" لا يمكن لأحد العيش في عالم غير قابل للسرد أو البقاء بعد حياة غير قابلة للسرد على نحو جذري"[1]
لقد تضمنت الفلسفة المعاصرة تعليما أوليا وكونيا حول الوضع البشري يكون في شكل تقرير ترفعه الفعالية النقدية إلى الملكة التأويلية العلاجية للعقل، وينبغي أن يظل الإنسانيl'Humain الانتماء المشترك للبشر في العصر الكوكبي وأن تحدث مغامرة كبرى تعصف بأوضاع البشرية المتردية وتتلقف الإنساني المحاصر وتنقذ البعد الحيّ وتنتشله من النسيان وتعترف بالتنوع والتفرد والتعدد رمزيا وماديا.
لقد ارتبط الوضع البشري في الزمن مابعد الحديث بمنزلة التي أعطيت للثقافة والمثقفين بعد التحولات العميقة التي غيرت قواعد اللعبة بين العلم والأدب والفنون وسببت أزمة سرديات والتي أثرت في وضعية المعرفة في المجتمعات المتطورة وجعلت الخبراء يقتصرون على نظرية الفكر الضعيف. لقد أصبحت الفلسفة في ظل النزاع بين العلم والأدب مجرد ماوراء خطاب حول الشرعنة تقدم توجيهات نافعة في إطار البحث عن الحق والعدل وتضفي المشروعية على قواعد اللعبة وترسم الحدود بين التصورات[2].
ما يلتفت الانتباه في الفعالية السردية هو تسرب أفعال الكلام الى النظرية المعرفية عن الذات وغزو تداولية رواق الفلسفة خاصة وأن " قاعدة التوافق بين الباث والمتقبل لعبارة لها قيمة حقيقية يمكن أن تكون مقبولة إذا ما اندرجت ضمن منظورية إجماع ممكن بين كائنات عاقلة : إنها سردية الأنوار حيث يشتغل أبطال المعرفة على هدف حسن من الناحية الإيتيقية والسياسية هو السلام الكوني".[3]
لقد أصيب الإنساني بالتشظي والتفكك والتصحر وفقد شكله وأفرغ من مضمونه وتصدع إلى عدة أجزاء متناثرة ـ نفسي وفردي واجتماعي واقتصادي وثقافي ولغوي وسياسي ومادي ورمزي ـ وآن الأوان لكي تتحرك المعول الكوني للفلسفة في اتجاه توحيده وفهمه في مجموعه وتخطي العتبة الإبستيمولوجية للمشاكل المنهجية التي طرحتها العلوم الإنسانية على الطبيعة البشرية حينما وقعت في الاختزالية والتبسيط والتقسيم والصورنة وضاعفت من جهل الإنسان بذاته وحولت الكائن إلى أثر ووضعته في مختبر تجريبي. إن مساءلة الوضع الإنساني هي استشكال لمنزلته في الكون وأحواله النفسية وظروفه وأنشطته الاجتماعية وآثاره الثقافية وانتاجاته الاقتصادية وأفعاله السياسية واللغوية وتصوراته الوجودية وممارساته الإيتيقية والبحث عن شروط إمكان مختلفة تتكفل بتغيير جذري لأوضاعه وأنسنة humanisationمساراته وبلوغ وضع بشري بالمعنى الحقيقي للكلمة . إن قيمة عملية التأنسنhominisation التي يقترحها أدغار موران أنها تظهر كيفية تشكل الوضع البشري من بعدي الحيوانيةanimalité والعاقلية جنبا إلى جنب والإقرار بأن الإنسان كائن بيولوجي لا يستحق درجة الإنساني ويصبح كائنا إنسانيا إلا بواسطة الثقافة واللغة والفن والإيتيقا والحياة. لقد أعاد أدغار موران اكتشاف مفارقة تخص الوضع البشري تتمثل في ما يلي: نحن لدينا وضع إنسانيcondition humaine ولكن هذا الواضع فاقد للإنسانية ومضاد لها ومغترب عنها وبالتالي ليس لدينا إنسانية الوضعhumaine condition[4].4 وآيته على ذلك أننا نوجد في ذات الوقت داخل الطبيعة وخارجها، أي ننتمي إلى الكون الفيزيائي والطبيعي ومنغرسين في الحياة العضوية والسجل الحي وخاصة الحيوانية والجسد والجهاز العصبي والفزيولوجي ولكننا مجردين من إنسانيتنا الخاصة وغير متجذرين في كينونتنا ونرزح في تبعية وأسر لغيرية مجهولة. إن الفلسفة النقدية المعاصرة مطالبة بأن تعيد تنزيل الكائن البشري في العالم وتحقيق المصالحة بين الإنسان والإنساني وتحويل البشر من موضوعات مشتتة إلى ذوات متفاعلة وجعل الوضعيات شروط إمكان للحياة ومشاريع وجود وإحداث منعطف كينوني بالانتقال من لاإنسانية الوضع الإنساني إلى أنسنة الوضع البشري وذلك بإنارة المسارات المظلمة والمتوحشة والتغلب على أشكال الاغتراب والاستغلال وتشييد تأويلية متكاملة للجينوم البشري في أبعاده المتشابكة الفزيولوجية والعرفانية وتعقيداته النفسية والثقافية والاجتماعية.
هكذا يجدر بالفلسفة أن تقاوم كل أشكال اللاّتجذر والانبتات وأن ترتقي بالكائن نحو المرتبة الإنسانية وتعترف بالانغراس المضاعف والتجذر المزدوج في السجل الفيزيائي المادي وفي السجل الكوكبي. عندئذ تظل معرفة الإنسان مهمة تقتضي تنزيله ضمن سياق متعدد ومتحول وليس انتزاعه من محيطه الطبيعي الكوكبي واقتلاعه من تربته الثقافية الكونية ، وبالتالي حري بالفلسفة أن تُرجِعَ سؤال من نحن؟ العقيم والمطروح بشكل سيء إلى أسئلة أخرى منتجة وشرعية هي: أين نحن؟ ومن أين أتينا؟ وأين سنذهب؟
الاحالات والهوامش:
[1] بتلر جوديث ، الذات تصف نفسها، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير، بيروت، تونس، القاهرة، طبعة أولى، 2014،ص121
[2] Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne, édition Cérès, Tunis, 1994,pp05.09.
[3] Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne,op.cit.p06.
[4] Morin Edgar, les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, édition du Seuil, Paris, 2000.p.49.
المراجع:
بتلر جوديث ، الذات تصف نفسها، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير، بيروت، تونس، القاهرة، طبعة أولى، 2014،
Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne, édition Cérès, Tunis, 1994,
Morin Edgar, les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, édition du Seuil, Paris, 2000.
كاتب فلسفي
[1] بتلر جوديث ، الذات تصف نفسها، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير، بيروت، تونس، القاهرة، طبعة أولى، 2014، ص121
[2] Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne, édition Cérès, Tunis, 1994,pp05.09.
[3] Lyotard Jean-Francois , la condition postmoderne,op.cit.p06.
[4] Morin Edgar, les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, édition du Seuil, Paris, 2000.p.49.