رغم أننا نجهل الكثير عن كتاب ومفكري إسبانيا، فنحن نعرف صاحب العمل الأدبي الرائع، دون كيخوت دولامنشا، لميغيل دي سرفانتيس. في كتابه "حياة دون كيخوته وسانتشو" يستعيد ميغيل ده أونامومنو أسطورة ذلك الرجل الفارس والمغامر، دون كيخوته، تلك الشخصية التراجيدية على الشكل الكوميدي، شخصية ترى فيها الكوميديا البشرية في عمقها المأساوي(1). يؤكد أونامونو عند استعادة هذا العمل الأدبي على أن طموحه هو بث الحياة في عمل كان وما يزال يعده الكثيرون حرفا ميتا، وتقفى أثر فلسفة بلده إسبانيا. ويشير إلى أنه ازداد اقتناعا أكثر بأن الفلسفة الإسبانية، سارية ومنبثة في الأدب والحياة والعمل والتصوف، وليس في مذاهب فلسفية، إذ أن الرواية والشعر والمسرح الإسباني، كلها أعمال تنطوي على حدس في العالم وتصور للحياة. وحتى اللغة الإسبانية، يرى أونامونو أنها تتضمن في ذاتها فلسفة. يبدو لي هذا الإعتزاز بالذات مشروع، لكن أونامونو، سيقرنه بتوق كبير في خلود النفس والحياة الأبدية، وبعملية نفي وحط من ملكة العقل وقيمة العديد من الفلاسفة، وأذكر بالأخص باروخ سبينوزا وفريديريك نيتشه وآخرين. أتوخى من هذه المتابعة، الإقامة وسط نص "فلسفي"، يعتبر من أحسن أعمال أونامونو، حسب الموسوعة الحرة ويكيبيديا، وذلك من أجل بسط مواقف هذا الكاتب من العقل وخلود النفس، ودفع القراء إلى الإنتباه إلى بعض التأويلات المغالية لآرائه وأفكاره.
أونامونو ضد الروح العلمية لعصره
يصر ميغيل ده أونامونو على تقييمه السلبي للقرن التاسع عشر، إذ يعتبر نصفه الثاني عصرا لافلسفيا ووضعيا وتقنيا وتاريخيا محضا، وعلميا وطبيعيا، عصرا في جوهره ماديا ومتشائما(2). ويؤكد على أن هذا القرن هو ترجمة للمثل الأعلى الذي أخذ يتشكل انطلاقا من عصر النهضة، مرورا بالإصلاح الديني والثورة الفرنسية، والمبني على مفاهيم التقدم والعقل والعلم والثقافة التي نزعت عن أوربا هويتها الكاثوليكية -المثل الأعلى العزيز على قلب وعاطفة أونامونو- وهي الحياة الأبدية بعد الموت. لقد حل التشاؤم في نظر أونامونو، لأن العلم لا يبعث على الرضا، ولا الثروة والمعرفة والثقافة والضمير الخلقي الحسن يساعد على تحصيل إلسعادة، ولا التقدم يبعث على الرضا أيضا. فالإنسان ما كان ليقنع بالعقلانية، ولا بالصراع الثقافي، بل كان يريد أن يضفي غاية نهائية على الحياة(3)، ممثلة في الإيمان بخلود النفس. على هذا الأساس، لا يعطي ميغيل ده أونامونو أية أهمية للعلوم ولمبتكرات عصره، كالكهرباء والقطار مثلا، فيكفي استعمالها كما تستعمل اللوغاريتمات في بلد من تصورها(4). ويدعو الإسبان إلى عدم الشعور بالنقص، أمام لوم الآخرين لهم بضعف قدرتهم العلمية وعدم امتلاكهم للروح العلمية، ويقول:" لنا مجنوننا السامي ومثالنا دون كيخوته...، كما لنا تصوفنا وفلسفتنا، فلسفة كيخوتية وكيخوتية فلسفية"(5).مقابل هذه النظرة العدمية للتاريخ ولإبداعات الإنسان، يدافع أونامونو على صيغة تدل على موقف جمالي حسب تعبيره، وهو كسب الأبدية، صيغة الموقف الديني. ذلك أننا نقفز من الجمالي والإقتصادي إلى الديني من فوق المنطقي والخلقي؛ نقفز من الفن إلى الدين(6)، يكتب أونامونو.
خلود النفس بين أونامونو وسبينوزا
هو الإنسان بينيطو اسبينوزا - يقول ميغيل ده أونامونو- ذلك اليهودي البرتغالي، الذي أكد أن ماهية كل إنسان يكون إنسانا، ما هي غير محاولة وجهد يبدل كيما يظل (كائنا) إنسانا، كيلا يموت وأننا لا نريد ألا نموت أبدا، وأن رغبتنا هذه ألا نموت هي ماهيتنا الفعلية(7). لا يتفق أونامونو مع هذا التصور الفلسفي لماهية الإنسان، كما يستبعد أن تكون حكمة الإنسان الحر "تأمل في الحياة وليس في الموت"، مادام سبينوزا يحس بأنه خاضع للموت. هكذا يعيب على هذا اليهودي المسكين المنفي في ضباب هولاندا، أن يصل إلى الإيمان قط بخلوده الشخصي، ويعلن عن موقفه من فلسفة سبينوزا قائلا: " لم تكن فلسفته كلها غير عزاء صاغه لعدم إيمانه هذا. فإذا كان يؤلم البعض يده أو قدمه أو قلبه أو رأسه، فإن اسبينوزا كان يؤلمه الله"(8). يعطي أونامونو قيمة كبرى لعالم المثال، أكثر من العالم المحسوس، عالم لا يمكن إدراكه بسهولة، لأن الوعي الإجتماعي لم يتفتق تقريبا. لذلك يدعو إلى البحث عن حواس أخرى تكون في خدمة عالم المثال. أما العالم المحسوس، والحياة بتعبير أدق، فهي رهينة الموت. في هذا السياق، يشيد أونامونو باليهود والإغريق، لأنهم اكتشفوا الموت اكتشافا حقيقيا، وهو ما أدخل الشعوب والأمم في سن البلوغ الروحي، سن الشعور المأساوي بالحياة، وذلك لما وجدت البشرية الإله الحي. واكتشاف الموت هو ما كشف لنا عن الله...، هذا الإكتشاف، اكتشاف الخلود، الذي هيأت له السيرورتان الدينيتان، اليهودية والهلينية، كان اكتشافا مسيحيا نوعيا(9). أما مذهب وحدة الوجود السبينوزي، فكان فقط إلحادا مقنعا(10). يرجع أونامونو إلى الجزء الخامس من كتاب "الإيتيقا"، ليثير مفهوم السعادة، وليس الشعور بها. فالسعادة عند سبينوزا -الذي كان عقلانيا رهيبا والأقوى منطقا والأكثر ثباتا والأتقى في أن واحد بين الملاحدة- هي مفهوم، وحب الله هو حب عقلي. وهو إذ يقرر في القضية الواحدة والعشرين أن العقل لا يستطيع أن يتصور شيئا من الأشياء الماضية، أو يتذكرها إلا مدة بقاء الجسم، وهو ما يعادل إنكار خلود النفس، لأن نفسا منفصلة عن جسم عاش فيه ثم أصبحت لا تستطيع أن تتذكر شيئا من ماضيها، ليست بخالدة ولا هي نفس، إذ يقرر ذلك يبادر إلى القول لنا في قضيته الثالثة والعشرين، إن " العقل البشري لا يمكن أن يتخرب خرابا كاملا بخراب الجسم، وإنما يظل منه شئ خالد"، وخلود العقل هذا شكل من أشكال التفكير"(11). ينبه أونامونو إلى تجنب خدعة سبينوزا هذه، التي يصفها ب"نوع من الخلود الأدنى" أي الخديعة المحضة، فلا شئ أحزن ولا أسى مضاد للحياة من هذه السعادة، من هذه الطوبى الأسبينوزية التي تكمن في حب الله حبا عقليا، وهو حب لا يعدو كونه حب الله نفسه، الحب الذي يحب به الله نفسه(القضية السادسة والثلاثون)(12). يرى أونامونو أن كلام سبينوزا عن السعادة والحرية وحب الله، ماهو إلا صوت إنسان حزين جدا وكئيب، فسبينوزا لم يكن أبدا سعيدا، لأن السعادة تعاش ولا تعقل أو تحدد. وهو يشبه في حياته هذه، حالة عقلاني آخر، لكن هذا ليس مستسلما ولا حزينا كاسبينوزا، وإنما هو متمرد ويتظاهر بالفرح رياء في حين لا يقل يأسا عن الآخر؛ هاكم نيتشه الذي اخترع بطريقة رياضية علاجا لخلود النفس سماه العود الأبدي، وهو أكثر المآسي، أو المآسي- الملهات، فظاظة(13). لا يتمالك أونامومنو نفسه، حين يعلن سبينوزا على أن الإنسان الحر لا يفكر في الموت البتة، ويرد:" إن التفكير في أني لامحالة ميت، ولغز ما بعد الموت يشكلان نبض وعيي ذاته(14). هكذا يطلب من العقلانيين التسامح مع موقفه من الموت وإيمانه بخلود النفس، لكنه يعود ليوجه جام غضبه وشتائمه إلى كل من يخالفه رأيه في الموت وفي أفق ما بعد الموت، بل يتبرأ من العلم والعقل لأنهما لا يشبعان حاجته العاطفية والإرادية ولا جوعه إلى الخلود والحياة الأبدية. كما ينصح قراءه بأن يتخلوا عن متابعته إذا كانوا يبحثون عن حجج علمية، وعن تفكير منطقي لإيمانه بالخلود، ويدعو أتباعه إلى الشعور بعدم اليقين، والإيمان العميق بالصراع بين العقل وبين الإيمان، والرغبة الحارة في حياة أبدية(15). إنه الشعور المأساوي بالحياة، أو ما يسميه أونامونو ب"التشاؤم المتعالي"(16) أو "الشفقة"(17)، التي هي لب الحب الروحي الإنساني.
أونامونو ممجدا للهزأة على العقل
يثير أونامونو الدهشة عندما يؤكد على أن المستهزؤون خصوا بالمأساة، خصوا بالجانب النبيل، ويدعو قراءه إلى البحث عن السخرية مقتفين آثار دون كيخوته(18)، الذي صار هزأة، وبتحوله إلى هزأة بلغ الخلود. ليس بالطبع كيخوته سرفانتيس، ولكن كيخوته أونامونو، الكيخوته الآخر الحقيقي الذي ظل ومازال باثا العزم فينا بنفحة منه، هذا الذي لا يهتدي ولا يرتد، وما يزال يحثنا كيما نصبح مهزئين، وهذا لا ينبغي له أن يموت. هناك علاقة بين الهزأة واليأس عند أونامونو، فالكفاح عنده ينطلق من اليأس، ذلك أنه من اليأس ومن اليأس وحده يولد الرجاء البطولي، الرجاء غير المعقول ، الرجاء المجنون(19)، الرجاء الكامل في اللامعقول العقلي، ذاك الذي يسميه أونامونو بالمجد والحياة والبقاء بعد الحياة. لذلك ينبغي لنا أن نعرف كيف نصبح هزآت، ليس فقط إزاء الآخرين، وإنما إزاء أنفسنا ذاته(20)، يؤكد صاحب الشعور المأساوي بالحياة.
تمتد غرابة أونامونو إلى موقفه من عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني وعصر الأنوار، فهو يعتبر الإصلاح المضاد الذي تزعمته الكنيسة الكاثوليكية علامة على زعامة إسبانيا في المجال الثقافي. ذلك الإصلاح الذي أدى إلى سلب روما، بحيث أنزل القدر العقاب على مدينة باباوات النهضة الوثنيين. فلولا الردة على الإصلاح الديني لما تابع هذا الإصلاح المجرى الذي اتبعه، ولا خلا من التقوية ولهلك في عقلانية عصر الأنوار الفظة(21). لكل هذا، سارع أونامونو إلى الإفتخار ببلده لأنه تولى الردة على الإصلاح، وأكد على أن جوهر الكاثوليكية الإسبانية ليس علما ولا فنا ولا أخلاقا، وإنما اقتصاد من أجل الأبدية، من أجل الألوهة(22). لقد أثارت مواقف أونامونو هذه العديد من الإنتقادات، حيث تم اتهامه بالرجعية والتحريض على الهذيان الكاثوليكي، لكنه لم يتراجع عن مواقفه، وكان يرد على كل هذه الإتهامات قائلا:" إني أحس بروحي قروسطوية، ويعجبني أن تكون روح وطني قروسطوية؛ وطن مر، في الواقع، بعصر النهضة والإصلاح الديني والثورة متعلما منها، نعم؛ لكن، من غير أن يسمح لها بأن تمس روحه محافظا على الإرث الروحي لتلك الأزمنة المسمات مظلمة(23).
إنها الرغبة الجامحة في الحط من قيمة العقل، والظفر بخلود النفس، ترجمها أونامونو من خلال حلمه الكبير بعودة عصور وسطى جديدة محالة، ثنائية، تناقضية وعاطفية، لا تسامح فيها مع العصور الحديثة ولا مع عقلانية الأنوار. فهل نقول مع جان كاسو، إننا مع أونامونو نصل إلى قاع العدمية الإسبانية؟.
الهوامش:
* ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ترجمة علي ابراهيم أشقر، منشورات وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2005.
1- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ترجمة علي ابراهيم أشقر، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2005،ص351.
2- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص355.
3- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص355.
4- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص363.
5- يقول أونامونو:" أما أين ينبغي لنا أن نبحث عن بطل فكرنا، فهو ليس عند أي فيلسوف من لحم وعظم، وإنما لدى كائن من وهم وعمل أكثر واقعية من الفلاسفة جميعا: إنه الدون كيخوته؛ لأنه توجد كيخوتية فلسفية بلا ريب، كما توجد أيضا فلسفة كيخوتية. أو تختلف عن هذه الفلسفة في الأساس فلسفة الغزاة، فلسفة حركة مناهضة الإصلاح وفلسفة لويولا وخاصة فلسفة متصوفينا في المجال الفكري المجرد، لكن المحسوس؟ أي شئ هو تصوف سان خوان ديلاكروث غير فروسية جوالة في مجال الشعورعلى الطريقة الإلهية؟ (انظر أونامونو: الشعور المأساوي للحياة، ص373).
¬6- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص361.
7- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص16
8-.ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص16.
9- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص83.
10- كان مذهبه (سبينوزا) في وحدة الوجود أكثر منطقية وأكثر عقلانية يقول أونامونو في الصفحة 117 من مؤلفه "الشعور المأساوي بالحياة"، لكن يجب الإنتياه إلى موقفه من المنطق والعقل.
11- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص127 و128.
12- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص128.
13- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص130و131. يعود أونامونو في الصفحة 131، ليشيد بعقلانية سبينوزا ونيتشه، ويؤكد على أن الرجلين لم يكونا مخصيين روحيا، بل كانا جائعين جوعا مجنونا إلى الأبدية، إلى الخلود. ويقول في الصفحة 69: "هاكم سارق القوى كما كان هو نفسه يسمي بغباء المسيح، والذي أراد أن يصالح العدمية والصراع من أجل الوجود ويحدثكم عن القوة. كان قلبه يميل به إلى الكل الخالد، بينما عقله يشير عليه بالعدم. وكان يائسا ومجنونا كيما يحمي نفسه من نفسه وملعونا مما كان يحبه أكثر ما يحب. وإذا لم يستطع أن يكون مسيحيا جدف على المسيح؛ وإذا ملئ إعجابا بنفسه أراد أن يكون بلا نهاية وحلم بالعود الأبدي، وهو محاكاة سخيفة للخلود؛ وإن ملئ شفقة عل نفسه أبغض كل شفقة".
14- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص55.
15- ميغيل ده أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص163.
16- يوضح أونامونو اختلاف تشاؤمه مع تشاؤم شوبنهاور بقوله:" كان منطقيا لو أن شوبنهاور الذي استمد تشاؤمه من مذهب الإرادة أو تشخيص كل شئ، استنبط منهما كليهما أيضا أن أساس الأخلاق شفقة لكن نقص حسه الإجتماعي التاريخي وعدم شعوره بالإنسانية أنها شخص أيضا، وإن يكن شخصا جماعيا، ثم أنانيته أخيرا، حالت بينه وبين الإحساس بالله، ومتعته من أن يفرد الإرادة الكلية والجماعية ويشخصها على أنها: إرادة العالم "(الشعور المأساوي بالحياة،ص 185).
17- أما موقف سبينوزا من الشفقة، فهي حزن وبالتالي فهي سيئة بذاتها، وغير نافعة للإنسان الذي يعيش مهتديا بالعقل (انظرباروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2009، ص278).
18- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص376
19- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص384و385.
20- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص364.
21- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص365
22- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص370. يقول أونامونو في الصفحة 371:" دون كيخوته لا يستسلم للعالم ولا للحقيقة أو للعلم أو المنطق ولا للفن ولا للجمال، ولا للسلوك الخلقي أو علم الأخلاق".
23- ميغيل دي أونامونو: الشعور المأساوي بالحياة، ص282.