الدين فكرة أوجدها الإنسان كإجابة عن غموض الطبيعة، والدولة كذلك فكرة صنعها نفس الإنسان، درءا لشره وابتعادا عن جشعه لصالح المصلحة العامة، بيد أن العلاقة بيم الإثنين تكاد تنفصل كي تتصل والعكس بالعكس، فلنتأمل مثلا أهم الحروب التي عرفتها الإنسانية، وأيضا أهم الكوارث التي بصمت تاريخ الإنسان، كي نستخلص أن من بين مسبباتها الكبرى إثنان لا ثالث لهما: الدين والدولة، وهو ما يبرز بالملموس غرابة هذا الكائن، مادامت رسالة كل من الدين والدولة، رسالة تروم إلى التسامح والعدالة والإنصاف، ومعاقبة كل من تتطاول يده على الآخر أو على ما يملك شرعا...
الدولة تحكم باسم القانون الوضعي، والدين يحكم باسم الحد، الدولة تستمد وجودها من مؤسساتها القانونية والمدنية، بينما يستمد الدين قوته وسلطته من السماء، لحد الساعة قد تبدو الأمور عادية جدا، لكن وبأجرأتها وقراءتها على ضوء التاريخ، قد نعثر على عديد الملاحظات التي من خلالها لم يسلم التاريخ من ذلك الصراع بين الدين والدولة، أي بين الدين والسياسة، والحال أن الجمع بينهما هو كالجمع بين النار والوقود، لسبب بسيط هو أن الدين باجتماعه والسياسة يكاد يفرغها من محتواها، فتتحول هذه الأخيرة إلى مجرد تابع لا غير، ومنه نصبح أمام دولة دين وليس أمام دين دولة.
والواقع أن الإشارة إلى هاته الثنائية الشائكة، تعيدنا إلى طرح السؤال التالي والذي بقي معلقا إلى إشعار آخر: بأي حق نُحكم، إن باسم القانون أو باسم الدين؟ لهذا كان من الأجدر الوقوف عند أكثر الأشياء إجماعا من طرف الناس، والحال أن هذا الشيء لن يكون سوى الدولة بطابعها المدني وليس بلبوسها الديني، مادام الأول تنظيم للعلاقات بين الناس والثاني تفسير للكون والعالم، ومادامت أيضا طبيعة الأول علائقية تقنية، في حين أن طبيعة الثاني روحانية صرفة، فهل يمكن للدين أن يحقق الإجماع أو شبه إجماع من طرف الناس على غرار الدولة؟
عندما تجعل دولة ما من دين واحد دينها الأساسي، تسقط لا محالة في تناقض مريب بين كونها دولة، أي فضاءً يحوي مواطنين من مختلف المشارب، بأفكارهم واعتقاداتهم وتصوراتهم حيث لا تفضيل بين هذا وذاك، وأيضا باعتبارها نظاما يتخذ من الدين الواحد دينها الرسمي، حيث نربط في مشهد سريالي بين الذي لا يقبل الربط، إن الدولة المدنية هي الدائرة المفتوحة التي تقبل اختلافات مواطنيها، حيث تؤمن بالواجب بدل الاعتقاد، وتؤمن بالمؤسسة وأثرها الإيجابي بدل إيمانها بصحة أو خطأ دين ما، بينما تعدو الدولة الدينية دائرة منغلقة على نفسها، لا تحكم بالحق والواجب، وإنما بالحلال والحرام، وهو ما يجعلها مصنعا يقبل هذا ويرفض ذاك، كما يجعل منها أيضا بؤرة لصنع التعصب، حيث تحارب باسم الدين، وتحكم ابسم الدين، وتبيع باسم الدين أيضا.
إن هذا الأمر لا يتوقف عند حد بعينه، بقدر ما يتلف طبيعة وجوهر الدين، إذ يتحول هذا الأخير إلى تبرير للتعصب، وإلى إحلال لما هو غير مشروع، فأنت ترفض شخصا بسبب أن له فكرة واعتقادا غير فكرتك واعتقادك، هو أمر غير مقبول تماما إن باسم القانون، أو باسم المنطق، لهذا فإذا كانت الدولة الدينية إقبارا للاختلاف العقدي، فالدولة المدنية هي الضامن الأول لحرية الاعتقاد، وحرية التعبير...
لا شك أن هاته الثنائية بين هذين النقيضين، تضعاننا أمام علاقة منطقية، بموجبها لَزُمَ رسم حدود فاصلة بين الدين والدولة، فأن يستمد الدين مشروعيته من قانون الدولة، يعتبر إساءة للدين نفسه حيث يصبح نصا مغلقا لا يقبل الاختلاف، وهو الشأن الذي لا يستقيم ووجود الدولة، على النقيض من ذلك إذا استغلت الدولة الدين لخذمة أغراضها الضيقة، تنتفي عنها صفة الدولة بما أن هذا الأخيرة تؤمن بما هو مدني مؤسساتي، وليس بما هو عقدي روحاني، مادام الدين لله والدولة للجميع.
والحال أن الحديث عن الدولة التي تُؤَسس على الدين الرسمي الواحد، لا يمكن لها إلا أن تعيش بعدئذ على وقع هذا الخلط غير السليم، إذ تحفر قبرها بنفسها من حيث لا تدري، وذلك عندما يتحول رعاياها إلى قنابل موقوتة ليس لها من شيء وثقافة الاختلاف، فتدمر الدولة ويتبعثر وجودها من فضاء للعيش إلى مجال لتضارب الأفكار وصراعها، والحال أنه بهذا الأمر تنتفي صفة الدولة عن الدولة، ويتحول الدين إلى مبرر للقتل بغير وجه حق.
ليس الدين هفوة في التاريخ وإلا لما أوجده الإنسان، كما ليست الدولة ترفا وكفى، إن الإنسان أو قل بعض الإنسان في حاجة للدين، لكن ليس كمصدر حكم على الآخرين، وإنما كتفسير للعالم، وربط علاقة مباشرة بين نفس الإنسان والسماء، شريطة الإيمان أن اعتقاده ليس على خطأ كما أنه ليس على صواب، معتبرا الأشخاص من مدى عطائهم وقيامهم بالواجب، بدل الوقوف عند انتماءاتهم الدينية، والإنسان أيضا في حاجة إلى الدولة المدنية كي تضمن أمنه وسلامته، وأيضا كي يقف عند معنى وجوده عبرها ومن خلالها، لهذا قد يكون من الأجدر أن تتبنى الدولة المدنية الديمقراطية، فكرة الاختلاف بين الأديان دون الانتصار لدين بعينه، كما أنه من الأنجع أن يبتعد الدين عن كل ممارسة سياسية درءا لفقدانه خاصيته الأولى والتي ليست إلا تربية الإنسان على الأخلاق السمحة بدل التعصب، وعلى التسامح بدل الإرهاب.