لماذا نفكر؟ بل لماذا يجب أن نفكر؟ التفكير سمة إنسانية محضة جادت بها الطبيعة على هذا الكائن، بيد أننا سنقف حائرين أمام هذا الكرم وهذا السخاء الطبيعي علينا، حيث للتفكير حدان لا يمكن أن يلتقيا، مثلما للإنسان وجهان ليس بإمكانهما العيش معا في نفس الحين، من ثمة وبقدر ما يساعدنا التفكير على حل معضلاتنا، بقدر ما يعيدنا إلى تخلف كبير، فنغدو معلقين بين السماء والأرض مصابين بلعنة التيه والفراغ.
إننا نفكر ظاهريا من أجل الانفلات من تلك التي نعتبرها مشكلات وعوائق تحد من إرادة الإنسان سعيا للتقدم الإيجابي، في نفس الوقت يأخذ هذا التفكير إرادته السلبية الساعية إلى الهيمنة واستعباد الآخرين، وعليه فمن الواجب الأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان ينحدر من الطبيعة، والحال أن هذا الانحدار يجعلنا نقف أمام جوهر الإنسان المؤمن بالبقاء للأقوى، وهذه هي باختصار قصة العلاقة بين الإنسان والعالم، لكن ما موقع التفكير من كل هذا؟
عندما نفكر نربط علاقة ثنائية، الأولى مع العالم والثانية مع الآخرين، إننا نفكر إذن سعيا في تكريس الحضور على الغياب، كما أننا نفكر طمعا في ترميم قراءاتنا السابقة حول العالم نحو الإنسان، التفكير شرط أساسي لكل تقدم سديد، ومحرك إبستيمولوجي لكل إرادات الحياة، لكن هذا الحلم ينقلب بدوره إلى كابوس عندما ترافق كل أشكال التفكير أمراضا خبيثة تحوله من محرك إلى عائق وهو الأمر الحاصل اليوم في ثقافتنا كما في إسهاماتنا.
إن للتفكير شروطا أساسية توجب تعلمها قبل الغوص فيه، ومن أولها شرط إتقان تقنية اختراق الحدود والبحث عن انفلاتات ومد جسور وتفكيك التقوقع والانسداد، التفكير زمنه زمن الانسيابات اللامتناهية وليس زمن الثنائيات، أي ثنائيات الماضي والحاضر، التذكر والنسيان، الحقيقة والخطأ... وبهذا القدر يحدث أن يصبح التفكير محركا يتعامل مع الحياة كلعبة وليس كلغز، لقد كان نيتشه يدعونا دوما إلى أن أول وسيلة للتغلب على حاكم مستبد هي السخرية أمامه، والواقع أن أغلب النصوص التي تأتي أمام أعيننا هي نصوص مستبدة، منغلقة وقطعية، أو ربما نعمل نحن كذلك على إضفاء هذا الطابع عليها من قبيل النصوص المقدسة والقانونية وكتب الفلاسفة الذين نحبهم... لهذا وتحت وطأة استبدادها نصبح عبيدا لهان وعندما يحدث هذا الأمر ينغلق التفكير فينا فيعدو أمر تجاوزها خطيئة كبيرة وشتيمة ما بعدها شتيمة.
ثقافتنا الإسلامية العربية مريضة بهذا النمط من التفكير، إنها ثقافة منغلقة تكاد تكرس منطق انغلاق القبيلة، ثقافة تخاف من التفكير المنفتح مثلما تخاف القبيلة من أحد أفرادها عندما يفكر في قول لا أو عندما يريد أن يرفض، فيحدث أن ينبذ من طرف الجميع كما يحدث أن يعود إلى الطاعة بدل تكسير عصاها، وتفكيرنا أيضا لا يستطيع أن ينفلت من تلك السلطة الأبوية التي ورثناها أبا عن جد، وجيلا عن جيل، وهو ما يجعلنا أمام تفكير منغلق وليس تفكيرا منفتحا، تفكير يجتر ما فات ويأكل فراغا يعتقد أنه الاكتمال في أرقى أشكاله، تفكير يخاف التغيير والنقد مثلما ترتهب الفريسة من مفترسها، إن أول جريمة نرتكبها في حق التفكير هي عندما نرفض الرفض، ونقبل ما يجب أن نقبل، والأدهى من ذلك هو أن هاته العدوى انطلقت من المفكر والعالم قبل العامي، فكم من دماء سالت حيث صفق لها العالِم، وكم من كتب أحرقت بإيعاز من الفقيه، وكم من تفكير أجهض برفض من خصمه.
إن التفكير في زمننا، يشبه إلى حد كبير قضية الحب في زمن الكوليرا، والواقع أن نتائج هذا التفكير التي عمرت زهاء خمسة عشر قرنا، بتنا نعيش على إيقاعها اليوم ومن حيث لا ندري، لا يعقل في كل من الأحوال أن نرث مشاكل ارتكبت قبل هاته المدة الزمنية بأسباب تافهة جدا، لكن بقتلى كثيرين جدا وجهل أكثر بذلك، علينا أن نعي أن التفكير اليوم بات جريمة يعاقب عليها القانون باسم تخطي الخطوط الحمراء الوهمية، ويدعو فيها الدين إلى القتل باسم الزندقة وضرب الملة، كما نتعثر فيها من طرف رأي العامة باسم الأغلبية العددية وليس باسم قوة العقل والمنطق والحجة المبنية بناءً متناسقا.
تفكيرنا اليوم بات تفكيرا نحو تكريس ثقافة الانصياع، وما كل انصياع إلا فيروس يضرب مستقبل ثقافتنا مثلما يهدم ذلك الجدار الصغير الذي بنيناه، ومنه فقد توجب منا التخلص من سلطة الأب المريضة التي يطبقها كل متوهم بجنون السلطة، من ثمة فإنه لا مِرية من أن قضية تحرير التفكير والتفكير المعاكس هي قضية تقدم وليس قضية فتنة مزعومة، فلنتأمل كحاصل لكل ما تقدم نتيجة غوصنا في براثن ذلك الجمود المخيم علينا، عندها سنستنتج وبكثير من الدقة الموضوعية علاقتنا المتوترة جدا بين خطابنا وممارستنا، بين إرادتنا الميتة وأحلامنا المحدودة تماما، وبين تفكيرنا المصاب بعطالة كبيرة، وثقافتنا أو بالأحرى حسنا المشترك الضارب في انحطاط مخيف.
والتفكير في نهاية الأمر هو سعي إلى الانتقال من لعبة إلى لعبة، التفكير الخلاق يؤمن بأن سر الحياة عرس وليست فضاءً نجلد فيه ذواتنا من خلاله نتطلع إلى حياة أخرى، هي أكثر وهما مما قد نعتقد، والتفكير أيضا دواء لهاته الكوليرا الجاثمة على تاريخنا وعاداتنا وأحلامنا، وعليه فغن التفكير في ومن الكوليرا قد يبدو لنا ألما من حيث الشكل، بيد أنه لعبة بسيطة من حيث الحقيقة إذا نظرنا إليه بعين الساخر وليس بتلك الجدية الرعناء.