إذا ما كانت الفلسفة تقوم على جزء كبير من تاريخ الفكر والمعرفة و تضطلع بالأسئلة الكبرى التي يطرحها الوعي على نفسه أو يتلقاها ‘ فإنها وفي الحين الذي تطرح فيه نفسها كمعرفة نظرية تقارب حقيقة الأشياء والموضوعات من خلال التأمل والمفهوم ‘ و تحاول الوقوف على الأسئلة المتعلقة بـــ" الله والنفس والعالم " أي الأسئلة الميتافيزيقية التي كان يراها ( كانط ) متأصلة في الطبيعية البشرية ‘ وبقدر ما تسهم به من معرفة تبين حقيقة وعمق الروح الإنسانية ‘ فإننا نجدها تثير في الوقت ذاته السؤال والاستفهام حول نفسها ‘ وذلك ابتداء من تلك اللفظة الإغريقية المركبة " فيلو صوفيا " التي تفيد محبة الحكمة و يراها ( أفلاطون ) لفظة ( غامضة جداً ) من حيث الأصل والاشتقاق ‘[1] وصولاً إلى الزمن الذي انبثقت فيه لحظة التفلسف والفلسفة من حيث هي بالتعريف الأفلاطوني لحظة لنشاط معرفي متميز ومختلف , وليس انتهاءاً بالوقوف على السؤال المتعلق بأهمية الفلسفة التي سيبنها " أرسطو " في كتابه " البرترويبتقيوس " من خلال محاولة الإجابة على السؤالين الآتين : هل من واجب الإنسان أن يتفلسف ؟ وهل لنا أن نهب أنفسنا للفلسفة ؟ [2] هذين السؤالين اللذين سيخص بهم " أرسطو " الشباب المقبلين على حياة التأمل والفلسفة والذي أراد من خلالهما أن يبين لهم ضرورتهما وما تنطوي عليه من عظيم خير ومنفعة سيوجهان بحث " أرسطو " في دعوته للفلسفة التي يقول فيها : إنها وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم (من الخطأ ) الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع . [3]
وهو إذ يتوافق في ذا و رؤية ( أفلاطون ) في التبصر الحكيم الذي يجعلنا نمعن عقلنا في الوجود . فإنه يختلف وإياه فيما يتعلق بمسألة الإمكان النظري الذي تنطوي عليه الفلسفة والذي من وجهة نظر " أرسطو " يجعلنا في إحدى صوره وأشكاله نتشبه بالإلهي أو نقترب من حقيقته " فالعقل وملكة التفكير . ويبدو أنه وحده الخالد ‘ وهو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا [4] يجعلنا ندرك تلك الغائية التي ينطبع بها وجودنا وتنطبع بها ذواتنا ‘ وهو ما يجعلنا أيضا ندرك علة العلل أي ( الله ) الذي سيخصه وحده أفلاطون " بالصوفيا " دون البشر العاجزين عنها ‘ وقادرين بالرغم من ذلك على " الفيلوصوفيا " أي قادرين لا على بلوغ ما تعنيه كلمة " صوفيا " وإنما التمرس على نيل شئ منها ‘ إذا سمحت الإلهة بذلك ولكن دون بلوغنا مرتبتهم [5] وفي مخالفة " الفيلو - صوفيا " لــ " الفيلو- سوماتوس - philo- somitas ‘ والــ " فيلو – إيدونوس - philo-edones والــ فيلو – نيكوس - philo-nikosأي الألفاظ التي تترجم إلى محبة المال والجسد واللذة[6] سيثبت أفلاطون معنى الفلسفة من حيث هي ممارسة جدلية تبتغي إيصال الفكر إلى عالم المُثل المفارق لعالمنا المادي والذي يمثل وحده عالم الحقيقة ‘ حيث ستكتسب المُثل المفارقة للعالم المادي وحدها صورة الحقيقة التي تحاكيها المحسوسات ‘ فالمحسوسات تقترب من المثال ‘ أو تحاكي المثال ‘ وهي أدنى منه مرتبة ‘ وأبعد عن الحقيقة التي سينظر إليها " أفلاطون " على أنها كشفاً شخصياً ومعرفة بالنفس من يبلغها لن يقوى على التعبير عنها بالألفاظ [7] أو حتى الكتابة التي يراها تناقض الذاكرة ‘ لا ذاكرة الحفظ والتعلم ‘ فالفيلسوف لا يتلقى معاني الحكمة ويحفظها بل يعايشها في داخله ‘ وإنما ذاكرة العالم الذي تلقينا فيه حقائق الأشياء لأول مرة و قد سبق الولادة ؛ أي ولادتنا نحن الذين إذ نتلقى المعرفة لا نفعل أكثر منه إعادة تذكرها والاقتراب منها لحظة أن نبصر المحسوسات فنتذكر المُثل وعالم الحقائق الذي عرفانه سابقاً وقبل ولادتنا " وإذ افترضت أننا فقدنا ‘ ونحن نولد ‘ ما كنا حاصلين عليه قبل الميلاد ‘ فإننا بعد أن نستخدم حواسنا مع تلك الأشياء نستعيد العلوم التي كنا حاصلين عليها بالفعل من قبل " [8] تلك الصورة التي سيرسمها " أفلاطون " للمحسوسات وجدل علاقاتها بالمُثل من حيث هي علاقة تقوم على " المحاكاة أو المشاركة أو الانفصال " والتي تتغاير وتختلف بحسب تغير رؤية أفلاطون للمُثل ذاتها ‘ لا تجعلنا نفترض أن التصور الأفلاطوني للحقيقة سيقوم على إدراكنا الحقيقة بواسطة المعرفة – التذكر الذي يقربنا من حقيقة عالم المُثل ‘ بل هو تمرين على الموت ما يراه " أفلاطون " تضلع به الفلسفة ليجعلنا أمام تلك الحقيقة المفارقة . أو الحقيقة التي تقاربها مختلف أنساق الفلسفة انطلاقاً مما تحمله وتتوفر عليه من معرفة هي بلا شك جزء من زمانها ومن الزمان الذي يرى فيه " هيغل " معين الحاجة إلى الفلسفة " التي تبعث حين تزول القدرة على التوحيد وتمحي من حياة البشر [9] فالفلسفة التي لا تطرأ في الزمان كيفما اتفق وإنما تنجم بضرورة تاريخية متى تبلغ ثقافة العصر – في وجوهها كلها – حدا من التمزق والانفصام فترتفع عنها إمكانات الوحدة والالتئام كلها [10] يقاربها " هيغل " من حيث هي ترمي الوصول إلى المطلق الذي يحرر الوعي من التقييدات ومن مختلف المفاهيم المتقابلة التي على " شاكلة الروح والمادة ‘ النفس والجسد ‘ النقل والعقل ‘ الحرية والضرورة ‘ وما سواها من المتقابلات الخاصة بمجالات أكثر تحديداً ‘ فإنما باتت مع نمو الثقافة على شاكلة المقابلة بين العقل والحاسة ‘ والفاهمة والطبيعية ‘ أو لنقل تبعا للمفهوم الكلي مقابلة الذاتية المطلقة والموضوعية المطلقة " [11] التي لا تُظهر حقيقة الوعي والحياة التي هي آصرة المتقابلات والمطلوب الأوحد للفلسفة ‘ التي وإذ تقتفي أثر المطلق فإن شرطها الأساس يبقى هو النظر التأملي والتفكر الفلسفي بوصفه يقوم " عقلاً " في مقابل " الذهن " من حيث هو يسلك فقط مسلك التحديد والتقييد ويثبت على الأطراف التي يضعها ويرسخها أطرافاً متقابلة بإطلاق [1] يريد العقل أن يتجاوزها وهو يستوضع نفسه ضد الثبيت المطلق للانفصام الذي يكون بذهنِ [13] وهو – أي العقل - إذ يلقى الوعي في الجزئيات على تردد ونكول لا يرتفع إلى النظر التأملي إلا من حيث يرتفع بذاته إلى ذاته [14] التي تسعى إلى ادرك المطلق عبر – الديالكتيك - الذي هو من طبيعتها " فالعقل الذي يتعرف إلى نفسه في الفلسفة لا ينشغل إلا بنفسه ‘ فجملة أثره وفعله إنما تكمن فيه في حد ذاته ‘ ولو نظرنا في الماهية الجوانية التي للفلسفة ‘ لبان أن ليس فيها لا سلف ولا خلف " [15] حيث تقوم على معنى المناظرة المنطقية للفلسفة ‘ التي تاريخها من تاريخية العقل نفسه [16] والتي تدنو فيها انساق الفلسفة من بعضها البعض وتتواشج ‘ فالروح الحي الذي يسكن فلسفة ما يقتضي في انكشافه أن يولد عبر روح شقيق [17] يبين الحوار بينهما الأصل المشترك الذي يجمعهما بمختلف أنساق الفلسفة ‘ و التي لا يراها " هيغل " حقه إلا بمقدار ما تتمثل العقل الديالكتيكي وتتكشفه . تلك المناظرة الحوارية - المنطقية التي يجعلها " هيغل " من طبيعية النسق الفلسفي الذي لا يقوم منفرداً وخاص – حيث أنه لا يستقيم القول بآراء خاصة بالفلسفة [18] وإذ كانت تجعلنا ننكشف على حقيقة العقل الذي يفصح عن نفسه في الوجود و الحياة ‘ هي أيضاً تدخلنا في تاريخ الفلسفة الذي يظهر فيه الفلاسفة العظام وهم يتحاورون حوار عقلياً مستمراً عبر الآلاف السنين ‘ ويحيون في مجال مشترك لا يقتصر على كونه مجال التفكير العقلي الذي يتطور فيه الإنسان ويتقدم ‘ ولا يقف عند حد المجال الذي يتجسد فيه نموذج إنسان فريد . انه مجال الفلسفة الخالدة الذي يخلق التعاون المشترك ‘ ويوحد الأطراف المتباعدة " [19] ويسعى فيه الفلاسفة إلى الكشف عن الحقيقة التي يتمثلها كل منهم انطلاقاً من واقع وتاريخ المعرفة ‘ ومن الزمان الذي ينطوي على ذلك الإمكان اللانهائي للذات ووعيها ‘ إحساسها العميق بذلك الكلي الذي لا يحضر كمقولة مجردة ‘ بل هو يتجلى في أفق الوجود دون أن يحده علم أو تحده معرفة " فهناك عالم يمثل كل ما هو دقيق ويمكن أن يتحقق فيه التقدم إلى ما لا نهاية ‘ وتتسع فيه المعارف بصورة مستمرة ‘ ويتم توصيلها إلى أفاهم الناس جميعاً ‘ ونقلها من حضارة إلى أخرى بغير تغيير . ويضم هذا العالم قدرا هائلاً من المعارف المحددة التي يمكن البرهنة على صحة محتواها ‘ كما يتفق الإجماع العام على الاعتراف بنتائجها . غير أن هذا العالم ليس هو كل العالم . فعالم المعارف الدقيقة أو الضرورية يفتقر قبل كل شئ إلى الكلية . ونحن نستطيع أن نميز فيه جوانب جزئية ‘ ولكننا لا نميز الكل أبداً ‘ اللهم إلا إذا كان كلاً نسبياً في علاقته بكل أخر ‘ لا الكل ذاته وبصورة مطلقة . أضف إلى هذا أننا لا ندرك في هذا العالم إلا بعض الوقائع الموضوعية المحددة ‘ في حين يوجد خارجها شئ أخر مختلف عنها ‘ واقصد به الذات التي تعرفها ‘ بجانب موضوعات أخرى ترتبط في علاقة معها . ثم إن هذا العالم يفتقر كذلك إلى قيمة مطلقة تهمُ وجودنا الحميم . ذلك لأنه لا يقدم أي إجابة عن الأسئلة المتعلقة بحقيقتنا الذاتية أو كينونتنا الخاصة [20] التي ليس من شأن المعرفة التجريبية ومنهجها المعتد بذاته أن يبين حقيقتها أو بتعبير أدق ليس بإمكانه أن يظهر حقيقتها و حقيقة الوجود الذي كان يراه " هيدغر " يلتفه الغموض . لذا فان الفلسفة التي ما انفكت تعنى / ترعى سؤال الوجود والموجود ‘ والتي هي من وجهة نظر " دلتاي " تتكفل بمسألة الفهم الضارب في تراث وتاريخ الإنسانية وتتجاوز المنهج لصالح الفهم الكلي . ليس يسوغ وجودها / وجوبها أكثر منه ماهيته وإضلاعها بتلك الأسئلة والمفاهيم التي تعين الإنسان على تدبر ووعي وجوده بمختلف الصور والأشكال الذي يظهر فيها .
هوامش المقال :
* يوسف أبو علفه – كاتب فلسطيني
- 1 الطيب بوعزة ‘ في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة ‘ الناشرون : مركز نماء للبحوث والدراسات ‘ بيروت ‘ ط 1 ‘ التاريخ 2012 ‘ ص [40]
2 – أرسطو : دعوة للفلسفة ‘ تقديم وتعليق ‘ عبد الغفار مكاوي ‘ الناشرون : دار التنوير ‘ بيروت ‘ ط ‘ بدون ‘ التاريخ ‘ بدون ‘ ص [34]
3 – أرسطو ، نفس المرجع ‘ ص [35 ]
4 – أرسطو ‘ نفس المرجع ‘ ص [72]
5 – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي ‘ التفكير الفلسفي ‘ الناشرون : دار توبقال للنشر ‘ الدار البيضاء ‘ ط ‘ 3 ‘ التاريخ 2008 ‘ ص [ 12 ]
6- الطيب بوعزة ، نفس المرجع ‘ ص [53 ]
7 – احمد فؤاد الأهواني ‘ أفلاطون ‘ الناشرون : دار المعارف ‘ القاهرة ‘ ط ‘ 4 ‘ التاريخ ‘ بدون ‘ ص [ 111]
8 – أفلاطون ‘ فيدون ‘ ترجمة وتقديم ‘ عزت قرني ‘ الناشرون : دار قباء ‘ القاهرة ‘ ط ‘ 3 ‘ التاريخ ‘ 2001 ‘ ص [151 ]
9 - هيغل ‘ في الفرق بين نسق فشته ونسق شلنغ في الفلسفة ‘ ترجمة وتقديم ‘ ناجي العونلي ‘ الناشرون : المنظمة العربية للترجمة ‘ بيروت ‘ ط ‘1‘ التاريخ 2007 ‘ ص [ 127]
10 – هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [65 ]
11 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [127]
12 – هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [131]
13 – هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [127]
14 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [124]
15 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [122]
16 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [122]
17 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [120 ]
18 - هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [122]
19 – كارل ياسبرز ‘ تاريخ الفلسفة بنظرة علمية ‘ ترجمة ‘ عبد الغفار مكاوي ‘ الناشرون : دار التنوير ‘ بيروت ‘ ط ‘ بدون‘ التاريخ ‘ 2007 ‘ ص [49]
20 – كارل ياسبرز ‘ نفس المرجع [45]