بين المقدس والمدنس أحكام قلما انتبهنا إليها، ونحن نعتقد أنهما يتضادان تضاد النار والماء، مثلما ينتصر أغلبنا للمقدس على حساب المدنس، ويعتقد البعض الآخر أن الحياة تقوم على المدنس، بينما في الأمر لغز آخر وسيرة أخرى للعلاقة بين الإثنين، عالم المدنس ظل وظلام واستجابة لطبيعة الإنسان وحاجاته الحقيقية والدفينة، والحال أن كل إقبار له هو بمثابة تحدٍ جديد للإنسان كإرادة، وقتل غير منطقي لجوهر ثابت أبدا، أما المقدس فإنه يعدو تفوق للأيقونة فينا، للهوية المنغلقة ولإجبار التغيير على الركون وحيدا دون تغيير.
ثمة في المقدس والمدنس أيضا نصوص وأقوال وعلامات نحتت وجهها على تقاسيم الزمن والتاريخ، إذ المقدس نص والمدنس هو الآخر نص وإن اختلفت الطبيعة بينهما، لهذا فالمواجهة بينهما هي مواجهة نص بنص، وقول بقول، وحقيقة بأخرى، على أنه من الواجب التذكير بأنه في البدء كان المدنس، والتاريخ ليست ترسم معالمه وتحولاته إلا به، فأكل آدم للتفاحة ليس يختلف بتاتا عن قتل قابيل لهابيل، بينما لا تختلف الفتوحات الدينية عن الحملات الإمبريالية وإن اختلفت الظروف والسياقات، كلها مدنسة حسب الحكم الأخلاقي وفي مقابل ذلك كلها ضرورية تفاديا لغياب الحياة فينا.
لقد جاء المقدس كبديل عن المدنس لتعليم الإنسان درسا جديدا ألا وهو الانصياع، المقدس طاعة عمياء للنص المقدس، والمدنس ثورة على المدنس نفسه مثلما المقدس، النصوص المقدسة تحاول تنميط الإنسان وتحويله إلى آلة تعيد إنتاج نفسها فتقتل فينا التاريخ كصيرورة، بينما يعمل المدنس على تنبيهنا في كل آن وحين على ضرورة التنطع والهروب والانفلات من كل تنميط.
المقدس جوابه هو نعم بدون أي نقاش، إنه انصياع أبدي للنص كنص، وللحكم كحكم، في حين أن المدنس يجيب بلا، التي تقبل التبرير أحيانا وعدم التبرير في أغلب الأحيان، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن كل نص مقدس خائف دوما من خطوط الانفلات والتنطعات كالتأويل والتفسير والقراءة ، من ثمة يعتبر نفس النص أن النقد حرام والتأويلات اللامتناهية هي الأخرى، والنبش هو الآخر ليس من المحمود قبوله ولا التفكير فيه، أما النص المدنس فإنه يقف عند التأويلات اللامتناهية، معتبرا إياها زبدة كل قول، وأن التأويل المنتصر سينمحي عندما سيظهر تأويل آخر أكثر قوة وإقناعا.
النص المقدس يسكن الأديان والقانون، بينما يسكن النص المدنس كتب الفلسفة والتاريخ والعلوم الحقة والأدب، إنه صراع بين التطويع والهروب، بين الركون والسفر، وبين السكن الواحد والترحال اللامتناهي، النص المقدس زمنه خطي متعاقب وثابت، بيد أن النص المدنس زمنه هو زمن التنطعات والحضور، زمن الأول يقتل التغير فينا، وزمن الثاني ينساق وراء اللحظة الطويلة، لهذا نجد أن النص المقدس يخاف من الالتقاء والمدنس تفاديا لطرح السؤال المحرج، في حين يعمل النص المدنس على امتصاص بعض من النص المقدس فيدخل النقد والتأويل، مثلما يحرج ويفكك جله، وإن كان لا يلتفت للمقدس فإن هذا الأخير مريض بالهروب منه ومشتاق إلى العيش خارج دائرته وبمحاذاته.
عيب النص المقدس يكمن في عدم علمه أن النص المدنس يسكن داخله، حيث وجود الأول مشروط بالثاني، وعيبه الثاني هو رفض كل مقدس تأثر بالمدنس، حيث يحكم في الحين بالإبادة والقتل، أما قوة النص المدنس فإنها تكمن في ترك كل متأثر بالمقدس إلى إشعار آخر، تعلقه بين السماء والأرض، أي بين الحنين للمدنس كحرية وللانصياع للمقدس كقهر.
المدنس جريمة يعاقب عليها المقدس، لكنها ترتكب رغما عن الجميع، وبكل حذر وخيفة، بينما لا يعتبرها المدنس سوى استجابة للطبيعة، لهذا قد لا نستغرب عندما نرى المقدس يهجم والمدنس لا يبالي ولا يدافع، لأن كل هجوم للنص المقدس على النص المدنس، إنما هو هجوم على المقدس نفسه، وعليه فلغة المقدس هي السيف، في حين أن لغة المدنس هي القلم وتأمل خراب المدنس.
إن من بين الشخصيات التي مثلت المقدس نجد الأنبياء والرسل، ورجال القانون وحراس الأخلاق، لكن ومع ذلك فإن لكل هؤلاء منطقة ظل يلتقون فيها بالمدنس معترفين بقوته الكبيرة، متفادين في الآن نفسه الاعتراف بالمدنس، في مقابل ذلك يمارس المدنس من طرف أصحابه في وضح النهار كما في أحلك الليالي، هذا ولا شك أن هناك اعتراف ضمني دوما بتفوق النص المدنس على حساب المقدس، فابن رشد مثلا، كان يمثل تلك الازدواجية بين الاثنين، فتراه نهارا فقيها وقاضيا، وفي الليل ينغمس بين كتابات أرسطو والمتكلمين.
كل فرد منا هو عبارة عن تأرجح بين المقدس والمدنس، قد يكذب أحدنا يوما بانتصاره للمقدس، لكنه يعلم علم اليقين أن المدنس ليس مدنسا إلا عند المقدس، صحيح أن الحياة لا تستقيم إلا بحضور الإثنين، شريطة أن يعيد النص المقدس نفسه، أي لا يجب أن يضمن لنفسه حكمة الصواب ورعونة المدنس، على النص المقدس أن يرسم حدوده تفاديا للهجوم على النص المدنس، وإلا فقد يتحول التقديس إلى تدنيس ومعه نسقط في حرب لا هوادة فيها على غرار ما يحدث اليوم.