العنصر الإشكالي في العفوية المطلقة هو مشكلة السببية، وجود-سبب. هكذا يتصور كانط الحرية باعتبارها قوة وجود-سبب خاص وبارز. المنظور الذي ينفتح بالتالي مع الامتداد الأساسي لمشكلة الحرية العملية - أي وصع الاستقلال الذاتي كعفوية مطلقة هو إذن منظور مشكلة السببية بشكل عام.
السببية بمعنى العفوية المطلقة، أي وجود-سبب بمعنى المبادرة الجذرية من تلقاء الذات لسلسلة من الأحداث شيء لا نصادفه في التجربة، أي بالنسبة لكانط، في المعرفة النظرية
بالطبيعة التي في-متناول-اليد (Vorhandenheit). ما نتمثله في العفوية المطلقة يقع خارج نطاق الموجود الذي في المتناول عن طريق التجربة، يتجاوز (transcendere) هذا النطاق. هكذا، تكون الحرية باعتبارها عفوية مطلقة الحرية المتعالية. وفق الموقف الهايدجري، الحرية الإيجابية باعتبارها مؤسسة على العفوية المطلقة (الحرية المتعالية) تضم في ذاتها مشكلة السببية بشكل عام، وهذا إلى حد أكبر سبب قوي لتأكيد كانط على أن الحرية العملية ترتكز على الحرية المتعالية وأن هذه الاخيرة تشكل سببية خاصة جدا. إذا حافظنا على المنظور الذي حددناه من خلال التوجه إلى كانط، وهذا يعني ما يلي: إن التساؤل عن ماهية الحرية الإنسانية، وبالتالي التساؤل في كنهها، وإمكانها الداخلي وأساس هذا الأخير - التساؤل أيضا عن ماهية الحرية، دلالته هي: جعل ماهية سببية للوجود-السبب. هكذا، تتلفى كل أسئلتنا التحضيرية جوابها. تساءلنا فعلا: (أ) هل يتضمن مفهوم الحرية الإيجابية امتدادا أساسيا للإشكالية؟ (ب) أي منظور ينفتح؟ لكن الارتباط الداخلي بين هذين السؤالين يكشف كذلك عما يلي: تندرج مشكلة ماهية الحرية الإنسانية في المشكلة الموجهة للفلسفة. هكذا يتم استنفاد الاستعدادات اللازمة لتناول موضوعنا، الذي سيتم توضيحه في السطور التالية.
(يتبع)
نفس المرجع