الثقافة ثقافتان، ثقافة ساكنة جامدة، وأخرى متحركة فعالة، الأولى ارتكاسية لا زمن لها والثانية خلاقة إما أنها تدرس الماضي وتفهمه على ضوء الحاضر كفلسفة التاريخ مثلا والتحليل النفسي، أو تتنبأ بالمستقبل كالطب وعلم المناخ والفلك، الثقافة الحية ثقافة تتغذى من السؤال وبالسؤال، أما الثقافة الميتة فإنها لا تطرح الأسئلة إلا لماما، وإن طرحتها فإنها تنحصر فقط ضمن المجال النظري دون العودة للعملي، أسئلة الثقافة الحية أسئلة جريئة جدا تبدو مجنونة لنا في الوهلة الأولى، لكنها تعدو بعدئذ حقيقة لا مناص منها، في حين أن أسئلة الثقافة الميتة هي أسئلة خجولة معادة بصيغة أخرى، أسئلة تخاف من الانفتاح وتنشد التقوقع، الثقافة الحية تحيا انطلاقا من لا محدودية المجال الذي تشتغل فيه، أما الأسئلة الميتة فإنها تدور في نفس القطر دون أن تعرف ذلك، تنتج المُعاد دون أن تبدع، وتدور في المحدود دون أن تدري.
الثقافة الحية ثقافة ترى في الواقع محركا تارة وعائقا تارة أخرى، تعتبر الواقع محركا لأنه يمد جانبها النظري بالأخطاء فتعمل على تغيير الواقع من الخطأ، ثم ترى الواقع عائقا عندما يرفض التغيير، تتحداه إلى أن يتحقق لها الهدف، في حين أن الثقافة الميتة تخشى الواقع، فيتحول لسلطة ورادع يحجمها عن كل تجديد مادام الواقع يرفض التغير ويجافيه تمام الجفاء، بالتالي وبدل الإنتاج الحي تسقط في التكرار طاعة لمنطق الهوية وليس لروح الاختلاف، الثقافة الحية ترى في المسخ والتغير والاختلاف ديدنا لها وروحا لا شيء بعده انطلاقا من السيمولاكر، أما الثقافة الميتة فإنها تعتبر التغير والاختلاف شذوذا وتطرفا انطلاقا من الأيقونة، الثقافة الحية تؤمن بالأقلية إلى جانب الأكثرية فتمحو معها الهامش والمركز، عكس الثقافة الميتة التي تنتصر للأغلبية إذ تكرس المركز وتزيد من الهامش تهميشا.
عندما نعود لثقافتنا الاسلامية العربية من خلال تشريحنا لبنيتها الإبستيمولوجية نرى أنها ثقافة ميتة، ثقافة تنتصر للنص المكتوب مانعة تأويله، ثقافتنا مصنع وآلة تنتج نفس الخطاب في كل زمان ومكان، وهو ما يقتل الزمن فينا كحضور، حيث يسود الماضي ويتشوه الحاضر فيضمحل المستقبل ويتبخر، ثقافتنا ثقافة ميتة لأنها تمجد السلف على حساب الخلف، وهو ما ينجم عنه منطق الطاعة بدل روح النقد والتفكيك والهدم من أجل البناء، فنقتل الإبن لصالح الأب ومعه نحيا ونعيش في قالب التكرار الذي ينتج بدوره منطق الجمود ليس إلا.
الثقافة الميتة تتكلم أكثر مما تفعل وتغير، تنتصر للفم الذي يعبر عن الكلام على حساب الأذن التي تنصت وتصيخ وتركز، الثقافة الميتة تعلي من قيمة اللسان التي هي بمثابة النفس الشهوانية بلغتنا المعاصرة، ثم تحط من قيمة اليد التي تمثل العمل ومن قوة العين التي تتجلى في الذوق والابتكار والخلق، لهذا ليس نتعجب من أننا أمة أبدعت في الشعر أكثر من أي شيء آخر، وأي شعر؟ إنه الشعر الذي لا ينتج المعنى على غرار كتابات هولدرلين وريلكه وبودلير وبوشكين... وإنما الشعر الذي إذا لم يتغزل بكى على الأطلال والربوع واليباب أو رثا، وإذا لم يمدح هجا وذمَّ، ثقافتنا وبما أنها ثقافة ميتة أقبرت الفكر الإعتزالي الذي كان يحث على ضرورة إعادة النظر في بعض من النص القرآني، وأحلت محله تفكير وذهنية التحريم، أزالت منطق الإيمان بالعقل منتصرة لداء الإيمان بالنقل دون تمحيص، ثقافتنا وبناءً عن أنها ثقافة جامدة لم تقبل الفلسفة فطردت قبل أن تحط الرحال ومعها أقبرنا العقل فينا إلى يومنا هذا فبتنا تعساء بصنيعنا تجاه ما اقترفناه، الثقافة الميتة وبما أن مجالها محدود ومنغلق تنبني على نظرية المؤامرة والغنيمة بدل الخلق والابتكار، ثقافتنا الجامدة عندما فكرت في النهوض خلال القرنين الماضيين طرحت بلا شعورها التقليدي سؤال لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟ بدل أن تتساءل بكل جرأة: كيف تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ سؤال "لماذا" سؤال يعود بنا للماضي دوما دون الحضور، عكس سؤال الكيفية الذي يحرك فينا منطق العمل رابطا بين الماضي والمستقبل، منتصرا للحضور بدل الغياب طبعا.
عندما نعود للثقافة الحية نرى أن أول منطلق لها هو الجرأة على كل الاشياء، بدأت الثقافة الحية أولا في الصين إبان العصور الغابرة ثم قفزت إلى بلاد الإغريق حيث قتل أوديب والده، أي قتل الأب للإبن، أي التفوق للحاضر والمستقبل بدل المرض بالماضي، هناك أيضا ظهرت الأفلاطونية والأرسطية والفيتاغورية والأفلوطينية بفضل السفر بين تضاعيف وطيات الثقافة الحية... هذا وقد تميزت هاته الثقافة أيضا بالإيمان بالعقل بدل التسليم والطاعة، والانتصار للسؤال مهما كانت طبيعته، ثم تطورت بعدئذ حينما حطت الرحال بأوربا خلال العصر الوسيط الثالث، حيث الجرأة والتنطع من تبعية الماضي على المستوى الزمني، ومن تبعية النص المقدس الثابت على مستوى الإيمان، الثقافة الحية آمنت كثيرا بمنطق بالإمكان وهو الذي بوأها الصدارة والتفوق، هو الذي تجرأ على المركز لحساب الهامش فتحولت الشمس لمركز بعدما كان الأمر حقيقة لا يتناطح عليها كبشان، ثقافة الإمكان هي التي مهدت للثورة الرقمية وعلم الجينوم والهندسة الوراثية، هي التي تجرأت على الأسفل فأصبحت الأرض وعاء للمعادن ومصادر الطاقة، ثم تطلعت للأعلى حيث الطائرات والمركبات الفضائية التي وضعت أرجلها على سطح القمر والمريخ.
الثقافة الحية تعيش اليوم نتائج زرعها حيث الإنسان هو المنطلق والمنتهى، تعيش منطق احترام الأقليات الدينية والعرقية، كما تحيا داخل الديمقراطية والحريات الفردية والمحاسبة والمسؤولية والاعتراف بالفشل والفاعلية... إلى جانبها تحصد الثقافة الميتة شوك زرعها والمتمثل في الجهل والتخلف والفساد والغش والتبعية والاستبداد وغياب القانون... الثقافة الحية تؤثر في السياسة كما في الاقتصاد، تتربع على رأس الهرم مستفيدة من قوة التعليم وتفوق جامعاتها ومراكز بحوثها، بينما تعتبر الثقافة الميتة في بلدان الموت مجرد ترف وشيء زائد بسبب رداءة جودة التعليم وغياب الجامعات المؤثرة علميا، الثقافة الميتة تخاف من مثقفيها فتسجن البعض وتقصي البعض الآخر وتنفي آخرين وتُغري من تبقى، في حين أن الثقافة الحية تحترم علمائها ومثقفيها، تحتفي بهم قبل موتهم وتحاسبهم إذا استغلوا مناصبهم، الثقافة الحية في البلدان الحية هي من تصنع ذهنية الاختلاف هي من تكرس الشفافية والديمقراطية والمساواة أمام القانون، بينما الثقافة الميتة التي توجد في البلدان الميتة تكرس الخنوع والخوف وغياب المحاسبة، ثقافة تنتصر للقوي على الضعيف، ثقافة لا تؤثر في الحياة على كل أشكالها وميادينها، ثقافة نسبة الأمية مرتفعة فيها، إلى جانب التعصب والتطرف، إلى جانب عدم الاعتراف بالخطأ والفشل الجرأة على قول الحقيقة أو الباريزيا بلغة سقراط، من ثمة وتأسيسا على ما سبق فإن الثقافة الحية هي من تصنع أمجاد الأمم وترفه الهمم، عكس الثقافة الميتة التي تصنع التبعية ليس إلا.