ليس من شك في أن العلم والتقنية أصبحا أملا واعدا للبشرية بالإزدهار ،والتقدم والرقي ،وهي نتيجة لتطبيق اكتشافات علمية كبرى ،والتقنية كمفهوم شمولي كما عرفها لالاند هي مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة.
فهل نتذكر تلك الخدمات التي قدمتها التقنية للإنسان مند القدم إلى العصر الحديث؟، لكن لعل الشيء الأكثر غرابة أنها أصبحت في الحقبة المعاصرة كائنا غير مراقب يتحرك كما يريد دون إذن من أحد حتى صارت هي التي تراقبنا ولسنا نحن، لقد صنع الإنسان إن صح التعبير فناءه بيده، لقد صارت التقنية عقلانية مغلوطة بتعبير ماركيوز. و أقامت لنفسها محكمة تحاكم كل من تجاوز حدود التعامل معها.
يحاور هايدغر عصره محاورة نقدية وذلك بالعودة إلى مشكلاته, فمن خصائص هذا العصر أنه عرف اكتمال الميتافيزيقا اكتمالا نهائيا في ظل هيمنة الخطاب التقني الذي تحكمه نزعة عقلانية تتمركز حول ذاتها,و تسعى إلى تسخير التقنية لفرض رؤية تدميرية كانت الخطر الأعظم على العالم.
فهل التقنية الحديثة نتيجة لتطبيق علوم الطبيعة على الواقع؟ وماهي المخلفات التي تركتها التقنية على الطبيعة وعلى الإنسانية حسب هايدغر؟ و ماهو السبيل لاستعادة سؤال الوجود في ظل معرفة ماهية التقنية؟ وهل كان للفيزياء دور فعال في تهميش طرح سؤال ماهية التقنية؟ وهل اقترب العقل التقني من لحظة الإنفجار الأعظم كما أسماه هايدغر؟ وهل تشكل التقنية تهديدا فعليا لمصير الإنسان؟
استطاع هايدغر بخلاف غيره من الفلاسفة تحويل عصره إلى مجموعة من الإشكالات ذات أهمية بالغة, كانت مهمة الفلسفة أن تقوض الثوابت الميتافيزيقية وتزعزع سلطة العقلانية الحديثة بكل أبعادها ومستوياتها.
إن النظر إلى التقنية بما أنها “قدر العصر” “das Schicksal des Zeitalteres” لم يكن فقط من قبيل الوصف المبالغ فيه، بقدر ما سيكون ضرباً من الاستشعار القبْلي والحدس الفلسفي السابق لأوانه، أو هو خلاصة نظر بعدي، إنبنى على جلال أثر العلم وجلاء وقع التقنية. حاصل ذلك، أمكن للعلم والتقنية أن تصير العنوان اللافت للعصر الراهن بما هو زمن تقني، بما له من دلالة مفصحة عن روح العصر(1)
تمظهرت الأزمة الحديثة في هيمنة الخطاب التقني, حيث إعتبرها هايدغر آخر وجه من وجوه الميتافيزيقا قبل نهايتها, فمارست بذلك التقنية الحديثة سلطة ميتافيزيقية على الوجود الإنساني, إذ أصبح الفيلسوف في
عصر التقنية الحديثة مسكونا بهاجس القلق على مصير العالم, وتحولت الأرض إلى موضوع استنزاف و استفراغ لمقدوراتها دون وعي بأهمية الحفاظ على الضمانات التي تحميها من الدمار.
يُبقي هايدغر مسألة مجاوزة الميتافيزيقا أمرا ضروريا لاستعادة حقيقة الوجود, فالعقل الحديث حسب هايدغر سقط في نمط من التفكير العلمي الرياضي, تجد العقلنة شكلها الخالص في الصياغة الرياضية للواقع التي عجلت بتوحيده مسهلة بذلك عملية إخضاعه لديكتاتورية الإرادة, يطالب هايدغر دائما بالإنفصال عن هذا العقل لأنه العدو اللدود للفكر.
يرفض هايدجر الفكرة الرائجة التي ترجع نشأة التقنية الحديثة إلى تطبيق علوم الطبيعة على الواقع. ليست العلوم الحديثة حسب هايدجر هي أساس التقنية، بل إن التقنية هي أساس العلوم الحديثة. صحيح أن ظهور العلوم الحديثة سبق من حيث "الحساب الزمني" سيطرة التقنية، إلا أن روح التقنية الحديثة تسيطر على هذه العلوم منذ نشأتها، ولولا ذلك لما أمكن تطبيق نتائجها تطبيقا تقنيا. إن النظرية العلمية ذاتها خاضعة لمتطلبات الروح التقنية. فهذه النظرية لا تقدم لنا الكائن كما يظهر ذاته من تلقاء ذاته (وهذا هو مدلول النظرية عند أرسطو)، بل تجبره مسبقا على أن يظهر كمورد للطاقة، وبذلك فهي لا ترى في الطبيعة سوى قوى يجب ملاحقتها وحسابها قصد صياغة العلاقات بينها في قوانين ومعلومات ليس لها من قيمة في نهاية الأمر إلا بمقدار ما تجعلنا قادرين على التحكم في الطبيعة وتوجيهها. إن المعلومات التي تقدمها العلوم الدقيقة ليست "وصفا" للطبيعة، بل أدوات لحسابها والتأثير فيها. على أن سيطرة الروح التقنية على النظرية العلمية بلغ أوجه في الوقت الحاضر، حيث فقدت النظريات العلمية كل دلالة أنطولوجية وأصبحت مجرد وسيلة لضبط الشروط الضرورية للتجريب أي لإنتاج الظواهر. ولهذا أصبح من المقبول أن يتم تغيير النظرية أو بعض أركانها، إذا تبين أنها لا تفيد في إنتاج الظواهر. ويتجلى أخيرا الطابع التقني للعلوم الحديثة في أن "التفكير" النظري ذاته اصبح يتعامل مع القوانين والمعلومات بأسلوب يعتمد على المهارة والتحايل من أجل الوصول إلى قوانين ومعلومات جديدة.
فيما يلي نتساءل حول موضوع التقنية. أن نتساءل هو أن نعمل على إعداد طريق وأن نشيده. لهذا فمن المناسب أن نفكر قبل كل شيء في الطريق وألا نرتبط باقتراحات أو تسميات خاصة. الطريق هو طريق الفكر. كل طرق الفكر تقود، بكيفية غير واضحة وبممرات غير معتادة، عبر اللغة. إننا نسأل في موضوع التقنية ونريد بذلك أن نقيم علاقة حرة معها. والعلاقة تكون حرة، عندما تفتح كينونتنا على ماهية التقنية. إذا قدمنا جوابا حول هذه الماهية نستطيع عندئذ أن نعي النزعة التقنية Technicité في حدودها.(2)
حينما نبحت في الفلسفة فنحن نبحت عن الجوهر أو الماهية وتفترض هذه الماهية الثبات ونحن ندرّس بأن ماهية الشيء هي ما هو هذا الشيء عليه. إلا أننا حين نتساءل حول التقنية نجد الفيلسوف هايدغر يميز بين التقنية وماهية التقنية ، فإذا كانت التقنية تشكل العنصر المادي الذي نستخدمه في استعمالاتنا اليومية كالآلات والأدوات ، فإن الماهية هي مجموع الخصائص والوظائف التي تقوم بها ، إذا كانت التقنية مثلا هي السكين ، فإن ماهية التقنية التي هي السكين تتمثل في القطع ، وإذا ما كانت المعول من حيث هو أداة مادية ، فإن الحفر يكون بالتالي ماهية لهذه التقنية.
إذن يمكن خرق تلك القاعة مع الفيلسوف مارتن هايدغر والقول بأن التقنية وماهية التقنية ليسا نفس الشيء. عندما نبحث في ماهية الشجرة علينا أن نفهم أن الذي يحكم كل شجرة باعتبارها شجرة، ليس هو ذاته شجرة يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى. وبالمثل فإن ماهية التقنية ليست مطلقا شيئا تقنيا.(3) وهكذا فإننا لن ندرك أبدا علاقتنا بماهية التقنية طالما اقتصرنا على تمثلها وممارستها، وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب منها. ومهما فعلنا فسنبقى خاضعين للتقنية ومحرومين من الحرية سواء دافعنا عنها بانفعال أو أنكرناها. ومع ذلك فعندما نعتبر التقنية بمثابة شيء حيادي نكون عندئذ قد استسلمنا لها وبأسوأ الأشكال: لأن هذا التصور الذي حظي اليوم بحظوة خاصة يجعلنا عميانا تماما تجاه ماهية التقنية.
إن ماهية التقنية ليست شيئا محايدا كما تزعم التوجهات التقنوية ، من أن المسألة ترتبط بالاستعمال . إن التقنية تحمل في ماهيتها ما يجعلها خطرا ليس على الطبيعة وحسب وإنما على الإنسان . فقد تحولت التقنية من وسيلة لا مناص منها لحفظ بقاء الإنسان إلى أكبر خطر يتربص بوجوده . لذلك ينفي هيدجر حياد التقنية ضد ذلك التصور الذي يرى بأن التقنية إذا ما مزجت بالعلم سوف تحقق للإنسان تقدما هائلا قوامه المتعة والسعادة . إن هيدجر من خلال هذه المحاضرة يبدد هذا الوهم عندما يذهب إلى أن التقنية ليست شيئا محايدا.
نميز هنا أيضا بين التقنية كما استعملت في العصور القديمة كتعايش ،والتقنية الحديثة كاستفزاز provocation ،إذ تشكل التقنية ضرورة إنسانية ، إذ لولا التقنية لما استطاع الإنسان الحفاظ على بقائه لأن الإنسان هو الكائن الأكثر ضعفا بالمقارنة ببقية الكائنات وحينما أدرك عجزه اخترع الألة / التقنية . إن التقنية هي التي مكنت الإنسان " البدائي" من نحث الجبال كهوفا ، ومن أغصان الأشجار رماحا للدفاع عن نفسه . وهي التي دفعت عنه تهديدات الطبيعة ، فالتقنية كانت بالنسبة للإنسان الأول تشكل ضرورة أنطلوجية ، وإذا ماكانت التقنية القديمة مسالمة ، فإن التقنية الحديثة تتسم بكونها نزوعا نحو السيطرة بوصفها انكشاف.
يطرح هايدجر إشكال يتعلق بعلاقة ماهية التقنية بالإنكشاف؟ فهي تلتقي معه في كل شيء لأن كل انتاج يجد أساسه في الإنكشاف, غير أن هذا الأخير تتجمع فيه الأنماط الأربعة:
1.العلة المادية: مثلا المادة التي نصنع بها كأسا من الفضة.
2.العلة الصورية: الشكل الذي تدخل فيه المادة.
3.العلة الغائية:مثلا الغاية التي بها يتحدد كل من مادة وشكل الكأس التي نحن بحاجة إليه.
4.العلة الفاعلة: أي تلك التي تصنع النتيجة أي الكأس الواقعية المكتملة.
ويحكمها في مجال الإنكشاف تدخل الغايات والوسائل الأداتية أيضا, وهذه تعتبر البعد الأساسي للتقنية, فإذا تساءلنا عن التقنية المفهومة كوسيلة عندئذ نصل مباشرة إلى الإنكشاف وفيه تكمن كل عملية صنع. هكذا فإن التقنية ليست وسيلة فحسب بل هي نمط من الإنكشاف, وهكذا سينفتح لنا بالنسبة لماهية التقنية مجال الإنكشاف أي مجال الحقيقة.
هذا يدفعنا بحدة للتساؤل على ماذا تعني إذن كلمة "تقنية" فهي أكثر أهمية إلى حدود فترة أفلاطون إذ كانت كلمة "تقنية" مرتبطة دائما بالكلمة "أبيستينون" وهي تعني العلم أو المعرفة تعني القدرة على الإهتداء في شيء ما, والتعرف إليه فهي اسم للمعرفة بالمعنى الأوسع:تقدم المعرفة انفتاحات وبما هي كذلك فهي انكشاف.
الإنكشاف الذي يسود التقنية الحديثة حسب هايدغر لا يتجلى في انتاج بمعنى انتاج شعري, بل الإنكشاف الذي يسود التقنية الحديثة هو عبارة عن تحريض عن طريقة تكون الطبيعة منظورة إلى تقديم طاقة يمكن من حيث كذلك أن تستخرج وتتراكم.
يقول هايدغر بهذا الصدد: "إن الإنكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة يتخذ سمة مناداة أي استفزاز وتحريض, لقد حدثت هذه المناداة عندما تحررت الطاقة المختفية في الطبيعة, وما تم الحصول عليه بهذا الشكل ثم تحويله, وما تم تحويله تمت مراكمته واختزانه, وما تمت مراكمته تم توزيعه وما تم توزيعه تم خفضه واستهلاكه من جديد".(4)
إن الأفعال "حصل وحول و راكم و وزع و خفض.... هي أنماط للإنكشاف, إن هذا الإنكشاف يكشف لذاته طرقه الخاصة الملتوية بكيفيات متعددة وهو يكشفها من حيث أنه يوجهها و يتحكم فيها.
ومع ذلك فإن إنسان عصر التقنية يظل مدعو إلى الكشف بالطبيعة أولا من حيث أنها احتياطي لمستودع الطاقة, وبصورة مقابلة فإن السلوك "المسخر" للإنسان يتجلى أولا في ظهور علم الطبيعة الدقيق.
قامت التقنية الحديثة على علم الطبيعة, وعلى الرياضيات التي شكلت منظومة تسعى إلى مضاعفة الإنتاج و المردودية. يقف هايدغر على العلاقة التقنية بالعلم وعند الأخطار المدمرة للاستعمالات الخاطئة للتقنية, لم تبحث العلوم الحديثة في ماهية التقنية وفي نقد نواقصها, ما يهم العلم هو الإنتاج و الوفرة ومعرفة التقنية وبرمجتها والإعلان عن نتائجها ومنجزاتها دون أن تحدد ماهيتها. يقول هايدغر: "إننا نعلم اليوم دون أن نعي تماما أن التقنية الحديثة تدفعنا إلى اضفاء مزيد من الكمال على أجهزتنا ومنتوجنا.(5)
تستفز التقنية الطبيعة وتحرضها على إظهار طاقتها الخفية حيث يقول هايدغر: "أن تظهر الطبيعة في تلك الطاقات أو من خلالها يعني, تحولت الطبيعة إلى موضوع, هو موضوع النشاط الإدراكي الذي يظهر الأوليات الطبيعية بوصفها قاعدة للحساب".(6)
أجبرت التقنية الطبيعة على إظهار نفسها موضوعا للعد و للحساب الدقيق, لم تكن الفيزياء علما تجريبيا فحسب, إنما مثلت بالأساس علم يجبر الطبيعة على أن تظهر نفسها كمركب قابل للحساب و التنبؤ.(7)
لم تساهم الفيزياء الحديثة في بلورة علاقة التقنية بالطبيعة بل كان موضوعها الأساسي تهيئ جوهر التقنية الحديثة.
لم يرتق ما سنته الفيزياء الحديثة إلى كشف ماهيه التقنية وبواعثها الحقيقة داخل هذا التخفي الميتافيزيقي و الإنحجاب الكلي للوجود, مازالت ماهية التقنية مختفية وستبقى كذلك مدة طويلة, لم يكن الإختراع الإلكتروني كافيا والإنفتاح الذري ليس جوهريا طالما مازلنا نجهل ماهية التقنية؟
فالتقنية وماهية التقنية ليسا نفس الشيء, عندما نبحث في ماهية الشجرة علينا أن نفهم أن الذي يحكم كل شجرة بإعتبارها شجرة, ليس هو ذاته شجرة يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى.وكذلك فإننا لن ندرك أبدا علاقتنا بماهية التقنية طالما ربطناها مع الممارسة وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب منها ومهما فعلنا فسنبقى خاضعين للتقنية ومحرومين من الحرية, ومع ذلك فعندما نعتبر التقنية بمثابة شيء حيادي نكون عندئذ قد إستسلمنا لها وبأسوأ الأشكال لأن هذا التصور الذي حظي اليوم بخطوة خاصة يجعلنا متناسيين تماما لماهية التقنية.(8)
يبحث هايدغر في الأشياء متابعا التراكم الذي أفرزه النظام التقني, لقد أحاط الموجودات بالإنسان وحاصرته مردودية الإنتاج إلى درجة أنه اندمج بسهولة في العملية الإنتاجية حتى بات صورة من صور
الإنتاج ومادته الأولية.(9) أصبحت حاجة الإنسان إلى الفكر أمرا ضروريا في ظل خطاب تقني
ميتافيزيقي يقوم على السيطرة و التطويع, وتحت هيمنة عقلانية علمية صارمة يقودها الحساب الدقيق إلى إنشاء برمجة تقطع بين الإنسان ووجوده.
يبقى السؤال حول العصر النووي من أخطر الأسئلة التي يطرحها هايدغر (ماذا يعني القول إن عصرا من التاريخ العالمي يتميز بالطاقة النووية؟).
إن استخدام هدم الطاقة في مجال الحرب مسألة ثانوية أمام المقارنة مع خطورة هذا السؤال ذاته إذ يطرح هذا السؤال غياب القيم الروحية وسيطرة القيم المادية, فتحت إمكان سيطرة التكنولوجيات وتغيير مواقع العلاقات يتضح أن هذه المادية هي نسق تقني من أشد الأنساق خطورة ذلك أن لا شيء يخدع بسهولة أكثر من سحر هذه المرايا الخارجية التي تغلف العنف و القيود.
ليس أخلاقيا أن يتحول الإنسان إلى مادة أولية للتقنية, وليس من المعقول أن يتساوى الإنسان و الطبيعة وتتماثل الروح و المادة, فرض الخطر التقني على الإنسان نسقا معينا من الحياة لم تكن متوافقة مع طبيعة الوجود الإنساني.
يشير هايدغر إلى خطورة تبريرات العلماء لنتائج العلم المدمرة, ولطغيان النسق التقني على الحياة البشرية و الطبيعية على حد السواء.
لم يأت عصر التقنية الغربية من فراغ, فقد سبقت هذه المرحلة تحولات علمية عظيمة في علم الفيزياء أدى إلى إحياء هذه الطاقة و استغلالها في غير موضعها الإنساني, حين تطورت العلوم مكنت الفيزياء الحديثة الغرب من السيطرة على الطبيعة وإملاء إرادته عليها و استنفد بذلك مقدراتها ومخزونها الطاقي,وأفقدت الفيزياء الحديثة بذلك فاعلية المساءلة حول مصير الوجود, وهمشت في الآن ذاته طرح سؤال ماهية التقنية بوصفه سؤال حدث قادر على مجاوزة الميتافيزيقا التقنية.
رفعت الفيزياء الحديثة تمثُلْ الموجودات إلى ممارسة فعلية حولت التفكير في ماهية التقنية إلى التفكير في التقنية, فجوهرها كما أشرت لا يتضمن الممارسة التقنية, فسقطت بذلك ماهيتها في النسيان وتأجل سؤالها بفعل الإهتمام بالموجود الأداتي, وتوجيه التقنية إلى السيطرة و إلى إرادة الهيمنة.
لا يقبل هايدغر بإستخدام التقنية ضد الوجود الإنساني وضد قيم العصر, فمهما بلغت التقنية من تطور ومهما حققت من سيطرة فإنها لم تحقق آمال الإنسان وتطلعاته, رغم إكتشاف الكواكب و تسليح الفضاء, واختراع القنبلة الذرية وكل مظاهر الهيمنة و السيطرة...
يدعو هايدغر إلى إدانة العقلانية الغربية التي تحولت بفعل التقنية إلى سلطة ميتافيزيقية وإحلال عقلانية بديلة متحررة من جنون التقنية, وذلك بتقويض بنية العقل الحسابي و الأداتي, إذ يظل هذا الإحتجاج رفضا للخطاب السياسي ولمراكز القرار.
بلغت الإنسانية في العصر الحديث في نظر هايدغر لحظة انسداد الأمل وضياع صكوك الخلاص, في عصر السيطرة النووية, واستنزاف الطاقات الطبيعية, والبحث عن كل إمكانية لإمتلاك الموجود في كليته, واختزال الواقع إلى مخزون _ يجعل الإنسان يقوم بمهمة تسخير الواقع كأساس وكمخزون _ فتتحول بذلك الهيمنة التقنية إلى رؤية ميتافيزيقية تجعل الإنسان الحديث موظفا للتقنية.
كان الأجدر تحقيق توافق بين الإنسان و الوجود لكونهما يتبادلان نقل تملكهما لبعضهما بعضا, أنهما ينتميان لبعضهما بعضا, حيث تحول الإنسان في العصور الحديثة إلى موضوع لموضوعاته, وانقطع عن استشكال وجوده انقطاعا عمق هاوية يصعب تخطيها في هيمنة فكر تمثلي _ فإن نتمثل شيئا ما معنى ذلك أن نحمله من حيث موضوع ماثل هناك على المجيء أمام ذاتك أي أن ترجعه إلى الذات التي تتمثله, فينعكس تفكيرها عليه في علاقته بها من حيث هي منطقة يصدر عنها كل قياس _.
يأمل هايدغر أن التصدي لميتافيزيقا التقنية قد يحقق مصالحة أنطولوجية تعيد الوجود إلى وضعه الطبيعي, الإنسان وحده من صنع مصيره, وحده من يتحمل الإخفاق في استذكار وجوده, والإستسلام لإرادة التقنية لدى أهملت هذه الأخيرة سؤال الوجود, وضاعفت من حجبه إلى درجة إستحالة الإنصات إلى ندائه في ظل الهيمنة وبفعل الإستفسار, وتسخير ما هو مخزون للسيطرة و للإستحواذ.
يشير هايدغر على أن ماركس لم يمنح التقنية موضعها الرسمي, وإن كان هو رائد التفكير التقني الحديث, لما حمل الرأسمالية مسؤولية الخطر و الدمار, ولم يكشف على أن سوء فهم ماهية التقنية هو الخطر الأعظم. أما إرادة الإقتدار فليست كما يدعي نيتشه مطرقة الهدم الحقيقية, وتقنية إنهاء الميتافيزيقا. لم تبلغ إرادة نيتشه تحديد ماهية التقنية, وكشف السطو المدمر للمخزون الطاقي للأرض, في حين مثلت إرادة الإقتدار وجها من وجوه الميتافيزيقا هي وجه الأكثر إكتمالا للسيطرة هي "إرادة الإرادة" أو الدرجة القصوى من التطويع و الإخضاع لا في مستوى التقنية الآلية فحسب, وإنما في مستوى أعمق من ذلك.
حلت التقنية الإعلامية و البرمجة الحاسوبية الوجه الخطير من التقنية, فهي الناطق بإسم أفكاره وإيديولوجياته, يتجسد الوجه الخطير للتقنية في الحقول الإعلامية الرقمية حيث أصبح الإنسان برنامجا رقميا يمكن رفع مردوديته حسب الحاجة, وحب البرمجة إلى درجة أن الحاسوب يصبح الناطق بإسم الإنسان, مجسدا قراراته و منافسا له حتى في خصوصياته الحميمية.
لم تعد الفلسفة قادرة على انقاذ الإنسانية من الدمار التقني ولا على حماية مصير الوجود, تحتاج الإنسانية اليوم إلى من ينقذها, يأخذ معنى الإنقاذ عند هايدغر التحرر من هيمنة نظام التقنية الحديثة والانقطاع عنها بوصفها اللحظة الأخيرة من البدء الأول للميتافيزيقا الغربية.
خضع الإنسان إلى مرجعية تقنية, تهيمن و تراقب إلى درجة أنه فقد السيطرة على الطبيعة, و على نفسه كذالك, هذا هو الخطر الأعظم إذن حين يفقد الإنسان الثوابت يضيعُ منه الحلْ.
لم تعد الفلسفة متحفزة على طرح سؤال مصير الوجود فهي كما يقول تحتضر في آخر رمق(10).
فهم الغرب التقنية فهما مطلقا دون مراعاة لطبيعة الإنسان و لقدراته على مواجهة أخطارها يماثل هايدغر بين خطر التقنية وخطر التطور الذي شهدته فيزياء, حيث يقول: "عندما تثير فكرة الخطر الذي تمثلها القنبلة الذرية, والخطر الأكبر الذي تمثله التقنية, يخطر على بالي ما يتطور اليوم تحت اسم الفيزياء الإحيائية, وهو أننا , خلال فترة غير بعيدة, سنكون قادرين على صنع الإنسان, أي قادرين على تركيبه, في جوهره العضوي نفسه كما نحتاج إليه: رجال ماهرون,أذكياء وحمقى".(11)
لا يعلن هايدغر عداءه للتقنية بل يدعو إلى استثمارها في مجال إنقاذ مصير الإنسان حيث يؤكد: "إنني لست ضد التقنية.فأنا لم أتكلم على الإطلاق ضد التقنية, ولا ضد ما يسمى بالطابع "الشيطاني" للتقنية.ولكنني أسعى إلى فهم جوهر التقنية".(12)
المراجع
1- مجلة الفكر العربي المعاصر محنة العقل في أفق العلم : نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة. يوسف أشلحي.
2- مارتنهيدجر: التقنية الحقيقة. الوجود، ت: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، سنة 1995 ص43
3-مارتن هيدجر: التقنية الحقيقة. الوجود، ت: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، سنة 1995 ص 44
4-مارتن هايدغر, الفن و الحقيقة, علي الحبيب الفريوي, دار الفرابي_بيروت_لبنان. ص186
5-المرجع نفسه ص 186
6-مارتن هايدغر, التقنية الحقيقة الوجود ،مرجع سابق ،ص 57
7-المرجع نفسه،ص 43
8-المرجع نفسه 46
9 - مارتن هايدغر, الفن و الحقيقة ، علي الحبيب الفريوي,دار الفرابي_بيروت_لبنان. ص 188
10-مارتن هايدغر, حوار أجري معه, مجلة العرب و الفكر العالمي, خريف 1988 بيروت_لبنان.
11-المرجع نفسه
12-المرجع نفسه